﴿ثُمَّ أنْشَأْنا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ﴾ ﴿ما تَسْبِقُ مِن أُمَّةٍ أجَلَها وما يَسْتَأْخِرُونَ﴾ القُرُونُ: الأُمَمُ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٨] .

وهُمُ الأُمَمُ الَّذِينَ لَمْ تُرْسَلْ إلَيْهِمْ رُسُلٌ وبَقُوا عَلى اتِّباعِ شَرِيعَةِ نُوحٍ أوْ شَرِيعَةِ هُودٍ أوْ شَرِيعَةِ صالِحٍ. أوْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِشَرْعٍ؛ لِأنَّ الِاقْتِصارَ عَلى ذِكْرِ الأُمَمِ هُنا دُونَ ذِكْرِ الرُّسُلِ ثُمَّ ذِكْرُ الرُّسُلِ عَقِبَ هَذا يُومِئُ إلى أنَّ هَذِهِ إمّا أُمَمٌ لَمْ تَأْتِهِمْ رُسُلٌ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ تَرْكَهم عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّهم لَمْ يَتَأهَّلُوا لِقَبُولِ شَرائِعَ، أوْ لِأنَّهم كانُوا عَلى شَرائِعَ سابِقَةٍ.

وجُمْلَةُ ﴿ما تَسْبِقُ مِن أُمَّةٍ أجَلَها وما يَسْتَأْخِرُونَ﴾ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ المُتَعاطِفَةِ. وهي اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ لِما يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ أنْشَأْنا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا﴾ مِن كَثْرَتِها ولا يُؤْذِنُ بِهِ وصْفُهم بِـ (آخَرِينَ) مَن جَهْلِ النّاسِ بِهِمْ، ولِما يُؤْذِنُ بِهِ عَطْفُ جُمْلَةِ ﴿ثُمَّ أرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرى﴾ [المؤمنون: ٤٤] مِنِ انْقِراضِ هَذِهِ القُرُونِ بَعْدَ الأُمَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ قِصَّتُها آنِفًا في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أنْشَأْنا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ﴾ دُونَ أنْ تَجِيئَهم رُسُلٌ، فَكانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِمّا يُثِيرُ سُؤالَ سائِلٍ عَنْ مُدَّةِ تَعْمِيرِهِمْ ووَقْتِ انْقِراضِهِمْ. فَيُجابُ بِالإجْمالِ؛ لِأنَّ لِكُلِّ قَرْنٍ مِنهم أجَلًا عَيَّنَهُ اللَّهُ يَبْقى إلى مِثْلِهِ ثُمَّ يَنْقَرِضُ ويَخْلُفُهُ قَرْنٌ آخَرُ يَأْتِي بَعْدَهُ، أوْ يَعْمُرُ بَعْدَهُ قَرْنٌ كانَ مُعاصِرًا لَهُ، وأنَّ ما عُيِّنَ لِكُلِّ قَرْنٍ لا يَتَقَدَّمُهُ ولا يَتَأخَّرُ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أجَلٌ إذا جاءَ أجَلُهم فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [يونس: ٤٩] .

صفحة ٦١

والسَّبْقُ: تَجاوُزُ السّائِرِ وتَرْكُهُ مُسائِرَهُ خَلْفَهُ، وعَكْسُهُ التَّأخُّرُ. والمَعْنى واضِحٌ. والسِّينُ والتّاءُ في (يَسْتَأْخِرُونَ) زائِدَتانِ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ: اسْتَجابَ. وضَمِيرُ (يَسْتَأْخِرُونَ) عائِدٌ إلى (أُمَّةٍ) بِاعْتِبارِ النّاسِ.