Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿ولَمّا ورَدَ ماءَ مَدْيَنَ وجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ ووَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وأبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ ﴿فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلّى إلى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إنِّي لِما أنْزَلْتَ إلَيَّ مِن خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾
يَدُلُّ قَوْلُهُ ﴿ولَمّا ورَدَ ماءَ مَدْيَنَ﴾ أنَّهُ بَلَغَ أرْضَ مَدْيَنَ، وذَلِكَ حِينَ ورَدَ ماءَهم. والوُرُودُ هُنا مَعْناهُ الوُصُولُ والبُلُوغُ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وإنْ مِنكم إلّا وارِدُها﴾ [مريم: ٧١] . والمُرادُ بِالماءِ مَوْضِعُ الماءِ. وماءُ القَوْمِ هو الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ دِيارُهم؛ لِأنَّ القَبائِلَ كانَتْ تَقْطُنُ عِنْدَ المِياهِ وكانُوا يُكَنُّونَ عَنْ أرْضِ القَبِيلَةِ بِماءِ بَنِي فُلانٍ، فالمَعْنى: ولَمّا ورَدَ، أيْ عِنْدَما بَلَغَ بِلادَ مَدْيَنَ.
ويُناسِبُ الغَرِيبَ إذا جاءَ دِيارَ قَوْمٍ أنْ يَقْصِدَ الماءَ؛ لِأنَّهُ مُجْتَمَعُ النّاسِ فَهُنالِكَ يَتَعَرَّفُ لِمَن يُصاحِبُهُ ويُضِيفُهُ.
و”لَمّا“ حَرْفُ تَوْقِيتِ وُجُودِ شَيْءٍ بِوُجُودِ غَيْرِهِ، أيْ عِنْدَما حَلَّ بِأرْضِ مَدْيَنَ وجَدَ أُمَّةً.
صفحة ٩٩
والأُمَّةُ: الجَماعَةُ الكَثِيرَةُ العَدَدِ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً﴾ [البقرة: ٢١٣] في البَقَرَةِ. وحُذِفَ مَفْعُولُ ”يَسْقُونَ“ لِتَعْمِيمِ ما شَأْنُهُ أنْ يُسْقى وهو الماشِيَةُ والنّاسُ، ولِأنَّ الغَرَضَ لا يَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ المَسْقِيِّ، ولَكِنْ بِما بَعْدَهُ مِنِ انْزِواءِ المَرْأتَيْنِ عَنِ السَّقْيِ كَما في الكَشّافِ تَبَعًا لِدَلائِلِ الإعْجازِ، فَيَكُونُ مِن تَنْزِيلِ الفِعْلِ المُتَعَدِّي مَنزِلَةَ اللّازِمِ، أوِ الحَذْفُ هُنا لِلِاخْتِصارِ كَما اخْتارَهُ السَّكّاكِيُّ، وأيَّدَهُ شارِحاهُ السَّعْدُ والسَّيِّدُ. وأمّا حَذْفُ مَفاعِيلِ ”تَذُودانِ“ و”لا نَسْقِي“، ”فَسَقى لَهُما“ فَيَتَعَيَّنُ فِيها ما ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّيْخانِ. وأمّا ما ذَهَبَ إلَيْهِ صاحِبُ المِفْتاحِ وشارِحاهُ فَشَيْءٌ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ في القُرْآنِ حَتّى يُقَدَّرَ مَحْذُوفٌ، وإنَّما اسْتِفادَةُ كَوْنِهِما تَذُودانِ غَنَمًا مَرْجِعُها إلى كُتُبِ الإسْرائِيلِيِّينَ.ومَعْنى ”مِن دُونِهِمْ“ في مَكانٍ غَيْرِ المَكانِ الَّذِي حَوْلَ الماءِ، أيْ في جانِبٍ مُباعِدٍ لِلْأُمَّةِ مِنَ النّاسِ؛ لِأنَّ حَقِيقَةَ كَلِمَةِ ”دُونَ“ أنَّها وصْفٌ لِلشَّيْءِ الأسْفَلِ مِن غَيْرِهِ. وتَتَفَرَّعُ مِن ذَلِكَ مَعانٍ مَجازِيَّةٌ مُخْتَلِفَةُ العَلاقاتِ، ومِنها ما وقَعَ في هَذِهِ الآيَةِ. فَـ ”دُونَ“ بِمَعْنى جِهَةٍ يَصِلُ إلَيْها المَرْءُ بَعْدَ المَكانِ الَّذِي فِيهِ السّاقُونَ. شَبَّهَ المَكانَ الَّذِي يَبْلُغُ إلَيْهِ الماشِيَ بَعْدَ مَكانٍ آخَرَ بِالمَكانِ الأسْفَلِ مِنَ الآخَرِ كَأنَّهُ يَنْزِلُ إلَيْهِ الماشِي؛ لِأنَّ المَشْيَ يُشَبَّهُ بِالصُّعُودِ وبِالهُبُوطِ بِاخْتِلافِ الِاعْتِبارِ.
