﴿أفَمَن وعَدْناهُ وعْدًا حَسَنًا فَهْوَ لاقِيهِ كَمَن مَتَّعْناهُ مَتاعَ الحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هْوَ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ﴾ أحْسَبُ أنَّ مَوْقِعَ فاءِ التَّفْرِيعِ هُنا أنَّ مِمّا أوْمَأ إلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿وما أُوتِيتُمْ مِن شَيْءٍ فَمَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ [القصص: ٦٠] ما كانَ المُشْرِكُونَ يَتَبَجَّحُونَ بِهِ عَلى المُسْلِمِينَ مِن وفْرَةِ الأمْوالِ ونَعِيمِ التَّرَفِ حِينَ كانَ مُعْظَمُ المُسْلِمِينَ فُقَراءَ ضُعَفاءَ، قالَ تَعالى ”وإذا انْقَلَبُوا إلى

صفحة ١٥٥

أهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فاكِهِينَ“ أيْ مُنَعَّمِينَ، وقالَ ﴿وذَرْنِي والمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ومَهِّلْهم قَلِيلًا﴾ [المزمل: ١١] فَيَظْهَرُ مِن آياتِ القُرْآنِ أنَّ المُشْرِكِينَ كانَ مِن دَأْبِهِمُ التَّفاخُرُ بِما هم فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ قالَ تَعالى ﴿واتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وكانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [هود: ١١٦] وقالَ ﴿وارْجِعُوا إلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ﴾ [الأنبياء: ١٣] فَلَمّا أنْبَأهُمُ اللَّهُ بِأنَّ ما هم فِيهِ مِنَ التَّرَفِ إنْ هو إلّا مَتاعٌ قَلِيلٌ، قابَلَ ذَلِكَ بِالنَّعِيمِ الفائِقِ الخالِدِ الَّذِي أعَدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ، وهي تُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ تَحْقِيقَ مَعْنى الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها؛ لِأنَّ الثّانِيَةَ زادَتِ الأُولى بَيانًا، بِأنَّ ما أُوتُوهُ زائِلٌ زَوالًا مُعَوَّضًا بِضِدِّ المَتاعِ والزِّينَةِ، وذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿ثُمَّ هو يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ﴾ .

فَماصَدَقَ (مَن) الأُولى هُمُ الَّذِينَ وعَدَهُمُ اللَّهُ الوَعْدَ الحَسَنَ وهُمُ المُؤْمِنُونَ، وماصَدَقَ (مَن) الثّانِيَةِ جَمْعٌ هُمُ الكافِرُونَ. والِاسْتِفْهامُ مُسْتَعْمَلٌ في إنْكارِ المُشابَهَةِ والمُماثَلَةِ الَّتِي أفادَها كافُ التَّشْبِيهِ، فالمَعْنى أنَّ الفَرِيقَيْنِ لَيْسُوا سَواءً إذْ لا يَسْتَوِي أهْلُ نَعِيمٍ عاجِلٍ زائِلٍ وأهْلُ نَعِيمٍ آجِلٍ خالِدٍ.

وجُمْلَةُ ”فَهو لاقِيهِ“ مُعْتَرِضَةٌ لِبَيانِ أنَّهُ وعْدٌ مُحَقَّقٌ، والفاءُ لِلتَّسَبُّبِ.

وجُمْلَةُ ”ثُمَّ هو“ إلَخْ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿مَتَّعْناهُ مَتاعَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ فَهي مِن تَمامِ صِلَةِ المَوْصُولِ. و”ثُمَّ“ لِلتَّراخِي الرُّتْبِيِّ لِبَيانِ أنَّ رُتْبَةَ مَضْمُونِها في الخَسارَةِ أعْظَمُ مِن مَضْمُونِ الَّتِي قَبِلَها، أيْ لَمْ تَقْتَصِرْ خَسارَتُهم عَلى حِرْمانِهِمْ مِن نَعِيمِ الآخِرَةِ بَلْ تَجاوَزَتْ إلى التَّعْوِيضِ بِالعَذابِ الألِيمِ.

ومَعْنى ”مِنَ المُحْضَرِينَ“ أنَّهُ مِنَ المُحْضَرِينَ لِلْجَزاءِ عَلى ما دَلَّ عَلَيْهِ التَّوْبِيخُ في ”أفَلا تَعْقِلُونَ“ . والمُقابَلَةُ في قَوْلِهِ ﴿أفَمَن وعَدْناهُ وعْدًا حَسَنًا﴾ المُقْتَضِيَةُ أنَّ الفَرِيقَ المُعَيَّنَ مَوْعُودُونَ بِضِدِّ الحَسَنِ، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقَ ”المُحْضَرِينَ“ اخْتِصارًا كَما حُذِفَ في قَوْلِهِ ﴿ولَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ المُحْضَرِينَ﴾ [الصافات: ٥٧] وقَوْلِهِ ﴿فَكَذَّبُوهُ فَإنَّهم لَمُحْضَرُونَ إلّا عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ﴾ [الصافات: ١٢٧] .