﴿فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إلّا أنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أوْ حَرِّقُوهُ فَأنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النّارِ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾

لَمّا تَمَّ الِاعْتِراضُ الواقِعُ في خِلالِ قِصَّةِ إبْراهِيمَ عادَ الكَلامُ إلى بَقِيَّةِ القِصَّةِ بِذِكْرِ ما أجابَهُ بِهِ قَوْمُهُ.

والفاءُ تَفْرِيعٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿إذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ [العنكبوت: ١٦] .

وجِيءَ بِصِيغَةِ حَصْرِ الجَوابِ في قَوْلِهِ: ﴿اقْتُلُوهُ أوْ حَرِّقُوهُ﴾ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهم لَمْ يَتَرَدَّدُوا في جَوابِهِ وكانَتْ كَلِمَتُهم واحِدَةً في تَكْذِيبِهِ وإتْلافِهِ، وهَذا مِن تَصَلُّبِهم في كُفْرِهِمْ.

ثُمَّ تَرَدَّدُوا في طَرِيقِ إهْلاكِهِ بَيْنَ القَتْلِ بِالسَّيْفِ والإتْلافِ بِالإحْراقِ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ أمْرُهم عَلى إحْراقِهِ لِما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النّارِ﴾ . و﴿جَوابَ قَوْمِهِ﴾ خَبَرُ ”كانَ“، واسْمُها ﴿أنْ قالُوا﴾ . وغالِبُ الِاسْتِعْمالِ أنْ يُؤَخَّرَ اسْمُها إذا كانَ ”أنْ“ المَصْدَرِيَّةُ وصِلَتُها كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما كانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذا دُعُوا إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهم أنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وأطَعْنا﴾ [النور: ٥١] في آخِرِ سُورَةِ النُّورِ؛ ولِذَلِكَ لَمْ يُقْرَأْ الِاسْمُ المُوالِي لِفِعْلِ الكَوْنِ في أمْثالِها في غَيْرِ القِراءاتِ الشّاذَّةِ إلّا مَنصُوبًا.

وقَدْ أُجْمِلَ إنْجاؤُهُ مِنَ النّارِ هُنا، وهو مُفَصَّلٌ في سُورَةِ الأنْبِياءِ.

والإشارَةُ بِـ ذَلِكَ إلى الإنْجاءِ مِن ﴿فَأنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النّارِ﴾، وجُعِلَ ذَلِكَ

صفحة ٢٣٥

الإنْجاءُ آياتٍ ولَمْ يُجْعَلْ آيَةً واحِدَةً؛ لِأنَّهُ آيَةٌ لِكُلِّ مَن شَهِدَهُ مِن قَوْمِهِ؛ ولِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى قُدْرَةِ اللَّهِ، وكَرامَةِ رَسُولِهِ، وتَصْدِيقِ وعْدِهِ، وإهانَةِ عَدُّوِهِ، وأنَّ المَخْلُوقاتِ كُلَّها جَلِيلَها وحَقِيرَها مُسَخَّرَةٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى.

وجِيءَ بِلَفْظِ ”قَوْمٍ يُؤْمِنُونَ“ لِيَدُلَّ عَلى أنَّ إيمانَهم مُتَمَكِّنٌ مِنهم ومِن مُقَوِّماتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ في سُورَةِ البَقَرَةِ. فَذَلِكَ آياتٌ عَلى عَظِيمِ عِنايَةِ اللَّهِ تَعالى بِرُسُلِهِ فَصَدَّقَ أهْلُ الإيمانِ في مُخْتَلِفِ العُصُورِ. فَفي قَوْلِهِ: ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ تَعْرِيضٌ بِأنَّ تِلْكَ الآياتِ لَمْ يُصَدِّقْ بِها قَوْمُ إبْراهِيمَ؛ لِشِدَّةِ مُكابَرَتِهِمْ وكَوْنِ الإيمانِ لا يُخالِطُ عُقُولَهم.