ويُحْذَفُ المَوْصُوفُ بِـ ”دُونَ“ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ فَيَصِيرُ ”دُونَ“ بِمَنزِلَةِ ذَلِكَ الِاسْمِ المَحْذُوفِ.
وحَرْفُ (مِن) مَعَ (دُونَ) يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِلظَّرْفِيَّةِ مِثْلِ ﴿إذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ﴾ [الجمعة: ٩] . ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى ”عِنْدَ“، وهو مَعْنًى أثْبَتَهُ أبُو عُبَيْدَةَ في قَوْلِهِ تَعالى: (﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهم أمْوالُهم ولا أوْلادُهم مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [آل عمران: ١٠]) . والمَعْنى: ووَجَدَ امْرَأتَيْنِ في جِهَةٍ مُبْتَعِدَةٍ عَنْ جِهَةِ السّاقِينَ.
و”تَذُودانِ“ تَطْرُدانِ. وحَقِيقَةُ الذَّوْدِ طَرْدُ الأنْعامِ عَنِ الماءِ؛ ولِذَلِكَ سَمُّوا القَطِيعَ مِنَ الإبِلِ الذَّوْدَ فَلا يُقالُ: ذُدْتُ النّاسَ، إلّا مَجازًا مُرْسَلًا، ومِنهُ قَوْلُهُ في الحَدِيثِ «فَلَيُذادَنَّ أقْوامٌ عَنْ حَوْضِي» الحَدِيثَ.
والمَعْنى في الآيَةِ: تَمْنَعانِ إبِلًا عَنِ الماءِ. وفي التَّوْراةِ: أنَّ شُعَيْبًا كانَ صاحِبَ
صفحة ١٠٠
غَنَمٍ وأنَّ مُوسى رَعى غَنَمَهُ. فَيَكُونُ إطْلاقُ ”تَذُودانِ“ هُنا مَجازًا مُرْسَلًا، أوْ تَكُونُ حَقِيقَةُ الذَّوْدِ طَرْدُ الأنْعامِ كُلِّها عَنْ حَوْضِ الماءِ. وكَلامُ أيِمَّةِ اللُّغَةِ غَيْرُ صَرِيحٍ في تَبْيِينِ حَقِيقَةِ هَذا. وفي سِفْرِ الخُرُوجِ: أنَّها كانَتْ لَهُما غَنَمٌ، والذَّوْدُ لا يَكُونُ إلّا لِلْماشِيَةِ. والمَقْصُودُ مِن حُضُورِ الماءِ بِالأنْعامِ سَقْيُها. فَلَمّا رَأى مُوسى المَرْأتَيْنِ تَمْنَعانِ أنْعامَهُما مِنَ الشُّرْبِ سَألَهُما: ما خَطْبُكُما ؟ وهو سُؤالٌ عَنْ قِصَّتِهِما وشَأْنِهِما إذْ حَضَرا الماءَ ولَمْ يَقْتَحِما عَلَيْهِ لِسَقْيِ غَنَمِهِما.وجُمْلَةُ ”قالَ ما خَطْبُكُما“ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن جُمْلَةِ ﴿ووَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودانِ﴾ .
والخَطْبُ: الشَّأْنُ والحَدَثُ المُهِمُّ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿قالَ ما خَطْبُكُنَّ إذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ﴾ [يوسف: ٥١]، فَأجابَتا بِأنَّهُما كَرِهَتا أنْ تَسْقِيا في حِينِ اكْتِظاظِ المَكانِ بِالرِّعاءِ، وأنَّهُما تَسْتَمِرّانِ عَلى عَدَمِ السَّقْيِ كَما اقْتَضاهُ التَّعْبِيرُ بِالمُضارِعِ إلى أنْ يَنْصَرِفَ الرِّعاءُ.
والرِّعاءُ: جَمْعُ راعٍ.
