﴿فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكافِرِينَ﴾ ﴿ولا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إذْ أُنْزِلَتْ إلَيْكَ وادْعُ إلى رَبِّكَ ولا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾

تَفْرِيعٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ﴾ [القصص: ٨٥]، وما عُطِفَ عَلَيْها، وما تَخَلَّلَ

صفحة ١٩٥

بَيْنَهُما مِمّا اقْتَضى جَمِيعُهُ الوَعْدَ بِنَصْرِهِ وظُهُورِ أمْرِهِ وفَوْزِهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وأنَّهُ جاءَ مِنَ اللَّهِ إلى قَوْمٍ هم في ضَلالٍ مُبِينٍ، وأنَّ الَّذِي رَحِمَهُ فَآتاهُ الكِتابَ عَلى غَيْرِ تَرَقُّبٍ مِنهُ لا يَجْعَلُ أمْرَهُ سُدًى، فَأعْقَبَ ذَلِكَ بِتَحْذِيرِهِ مِن أدْنى مُظاهَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ، فَإنَّ فِعْلَ الكَوْنِ لَمّا وقَعَ في سِياقِ النَّهْيِ وكانَ سِياقُ النَّهْيِ مِثْلَ سِياقِ النَّفْيِ لِأنَّ النَّهْيَ أخُو النَّفْيِ في سائِرِ تَصارِيفِ الكَلامِ - كانَ وُقُوعُ فِعْلِ الكَوْنِ في سِياقِهِ مُفِيدًا تَعْمِيمَ النَّهْيِ عَنْ كُلِّ كَوْنٍ مِن أكْوانِ المُظاهَرَةِ لِلْمُشْرِكِينَ.

والظَّهِيرُ: المُعِينُ، والمُظاهَرَةُ: المُعاوَنَةُ، وهي مَراتِبُ أعْلاها النُّصْرَةُ، وأدْناها المُصانَعَةُ والتَّسامُحُ؛ لِأنَّ في المُصانَعَةِ عَلى المَرْغُوبِ إعانَةً لِراغِبِهِ، فَلَمّا شَمِلَ النَّهْيُ جَمِيعَ أكْوانِ المُظاهَرَةِ لَهُمُ - اقْتَضى النَّهْيُ عَنْ مُصانَعَتِهِمْ والتَّسامُحِ مَعَهم، وهو يَسْتَلْزِمُ الأمْرَ بِضِدِّ المُظاهَرَةِ، فَيَكُونُ كِنايَةً عَنِ الأمْرِ بِالغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ كَصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ٧٣] . وهَذا المَعْنى يُناسِبُ كَوْنَ الآياتِ آخَرَ ما نَزَلَ قَبْلَ الهِجْرَةِ، وبَعْدَ مُتارَكَتِهِ المُشْرِكِينَ ومُغادَرَتِهِ البَلَدَ الَّذِي يَعْمُرُونَهُ.

وقِيلَ: النَّهْيُ لِلتَّهْيِيجِ لِإثارَةِ غَضَبِ النَّبِيءِ ﷺ عَلَيْهِمْ وتَقْوِيَةِ داعِي شِدَّتِهِ مَعَهم. ووَجْهُ تَأْوِيلِ النَّهْيِ بِصَرْفِهِ عَنْ ظاهِرِهِ أوْ عَنْ بَعْضِ ظاهِرِهِ هو أنَّ المَنهِيَّ عَنْهُ لا يُفْرَضُ وُقُوعُهُ مِنَ الرَّسُولِ ﷺ حَتّى يَنْهى عَنْهُ، فَكانَ ذَلِكَ قَرِينَةً عَلى أنَّهُ مُئَوَّلٌ.

وتَوْجِيهُ النَّهْيِ إلَيْهِ عَنْ أنْ يَصُدُّوهُ عَنْ آياتِ اللَّهِ في قَوْلِهِ: ﴿ولا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ﴾ كِنايَةٌ عَنْ نَهْيِهِ عَنْ أنْ يَتَقَبَّلَ مِنهم ما فِيهِ صَدٌّ عَنْ آياتِ اللَّهِ، كَما يَقُولُ العَرَبُ: لا أعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذا، كَنَّوْا بِهِ عَنْ أنَّهُ لا يَفْعَلُهُ، فَيَعْرِفَ المُتَكَلِّمُ النّاهِي فِعْلَهُ. والمَقْصُودُ: تَحْذِيرُ المُسْلِمِينَ مِنَ الرُّكُونِ إلى الكافِرِينَ في شَيْءٍ مِن شُئُونِ الإسْلامِ، فَإنَّ المُشْرِكِينَ يُحاوِلُونَ صَرْفَ المُسْلِمِينَ عَنْ سَماعِ القُرْآنِ ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرْآنِ والغَوْا فِيهِ لَعَلَّكم تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت: ٢٦] .

