﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكامًا فَتَرى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِن خِلالِهِ ويُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِن جِبالٍ فِيها مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشاءُ ويَصْرِفُهُ عَنْ مَن يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصارِ﴾

أعْقَبَ الدَّلالَةَ عَلى إعْطاءِ الهُدى في قَوانِينِ الإلْهامِ في العَجْماواتِ بِالدَّلالَةِ عَلى خَلْقِ الخَصائِصِ في الجَمادِ بِحَيْثُ تَسِيرُ عَلى السَّيْرِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ لَها سَيْرًا لا يَتَغَيَّرُ، فَهي بِذَلِكَ أهْدى مِن فَرِيقِ الكافِرِينَ الَّذِينَ لَهم عُقُولٌ وحَواسٌّ لا يَهْتَدُونَ بِها إلى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى والنَّظَرِ في أدِلَّتِها، وفي ذَلِكَ دَلالَةٌ عَلى عِظَمِ القُدْرَةِ وسَعَةِ العِلْمِ ووَحْدانِيَّةِ التَّصَرُّفِ. وهَذا اسْتِدْلالٌ بِنِظامِ بَعْضِ حَوادِثِ الجَوِّ حَتّى آلَ إلى قَوْلِهِ: ﴿فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشاءُ ويَصْرِفُهُ عَمَّنْ﴾ .

وقَدْ حَصَلَ مِن هَذا حُسْنُ التَّخَلُّصِ لِلِانْتِقالِ إلى الِاسْتِدْلالِ عَلى عِظَمِ القُدْرَةِ وسُمُوِّ الحِكْمَةِ وسَعَةِ العِلْمِ الإلَهِيِّ.

و(يُزْجِي): يَسُوقُ. يُقالُ: أزْجى الإبِلَ إزْجاءً.

وأُطْلِقَ الإزْجاءُ عَلى دُنُوِّ بَعْضِ السَّحابِ مِن بَعْضٍ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعالى الشَّبِيهِ بِالسَّوْقِ حَتّى يَصِيرَ سَحابًا كَثِيفًا، فانْضِمامُ بَعْضِ السَّحابِ إلى بَعْضٍ عَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّأْلِيفِ بَيْنَ أجْزائِهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾ إلَخْ.

صفحة ٢٦١

وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى السَّحابِ في سُورَةِ البَقَرَةِ في قَوْلِهِ: ﴿والسَّحابُ المُسَخَّرُ﴾ [البقرة: ١٦٤] وفي أوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ.

ودَخَلَتْ (بَيْنَ) عَلى ضَمِيرِ السَّحابِ؛ لِأنَّ السَّحابَ ذُو أجْزاءٍ كَقَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ:

بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

أيْ يُؤَلِّفُ بَيْنَ السَّحاباتِ مِنهُ.

والرُّكامُ: مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّكْمِ. والرَّكْمُ: الجَمْعُ والضَّمُّ. ووَزْنُ فُعالٍ وفُعالَةٍ يَدُلُّ عَلى مَعْنى المَفْعُولِ. فالرُّكامُ بِمَعْنى المَرْكُومِ كَما جاءَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ يَرَوْا كِسَفًا مِنَ السَّماءِ ساقِطًا يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ﴾ [الطور: ٤٤] في سُورَةِ الطُّورِ.

فَإذا تَراكَمَ السَّحابُ بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ حَدَثَ فِيهِ ما يُسَمّى في عِلْمِ حَوادِثِ الجَوِّ بِالسِّيالِ الكَهْرَبائِيِّ وهو البَرْقُ. فَقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: هو الوَدْقُ. وأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ الوَدْقَ هو المَطَرُ، وهو الَّذِي اقْتَصَرَتْ عَلَيْهِ دَواوِينُ اللُّغَةِ، والمَطَرُ يَخْرُجُ مِن خِلالِ السَّحابِ.

والخِلالُ: الفُتُوقُ، جَمْعُ خَلَلٍ كَجَبَلٍ وجِبالٍ. وتَقَدَّمَ (خِلالَ الدِّيارِ) في سُورَةِ الإسْراءِ.

ومَعْنى (يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ) يُسْقِطُ مِن عُلُوٍّ إلى سُفْلٍ، أيْ يُنَزِّلُ مِن جَوِّ السَّماءِ إلى الأرْضِ. والسَّماءُ: الجَوُّ الَّذِي فَوْقَ جِهَةِ الأرْضِ.

وقَوْلُهُ: (مِن جِبالٍ) بَدَلٌ مِنَ (السَّماءِ) بِإعادَةِ حَرْفِ الجَرِّ العامِلِ في المُبْدَلِ مِنهُ وهو بَدَلُ بَعْضٍ؛ لِأنَّ المُرادَ بِالجِبالِ سَحابٌ أمْثالُ الجِبالِ.