والإصْدارُ: الإرْجاعُ عَنِ السَّقْيِ، أيْ حَتّى يَسْقِيَ الرِّعاءُ ويُصْدِرُوا مَواشِيَهم، فالإصْدارُ جَعْلُ الغَيْرِ صادِرًا، أيْ حَتّى يَذْهَبَ رِعاءُ الإبِلِ بِأنْعامِهِمْ فَلا يَبْقى الزِّحامُ. وصَدُّهُما عَنِ المُزاحَمَةِ عادَتُهُما كانَتا ذَواتَيْ مُرُوءَةٍ وتَرْبِيَةٍ زَكِيَّةٍ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ (يُصْدِرَ) بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الدّالِّ. وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ وأبُو عَمْرٍو وأبُو جَعْفَرٍ (يَصْدُرَ) بِفَتْحِ حَرْفِ المُضارَعَةِ وضَمِّ الدّالِّ عَلى إسْنادِ الصَّدْرِ إلى الرِّعاءِ، أيْ حَتّى يَرْجِعُوا عَنِ الماءِ، أيْ بِمَواشِيهِمْ؛ لِأنَّ وصْفَ الرِّعاءِ يَقْتَضِي أنَّ لَهم مَواشِيَ، وهَذا يَقْتَضِي أنَّ تِلْكَ عادَتُهُما كُلَّ يَوْمِ سَقْيٍ، ولَيْسَ في اللَّفْظِ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ عادَةٌ.
وكانَ قَوْلُهُما ﴿وأبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ اعْتِذارًا عَنْ حُضُورِهِما لِلسَّقْيِ مَعَ الرِّجالِ لِعَدَمِ وِجْدانِهِما رَجُلًا يَسْتَقِي لَهُما؛ لِأنَّ الرَّجُلَ الوَحِيدَ لَهُما هو أبُوهُما، وهو شَيْخٌ كَبِيرٌ لا يَسْتَطِيعُ وُرُودَ الماءِ لِضَعْفِهِ عَنِ المُزاحَمَةِ.
صفحة ١٠١
واسْمُ المَرْأتَيْنِ (لَيّا) و(صَفُّورَةُ) . وفي سِفْرِ الخُرُوجِ: أنَّ أباهُما كاهِنُ مَدْيَنَ. وسَمّاهُ في ذَلِكَ السِّفْرِ أوَّلَ مَرَّةٍ رَعْوِيلَ، ثُمَّ أعادَ الكَلامَ عَلَيْهِ فَسَمّاهُ يَثْرُونَ، ووَصَفَهُ بِحَمِيِّ مُوسى، فالمُسَمّى واحِدٌ. وقالَ ابْنُ العِبْرِيِّ في تارِيخِهِ: يَثْرُونُ بْنُ رَعْوِيلَ لَهُ سَبْعُ بَناتٍ خَرَجَ لِلسَّقْيِ مِنهُما اثْنَتانِ، فَيَكُونُ شُعَيْبٌ هو المُسَمّى عِنْدَ اليَهُودِ يَثْرُونَ. والتَّعْبِيرُ عَنِ النَّبِيءِ بِالكاهِنِ اصْطِلاحٌ.؛ لِأنَّ الكاهِنَ يُخْبِرُ عَنِ الغَيْبِ، ولِأنَّهُ يُطْلَقُ عَلى القائِمِ بِأُمُورِ الدِّينِ عِنْدَ اليَهُودِ. ولِلْجَزْمِ بِأنَّهُ شُعَيْبٌ الرَّسُولُ جَعَلَ عُلَماؤُنا ما صَدَرَ مِنهُ في هَذِهِ القِصَّةَ شَرْعًا سابِقًا، فَفَرَّعُوا عَلَيْهِ مَسائِلَ مَبْنِيَّةً عَلى أصْلِ: أنَّ شَرْعَ مَن قَبْلَنا مِنَ الرُّسُلِ الإلَهِيِّينَ شَرْعٌ لَنا ما لَمْ يَرِدْ ناسِخٌ. ومِنها مُباشَرَةُ المَرْأةِ الأعْمالَ والسَّعْيُ في طُرُقِ المَعِيشَةِ، ووُجُوبُ اسْتِحْيائِها، ووِلايَةُ الأبِ في النِّكاحِ، وجَعْلُ العَمَلِ البَدَنِيِّ مَهْرًا، وجَمْعُ النِّكاحِ والإجارَةِ في عَقْدٍ واحِدٍ، ومَشْرُوعِيَّةُ الإجارَةِ. وقَدِ اسْتَوْفى الكَلامَ عَلَيْها القُرْطُبِيُّ. وفي أدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ الإسْلامِيَّةِ غُنْيَةٌ عَنِ الِاسْتِنْباطِ مِمّا في هَذِهِ الآيَةِ إلّا أنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأحْكامِ لا يُوجَدُ دَلِيلُهُ في القُرْآنِ، فَفي هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلٌ لَها مِنَ الكِتابِ عِنْدَ القائِلِينَ بِأنَّ شَرْعَ مَن قَبْلَنا شَرْعٌ لَنا.