صفحة ٣٢٦

﴿وهْوَ الَّذِي أحْياكم ثُمَّ يُمِيتُكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾

بَعْدَ أنْ أُدْمِجَ الِاسْتِدْلالُ عَلى البَعْثِ بِالمَواعِظِ والمِنَنِ والتَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ أُعِيدَ الكَلامُ عَلى البَعْثِ هُنا بِمَنزِلَةِ نَتِيجَةِ القِياسِ، فَذُكِرَ المُلْحِدُونَ بِالحَياةِ الأُولى الَّتِي لا رَيْبَ فِيها، وبِالإماتَةِ الَّتِي لا يَرْتابُونَ فِيها، وبانَ بَعْدَ الإماتَةِ إحْياءٌ آخَرُ كَما أُخِذَ مِنَ الدَّلائِلِ السّابِقَةِ. وهَذا مَحَلُّ الِاسْتِدْلالِ، فَجُمْلَةُ ﴿وهُوَ الَّذِي أحْياكُمْ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿ويُمْسِكُ السَّماءَ﴾ [الحج: ٦٥] لِأنَّ صَدْرَ هَذِهِ مِن جُمْلَةِ النِّعَمِ فَناسَبَ أنْ تُعْطَفَ عَلى سابِقَتِها المُتَضَمَّنَةِ امْتِنانًا واسْتِدْلالًا كَذَلِكَ.

* * *

﴿إنَّ الإنْسانَ لَكَفُورٌ﴾

تَذْيِيلٌ يَجْمَعُ المَقْصِدَ مِن تَعْدادِ نِعَمِ المُنْعِمِ بِجَلائِلِ النِّعَمِ المُقْتَضِيَةِ انْفِرادَهُ بِاسْتِحْقاقِ الشُّكْرِ، واعْتِرافَ الخَلْقِ لَهُ بِوَحْدانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ.

وتَوْكِيدُ الخَبَرِ بِحَرْفِ (إنَّ) لَتَنْزِيلِهِمْ مَنزِلَةَ المُنْكِرِ أنَّهم كُفَراءُ. والتَّعْرِيفُ في (الإنْسانِ) تَعْرِيفُ الِاسْتِغْراقِ العُرْفِيِّ المُؤْذِنِ بِأكْثَرِ أفْرادِ الجِنْسِ مِن بابِ قَوْلِهِمْ: جَمَعَ الأمِيرُ الصّاغَةَ، أيْ صاغَةَ بَلَدِهِ، وقَوْلُهُ تَعالى ﴿فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ [الشعراء: ٣٨] . وقَدْ كانَ أكْثَرُ العَرَبِ يَوْمَئِذٍ مُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ، أوْ أُرِيدَ بِالإنْسانِ خُصُوصُ المُشْرِكِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ويَقُولُ الإنْسانُ أإذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا﴾ [مريم: ٦٦] .

والكَفُورُ: مُبالَغَةٌ في الكافِرِ، لِأنَّ كُفْرَهم كانَ عَنْ تَعَنُّتٍ ومُكابَرَةٍ.

صفحة ٣٢٧

ويَجُوزُ كَوْنُ الكَفُورِ مَأْخُوذًا مِن كُفْرِ النِّعْمَةِ وتَكُونُ المُبالَغَةُ بِاعْتِبارِ آثارِ الغَفْلَةِ عَنِ الشُّكْرِ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ الِاسْتِغْراقُ حَقِيقِيًّا.