وإطْلاقُ الجِبالِ في تَشْبِيهِ الكَثْرَةِ مَعْرُوفٌ، يُقالُ: فُلانٌ جَبَلُ عِلْمٍ، وطَوْدُ عِلْمٍ. وفي حَدِيثِ البُخارِيِّ مِن طَرِيقِ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَوْ كانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبا لَسَرَّنِي أنْ لا تَمُرَّ عَلَيَّ ثَلاثُ لَيالٍ وعِنْدِي مِنهُ شَيْءٌ إلّا شَيْئًا أرْصُدُهُ لِدَيْنٍ» أيْ: ما كانَ يَسُرُّنِي، فالكَلامُ بِمَعْنى النَّفْيِ، أيْ لَما سَرَّنِي، أوْ لَما كانَ سَرَّنِي إلَخْ. .

صفحة ٢٦٢

وحَرْفُ (مِن) الأوَّلِ لِلِابْتِداءِ، و(مِن) الثّانِي كَذَلِكَ و(مِن) في قَوْلِهِ: (مِن بَرْدٍ) مَزِيدَةٌ في الإثْباتِ عَلى رَأْيِ الَّذِينَ جَوَّزُوا زِيادَةَ (مِن) في الإثْباتِ. أوْ تَكُونُ (مِن) اسْمًا بِمَعْنى بَعْضٍ.

ومَفْعُولُ (يُنَزِّلُ) مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿فِيها مِن بَرَدٍ﴾ . والتَّقْدِيرُ: يُنَزِّلُ بَرَدًا.

ووُقُوعُ (مِن) زائِدَةً لِقَصْدِ مُشاكَلَةِ قَوْلِهِ: (﴿مِن جِبالٍ﴾) .

وقَوْلُهُ: ﴿فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشاءُ﴾ جَعَلَ نُزُولَ البَرْدِ إصابَةً؛ لِأنَّ الإصابَةَ إذا أُطْلِقَتْ في كَلامِهِمْ دَلَّتْ عَلى أنَّها حُلُولٌ مَكْرُوهٌ. ومِن ذَلِكَ سُمِّيَتِ المُصِيبَةُ الحادِثَةُ المَكْرُوهَةُ. وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ [التوبة: ٥٠]؛ فَلِأنَّ قَوْلَهُ: (حَسَنَةٌ) قَرِينَةٌ عَلى إطْلاقِ الإصابَةِ عَلى مُطْلَقِ الحُدُوثِ إمّا مَجازًا مُرْسَلًا وإمّا مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا أوْ مُشْتَرَكًا مَعْنَوِيًّا، فَإنَّ (أصابَ) مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّوْبِ وهو النُّزُولُ ومِنهُ صَوْبُ المَطَرِ، فَجَعَلَ نُزُولَ البَرَدِ إصابَةً؛ لِأنَّهُ يُفْسِدُ الزَّرْعَ والثَّمَرَةَ، فَضَمِيرُ (بِهِ) لِلْبَرْدِ.

وجُمْلَةُ ﴿يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصارِ﴾ وصْفٌ لِـ (سَحابًا) . وضَمِيرُ (بَرْقِهِ) عائِدٌ إلى (سَحابًا) . وفائِدَةُ هَذِهِ الصِّفَةِ تَنْبِيهُ العُقُولِ إلى التَّدَبُّرِ في هَذِهِ التَّغَيُّراتِ إذْ كانَ شُعُورُ النّاسِ بِحُدُوثِ البَرْقِ أوْضَحَ وأكْثَرَ مِن شُعُورِهِمْ بِتَكَوُّنِ السَّحابِ وتَراكُمِهِ ونُزُولِ المَطَرِ والبَرَدِ، إذْ قَدْ يَغْفَلُ النّاسُ عَنْ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ حُدُوثِهِ وتَعَوُّدِهِمْ بِهِ بِخِلافِ اشْتِدادِ البَرْقِ، فَإنَّهُ لا يَخْلُو أحَدٌ مِن أنْ يَكُونَ قَدْ عَرَضَ لَهُ مَرّاتٍ، فَإنَّ أصْحابَ الأبْصارِ الَّتِي حَرَّكَها خَفْقُ البَرْقِ يَتَذَكَّرُونَ تِلْكَ الحالَةَ العَجِيبَةَ الدّالَّةَ عَلى القُدْرَةِ. ولِهَذِهِ النُّكْتَةِ خُصِّصَتْ هَذِهِ الحالَةُ مِن أحْوالِ البَرْقِ بِالذِّكْرِ.