وقِيلَ: هو لِلتَّهْيِيجِ أيْضًا، وتَأْوِيلُ هَذا النَّهْيِ آكَدُ مِن تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكافِرِينَ﴾ .

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ النَّهْيُ في ﴿لا يَصُدُّنَّكَ﴾ نَهْيَ صِرْفَةٍ كَما كانَ الأمْرُ في قَوْلِهِ:

صفحة ١٩٦

﴿فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا﴾ [البقرة: ٢٤٣] أمْرَ تَكْوِينٍ، فالمَعْنى: أنَّ اللَّهَ قَدْ ضَمِنَ لِرَسُولِهِ صَرْفَ المُشْرِكِينَ عَنْ أنْ يَصُدُّوهُ عَنْ آياتِ اللَّهِ، وذَلِكَ إذْ حالَ بَيْنَهُ وبَيْنَهم بِأنْ أمَرَهُ بِالهِجْرَةِ ويَسَّرَها لَهُ ولِلْمُسْلِمِينَ مَعَهُ.

والتَّقْيِيدُ بِالبَعْدِيَّةِ في قَوْلِهِ: ﴿بَعْدَ إذْ أُنْزِلَتْ إلَيْكَ﴾ لِتَعْلِيلِ النَّهْيِ أيًّا ما كانَ المُرادُ مِنهُ، أيْ لا يَجُوزُ أنْ يَصُدُّوكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إذْ أنْزَلَها إلَيْكَ، فَإنَّهُ ما أنْزَلَها إلَيْكَ إلّا لِلْأخْذِ بِها ودَوامِ تِلاوَتِها، فَلَوْ فُرِضَ أنْ يَصُدُّوكَ عَنْها لَذَهَبَ إنْزالُها إلَيْكَ بُطْلًا وعَبَثًا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ﴾ [البقرة: ٢١٣] .

والأمْرُ في قَوْلِهِ: ﴿وادْعُ إلى رَبِّكَ﴾ مُسْتَعْمَلٌ في الأمْرِ بِالدَّوامِ عَلى الدَّعْوَةِ إلى اللَّهِ لا إلى إيجادِ الدَّعْوَةِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ حاصِلٌ، أيْ لا يَصْرِفُكَ إعْراضُ المُشْرِكِينَ عَنْ إعادَةِ دَعْوَتِهِمْ إعْذارًا لَهم.

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الدُّعاءُ مُسْتَعْمَلًا في الأكْمَلِ مِن أنْواعِهِ، أيْ أنَّكَ بَعْدَ الخُرُوجِ مِن مَكَّةَ أشَدُّ تَمَكُّنًا في الدَّعْوَةِ إلى اللَّهِ مِمّا كُنْتَ مِن قَبْلُ؛ لِأنَّ تَشْغِيبَ المُشْرِكِينَ عَلَيْهِ كانَ يُرَنِّقُ صَفاءَ تَفَرُّغِهِ لِلدَّعْوَةِ.

وجَمِيعُ هَذِهِ النَّواهِي والأوامِرِ داخِلَةٌ في حَيِّزِ التَّفْرِيعِ بِالفاءِ في قَوْلِهِ: ﴿فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكافِرِينَ﴾ .

أمّا قَوْلُهُ: ﴿ولا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ فَإنْ حُمِلَتْ ”مِن“ فِيهِ عَلى مَعْنى التَّبْعِيضِ كانَ النَّهْيُ مُئَوَّلًا يُمَثِّلُ ما أوَّلُوا بِهِ النَّهْيَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ أنَّهُ لِلتَّهْيِيجِ، أوْ أنَّ المَقْصُودَ بِهِ المُسْلِمُونَ.