﴿وما كُنْتَ بِجانِبِ الغَرْبِيِّ إذْ قَضَيْنا إلى مُوسى الأمْرَ وما كُنْتَ مِنَ الشّاهِدِينَ﴾ لَمّا بَطَلَتْ شُبْهَتُهُمُ الَّتِي حاوَلُوا بِها إحالَةَ رِسالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ نُقِلَ الكَلامُ إلى إثْباتِ رِسالَتِهِ بِالحُجَّةِ الدّامِغَةِ؛ وذَلِكَ بِما أعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِن أخْبارِ رِسالَةِ

صفحة ١٣٠

مُوسى مِمّا لا قِبَلَ لَهُ بِعِلْمِهِ لَوْلا أنَّ ذَلِكَ وحْيٌ إلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعالى. فَهَذا تَخَلُّصٌ مِنَ الِاعْتِبارِ بِدَلالَةِ الِالتِزامِ في قِصَّةِ مُوسى إلى الصَّرِيحِ مِن إثْباتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ .

وجِيءَ في الِاسْتِدْلالِ بِطَرِيقَةِ المَذْهَبِ الكَلامِيِّ حَيْثُ بُنِيَ الِاسْتِدْلالُ عَلى انْتِفاءِ كَوْنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَوْجُودًا في المَكانِ الَّذِي قَضى اللَّهُ فِيهِ أمْرَ الوَحْيِ إلى مُوسى، لِيَنْتَقِلَ مِنهُ إلى أنَّ مِثْلَهُ ما كانَ يَعْمَلُ ذَلِكَ إلّا عَنْ مُشاهَدَةٍ؛ لِأنَّ طَرِيقَ العِلْمِ بِغَيْرِ المُشاهَدَةِ لَهُ مَفْقُودٌ مِنهُ ومِن قَوْمِهِ، إذْ لَمْ يَكُونُوا أهْلَ مَعْرِفَةٍ بِأخْبارِ الرُّسُلِ، كَما كانَ أهْلُ الكِتابِ، فَلَمّا انْتَفى طَرِيقُ العِلْمِ المُتَعارَفِ لِأمْثالِهِ تَعَيَّنَ أنَّ طَرِيقَ عِلْمِهِ هو إخْبارُ اللَّهِ تَعالى إيّاهُ بِخَبَرِ مُوسى.

ولَمّا كانَ قَوْلُهُ ﴿وما كُنْتَ بِجانِبِ الغَرْبِيِّ﴾ نَفْيًا لِوُجُودِهِ هُناكَ، وحُضُورِهِ تَعَيَّنَ أنَّ المُرادَ مِنَ الشّاهِدِينَ أهْلُ الشَّهادَةِ، أيِ الخَبَرِ اليَقِينِ، وهم عُلَماءُ بَنِي إسْرائِيلَ؛ لِأنَّهُمُ الَّذِينَ أشْهَدَهُمُ اللَّهُ عَلى التَّوْراةِ وما فِيها، ألا تَرى أنَّهُ ذَمَّهم بِكَتْمِهِمْ بَعْضَ ما تَتَضَمَّنُهُ التَّوْراةُ مِنَ البِشارَةِ بِالنَّبِيِّ ﷺ بِقَوْلِهِ ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٤٠] . والمَعْنى ما كُنْتَ مِن أهْلِ ذَلِكَ الزَّمَنِ ولا مِمَّنْ تَلَقّى أخْبارَ ذَلِكَ بِالخَبَرِ اليَقِينِ المُتَواتِرِ مِن كُتُبِهِمْ يَوْمَئِذٍ فَتَعَيَّنَ أنَّ طَرِيقَ عِلْمِكَ بِذَلِكَ وحْيُ اللَّهِ تَعالى.

والأمْرُ المَقْضِيُّ: هو أمْرُ النُّبُوءَةِ لِمُوسى إذْ تَلَقّاها مُوسى.

وقَوْلُهُ ﴿بِجانِبِ الغَرْبِيِّ﴾ هو مِن إضافَةِ المَوْصُوفِ إلى صِفَتِهِ، وأصْلُهُ بِالجانِبِ الغَرْبِيِّ، وهو كَثِيرٌ في الكَلامِ العَرَبِيِّ، وإنْ أنْكَرَهُ نُحاةُ البَصْرَةِ، وأكْثَرُوا مِنَ التَّأْوِيلِ، والحَقُّ جَوازُهُ.

والجانِبُ الغَرْبِيُّ هو الَّذِي ذُكِرَ آنِفًا بِوَصْفِ شاطِئِ الوادِ الأيْمَنِ أيْ عَلى بَيْتِ القِبْلَةِ.