والسَّنا مَقْصُورًا: ضَوْءُ البَرْقِ وضَوْءُ النّارِ. وأمّا السَّناءُ المَمْدُودُ فَهو الرِّفْعَةُ. قالَ ابْنُ دُرَيْدٍ في أبْياتٍ لَهُ في مُتَشابِهِ المَقْصُورِ والمَمْدُودِ:

زالَ السَّنا عَنْ ناظِرَيْهِ ∗∗∗ وزالَ عَنْ شَرَفِ السَّناءِ

صفحة ٢٦٣

ولامُ التَّعْرِيفِ في (الأبْصارِ) لامُ الحَقِيقَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصارِ﴾ وهو كَقَوْلِهِ في سُورَةِ البَقَرَةِ: ﴿يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصارَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٠] سِوى أنْ هَذِهِ الآيَةَ زِيدَ فِيها لَفَظُ سَنا؛ لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ وارِدَةٌ في مَقامِ الِاعْتِبارِ بِتَكْوِينِ السَّحابِ وإنْزالِ الغَيْثِ، فَكانَ المَقامُ مُقْتَضِيًا لِلتَّنْوِيهِ بِهَذا البَرْقِ وشِدَّةِ ضِيائِهِ حَتّى يَكُونَ الِاعْتِبارُ بِأمْرَيْنِ: بِتَكْوِينِ البَرْقِ في السَّحابِ، وبِقُوَّةِ ضِيائِهِ حَتّى يَكادَ يَذْهَبُ بِالأبْصارِ، وآيَةُ البَقَرَةِ وارِدَةٌ في مَقامِ التَّهْدِيدِ والتَّشْوِيهِ لِحالِهِمْ حِينَ كانُوا مُظْهِرِينَ الإسْلامَ ومُنْطَوِينَ عَلى الكُفْرِ والجُحُودِ فَكانَتْ حالُهم كَحالَةِ الغَيْثِ المُشْتَمِلِ عَلى صَواعِقَ ورَعْدٍ وبَرْقٍ فَظاهِرُهُ مَنفَعَةٌ، وفي باطِنِهِ قَوارِعُ ومَصائِبُ.

ومِن أجْلِ اخْتِلافِ المَقامَيْنِ وُضِعَ التَّعْبِيرُ هُنا بِـ (﴿يَذْهَبُ بِالأبْصارِ﴾) وهُنالِكَ بِقَوْلِهِ: (﴿يَخْطَفُ أبْصارَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٠])؛ لِأنَّ في الخَطْفِ مِن مَعْنى النِّكايَةِ بِهِمْ والتَّسَلُّطِ عَلَيْهِمْ ما لَيْسَ في (يَذْهَبُ) إذْ هو مُجَرَّدُ الِاسْتِلابِ.

وأمّا التَّعْبِيرُ هُنا بِـ (الأبْصارِ) مُعَرَّفًا بِاللّامِ فَلِأنَّ المَقْصُودَ أنَّ البَرْقَ مُقارِبٌ أنْ يُزِيلَ طائِفَةً مِن جِنْسِ الأبْصارِ؛ إذِ اللّامُ هُنا لامُ الحَقِيقَةِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿أنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ﴾ [يوسف: ١٣] وقَوْلُهم: ادْخُلِ السُّوقَ؛ لِأنَّ الحُكْمَ عَلى حالَةِ البَرْقِ الشَّدِيدِ مِن حَيْثُ هي. بِخِلافِ آيَةِ البَقَرَةِ فَإنَّها في مَقامِ التَّوْبِيخِ لَهم بِأنَّ ما شَأْنُهُ أنْ يَنْتَفِعَ النّاسُ بِهِ قَدْ أشْرَفَ عَلى الضُّرِّ بِهِمْ، فَلِذَلِكَ ذَكَرَ لَفْظَ أبْصارٍ مُضافًا إلى ضَمِيرِهِمْ مَعَ ما في هَذا التَّخالُفِ مَن تَفْنَيْنِ الكَلامِ الواحِدِ عَلى أفانِينَ مُخْتَلِفَةٍ حَتّى لا يَكُونَ الكَلامُ مُعادًا، وإنْ كانَ المَعْنى مُتَّحِدًا ولا تَجِدُ حَقَّ الإيجازِ فائِتًا، فَإنَّ هَذَيْنِ الكَلامَيْنِ في حَدِّ التَّساوِي في الحَرْفِ والنُّطْقِ. وهَكَذا نَرى بَلاغَةَ القُرْآنِ وإعْجازَهُ وحَلاوَةَ نَظْمِهِ.

وقَرَأ الجُمْهُورُ (يَذْهَبُ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وفَتْحِ الهاءِ، فالباءُ لِلتَّعْدِيَةِ، أيْ يُذْهِبُ الأبْصارَ. وقَرَأهُ أبُو جَعْفَرٍ وحْدَهُ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وكَسْرِ الهاءِ فَتَكُونُ الباءُ مَزِيدَةً لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ مِثْلُ ﴿وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ [المائدة: ٦] .