وفِي إذْنِهِ لِابْنَتَيْهِ بِالسَّقْيِ دَلِيلٌ عَلى جَوازِ مُعالَجَةِ المَرْأةِ أُمُورَ مالِها وظُهُورِها في مَجامِعِ النّاسِ إذا كانَتْ تَسْتُرُ ما يَجِبُ سَتْرُهُ، فَإنَّ شَرْعَ مَن قَبْلَنا شَرْعٌ لَنا إذا حَكاهُ شَرْعُنا ولَمْ يَأْتِ مِن شَرْعِنا ما يَنْسَخُهُ. وأمّا تَحاشِي النّاسِ مِن نَحْوِ ذَلِكَ فَهو مِنَ المُرُوءَةِ، والنّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِيما تَقْتَضِيهِ المُرُوءَةُ والعاداتُ، مُتَبايِنَةٌ فِيهِ، وأحْوالُ الأُمَمِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ، وخاصَّةً ما بَيْنَ أخْلاقِ البَدْوِ والحَضَرِ مِنَ الِاخْتِلافِ.
ودُخُولُ (لَمّا) التَّوْقِيتِيَّةُ يُؤْذِنُ بِاقْتِرانِ وُصُولِهِ بِوُجُودِ السّاقِينَ. واقْتِرانُ فِعْلِ (سَقى) بِالفاءِ يُؤْذِنُ بِأنَّهُ بادَرَ فَسَقى لَهُنَّ، وذَلِكَ بِفَوْرِ وُرُودِهِ.
ومَعْنى ”فَسَقى لَهُما“ أنَّهُ سَقى ما جِئْنَ لِيَسْقِينَهُ لِأجْلِهِما، فاللّامُ لِلْأجْلِ، أيْ لا يَدْفَعُهُ لِذَلِكَ إلّا هُما، أيْ رَأْفَةً بِهِما وغَوْثًا لَهُما. وذَلِكَ مِن قُوَّةِ مُرُوءَتِهِ أنِ اقْتَحَمَ ذَلِكَ العَمَلَ الشّاقَّ عَلى ما هو عَلَيْهِ مِنَ الإعْياءِ عِنْدَ الوُصُولِ.
والتَّوَلِّي: الرُّجُوعُ عَلى طَرِيقِهِ، وذَلِكَ يُفِيدُ أنَّهُ كانَ جالِسًا مِن قَبْلُ في ظِلٍّ فَرَجَعَ إلَيْهِ. ويَظْهَرُ أنَّ ”تَوَلّى“ مُرادِفُ (ولّى) ولَكِنَّ زِيادَةَ المَبْنى مِن شَأْنِها أنْ تَقْتَضِيَ
صفحة ١٠٢
زِيادَةَ المَعْنى، فَيَكُونُ ”تَوَلّى“ أشَدَّ مِن (ولّى)، وقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ”ولّى مُدْبِرًا“ في سُورَةِ النَّمْلِ.وقَدْ أعْقَبَ إيواءَهُ إلى الظِّلِّ بِمُناجاتِهِ رَبَّهُ إذْ قالَ ﴿رَبِّ إنِّي لِما أنْزَلْتَ إلَيَّ مِن خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ . لَمّا اسْتَراحَ مِن مَشَقَّةِ المَتْحِ والسَّقْيِ لِماشِيَةِ المَرْأتَيْنِ، والِاقْتِحامِ بِها في عَدَدِ الرِّعاءِ العَدِيدِ، ووَجَدَ بَرْدَ الظِّلِّ تَذَكَّرَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ نِعَمًا سابِقَةً أسْداها اللَّهُ إلَيْهِ مِن نَجاتِهِ مِنَ القَتْلِ، وإيتائِهِ الحِكْمَةَ والعِلْمَ، وتَخْلِيصِهِ مِن تَبِعَةِ قَتْلِ القِبْطِيِّ، وإيصالِهِ إلى أرْضٍ مَعْمُورَةٍ بِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ، بَعْدَ أنْ قَطَعَ فَيافِيَ ومُفازاتٍ، تَذَكَّرَ جَمِيعَ ذَلِكَ وهو في نِعْمَةِ بَرْدِ الظِّلِّ والرّاحَةِ مِنَ التَّعَبِ، فَجاءَ بِجُمْلَةٍ جامِعَةٍ لِلشُّكْرِ والثَّناءِ والدُّعاءِ وهي ﴿إنِّي لِما أنْزَلْتَ إلَيَّ مِن خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ . والفَقِيرُ: المُحْتاجُ فَقَوْلُهُ ﴿إنِّي لِما أنْزَلْتَ إلَيَّ مِن خَيْرٍ﴾ شُكْرٌ عَلى نِعَمٍ سَلَفَتْ.
