﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا ومِنَ النّاسِ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾

لَمّا نَفَتِ الآياتُ السّابِقَةُ أنْ يَكُونَ لِلْأصْنامِ الَّتِي يَعْبُدُها المُشْرِكُونَ مَزِيَّةٌ في نَصْرِهِمْ بِقَوْلِهِ ﴿وما لِلظّالِمِينَ مِن نَصِيرٍ﴾ [الحج: ٧١]، وقَوْلِهِ ﴿ضَعُفَ الطّالِبُ والمَطْلُوبُ﴾ [الحج: ٧٣] ونَعى عَلى المُشْرِكِينَ تَكْذِيبَهُمُ الرَّسُولَ ﷺ بِقَوْلِهِ ﴿يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا﴾ [الحج: ٧٢]، وقَدْ كانَ مِن دَواعِي التَّكْذِيبِ أنَّهم أحالُوا أنْ يَأْتِيَهم رَسُولٌ مِنَ البَشَرِ ﴿وقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ [الأنعام: ٨]، أيْ يُصاحِبُهُ، ﴿وقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنا المَلائِكَةُ أوْ نَرى رَبَّنا﴾ [الفرقان: ٢١] أُعْقِبَ إبْطالُ أقْوالِهِمْ بِأنَّ اللَّهَ يَصْطَفِي مَن شاءَ اصْطِفاءَهُ مِنَ المَلائِكَةِ ومِنَ النّاسِ دُونَ الحِجارَةِ، وأنَّهُ يَصْطَفِيهِمْ لِيُرْسِلَهم إلى النّاسِ، أيْ لا لِيَكُونُوا شُرَكاءَ. فَلا جَرَمَ أبْطَلَ قَوْلُهُ ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا ومِنَ النّاسِ﴾ جَمِيعَ مَزاعِمِهِمْ في أصْنامِهِمْ. فالجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ. والمُناسَبَةُ ما عَلِمْتَ.

صفحة ٣٤٤

وتَقْدِيمُ المُسْنَدِ إلَيْهِ وهو اسْمُ الجَلالَةِ عَلى الخَبَرِ الفِعْلِيِّ في قَوْلِهِ ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي﴾ دُونَ أنْ يَقُولَ: يَصْطَفِي، لِإفادَةِ الِاخْتِصاصِ، أيِ اللَّهُ وحْدَهُ هو الَّذِي يَصْطَفِي لا أنْتُمْ تَصْطَفُونَ وتَنْسِبُونَ إلَيْهِ.

والإظْهارُ في مَقامِ الإضْمارِ هُنا حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: هو يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا، لِأنَّ اسْمَ الجَلالَةِ أصْلُهُ الإلَهُ، أيِ الإلَهُ المَعْرُوفُ الَّذِي لا إلَهَ غَيْرُهُ، فاشْتِقاقُهُ مُشِيرٌ إلى أنَّ مُسَمّاهُ جامِعٌ كُلَّ الصِّفاتِ العُلى تَقْرِيرًا لِلْقُوَّةِ الكامِلَةِ والعِزَّةِ القاهِرَةِ.

وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي﴾ لِأنَّ المُحِيطَ عِلْمُهُ بِالأشْياءِ هو الَّذِي يَخْتَصُّ بِالِاصْطِفاءِ. ولَيْسَ لِأهْلِ العُقُولِ مَهْما بَلَغَتْ بِهِمْ عُقُولُهم مِنَ الفِطْنَةِ والِاخْتِيارِ أنْ يَطَّلِعُوا عَلى خَفايا الأُمُورِ فَيُصْطَفَوْا لِلْمَقاماتِ العُلْيا مَن قَدْ تَخْفى عَنْهم نَقائِصُهم بَلْهَ اصْطِفاءُ الحِجارَةِ الصَّمّاءِ.

والسَّمِيعُ البَصِيرُ: كِنايَةٌ عَنْ عُمُومِ العِلْمِ بِالأشْياءِ بِحَسَبِ المُتَعارَفِ في المَعْلُوماتِ أنَّها لا تَعْدُو المَسْمُوعاتِ والمُبْصَراتِ.