وقَوْلُهُ ﴿إنِّي لِما أنْزَلْتَ إلَيَّ مِن خَيْرٍ﴾ ثَناءٌ عَلى اللَّهِ بِأنَّهُ مُعْطِي الخَيْرِ.
والخَيْرُ: ما فِيهِ نَفْعٌ ومُلاءَمَةٌ لِمَن يَتَعَلَّقُ هو بِهِ فَمِنهُ خَيْرُ الدُّنْيا ومِنهُ خَيْرُ الآخِرَةِ الَّذِي قَدْ يُرى في صُورَةِ مَشَقَّةٍ فَإنَّ العِبْرَةَ بِالعَواقِبِ، قالَ تَعالى ﴿ولا تُعْجِبْكَ أمْوالُهم وأوْلادُهم إنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُعَذِّبَهم بِها في الدُّنْيا وتَزْهَقَ أنْفُسُهم وهم كافِرُونَ﴾ [التوبة: ٨٥] وقَدْ أرادَ النَّوْعَيْنِ كَما يَرْمُزُ إلى ذَلِكَ التَّعْبِيرُ عَنْ إيتائِهِ الخَيْرَ بِفِعْلِ ”أنْزَلْتَ“ المُشْعِرِ بِرِفْعَةِ المُعْطى.
فَأوَّلُ ذَلِكَ إيتاءُ الحِكْمَةِ والعِلْمِ.
ومِنَ الخَيْرِ إنْجاؤُهُ مِنَ القَتْلِ، وتَرْبِيَتُهُ الكامِلَةُ في بِذْخَةِ المُلْكِ وعِزَّتِهِ، وحِفْظُهُ مِن أنْ تَتَسَرَّبَ إلَيْهِ عَقائِدُ العائِلَةِ الَّتِي رُبِّيَ فِيها فَكانَ مُنْتَفِعًا بِمَنافِعِها مُجَنَّبًا رَذائِلَها وأضْرارَها. ومِنَ الخَيْرِ أنْ جَعَلَ نَصْرَ قَوْمِهِ عَلى يَدِهِ، وأنْ أنْجاهُ مِنَ القَتْلِ الثّانِي ظُلْمًا، وأنْ هَداهُ إلى مَنجًى مِنَ الأرْضِ، ويَسَّرَ لَهُ التَّعْرِيفَ بِبَيْتِ نُبُوءَةٍ، وأنْ آواهُ إلى ظِلٍّ.
و(ما) مِن قَوْلِهِ ”لِما أنْزَلْتَ إلَيَّ“ مَوْصُولَةٌ كَما يَقْتَضِيهِ فِعْلُ المُضِيِّ في قَوْلِهِ ”أنْزَلْتَ“؛ لِأنَّ الشَّيْءَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيما مَضى صارَ مَعْرُوفًا غَيْرَ نَكِرَةٍ، فَقَوْلُهُ ”ما
صفحة ١٠٣
أنْزَلْتَ إلَيَّ“ بِمَنزِلَةِ المُعَرَّفِ بِلامِ الجِنْسِ لِتُلائِمَ قَوْلَهُ ”فَقِيرٌ“ أيْ فَقِيرٌ لِذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الخَيْرِ، أيْ لِأمْثالِهِ.وأحْسَنُ خَيْرٍ لِلْغَرِيبِ وُجُودُ مَأْوًى لَهُ يَطْعَمُ فِيهِ ويَبِيتُ، وزَوْجَةٌ يَأْنَسُ إلَيْها ويَسْكُنُ.
فَكانَ اسْتِجابَةُ اللَّهِ لَهُ بِأنْ ألْهَمَ شُعَيْبًا أنْ يُرْسِلَ وراءَهُ لِيُنْزِلَهُ عِنْدَهُ ويُزَوِّجَهُ بِنْتَهُ، كَما أشْعَرَتْ بِذَلِكَ فاءُ التَّعْقِيبِ في قَوْلِهِ ”فَجاءَتْهُ إحْداهُما“ .