﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أوْلِياءَ كَمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وإنَّ أوْهَنَ البِيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾

لَمّا بُيِّنَتْ لَهُمُ الأشْباهُ والأمْثالُ مِنَ الأُمَمِ الَّتِي اتَّخَذَتِ الأصْنامَ مِن دُونِ اللَّهِ فَما أغْنَتْ عَنْهم أصْنامُهم لَمّا جاءَهم عَذابُ اللَّهِ - أعْقَبَ ذَلِكَ بِضَرْبِ المَثَلِ لِحالِ جَمِيعِ أُولَئِكَ وحالِ مَن ماثَلَهم مِن مُشْرِكِي قُرَيْشٍ في اتِّخاذِهِمْ ما يَحْسَبُونَهُ دافِعًا عَنْهم وهو أضْعَفُ مِن أنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ - بِحالِ العَنْكَبُوتِ تَتَّخِذُ لِنَفْسِها بَيْتًا تَحْسَبُ أنَّها تَعْتَصِمُ بِهِ مِنَ المُعْتَدِي عَلَيْها، فَإذا هو لا يَصْمُدُ ولا يَثْبُتُ لِأضْعَفِ تَحْرِيكٍ، فَيَسْقُطُ ويَتَمَزَّقُ. والمَقْصُودُ بِهَذا الكَلامِ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ، وتُعْلَمُ مُساواةُ غَيْرِهِمْ لَهم في ذَلِكَ بِدَلالَةِ لَحْنِ الخِطابِ، والقَرِينَةُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: ”﴿إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾ [العنكبوت: ٤٢]“ فَضَمِيرُ اتَّخَذُوا عائِدٌ إلى مَعْلُومٍ مِن سِياقِ الكَلامِ وهم مُشْرِكُو قُرَيْشٍ.

وجُمْلَةُ اتَّخَذَتْ بَيْتًا حالٌ مِنَ العَنْكَبُوتِ وهي قَيْدٌ في التَّشْبِيهِ. وهَذِهِ الهَيْئَةُ المُشَبَّهُ بِها مَعَ الهَيْئَةِ المُشَبَّهَةِ قابِلَةٌ لِتَفْرِيقِ التَّشْبِيهِ عَلى أجْزائِها، فالمُشْرِكُونَ أشْبَهُوا العَنْكَبُوتَ في الغُرُورِ بِما أعَدُّوهُ، وأوْلِياؤُهم أشْبَهُوا بَيْتَ العَنْكَبُوتِ في عَدَمِ الغَناءِ عَمَّنِ اتَّخَذُوها وقْتَ الحاجَةِ إلَيْها، وتَزُولُ بِأقَلِّ تَحْرِيكٍ، وأقْصى ما يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنها نَفْعٌ ضَعِيفٌ، وهو السُّكْنى فِيها وتَوَهُّمُ أنْ تَدْفَعَ عَنْهم كَما يَنْتَفِعُ المُشْرِكُونَ بِأوْهامِهِمْ في أصْنامِهِمْ. وهو تَمْثِيلٌ بَدِيعٌ مِن مُبْتَكَراتِ القُرْآنِ كَما سَيَأْتِي قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ: وتِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ في هَذِهِ السُّورَةِ.

والعَنْكَبُوتُ: صِنْفٌ مِنَ الحَشَراتِ ذاتُ بُطُونٍ وأرْجُلٍ، وهي ثَلاثَةُ أصْنافٍ، مِنها صِنْفٌ يُسَمّى لَيْثَ العَناكِبِ، وهو الَّذِي يَفْتَرِسُ الذُّبابَ، وكُلُّها تَتَّخِذُ لِأنْفُسِها نَسِيجًا تَنْسِجُهُ مِن لُعابِها يَكُونُ خُيُوطًا مَشْدُودَةً بَيْنَ طَرَفَيْنِ مِنَ الشَّجَرِ أوِ

صفحة ٢٥٣

الجُدْرانِ، وتَتَّخِذُ في وسَطِ تِلْكَ الخُيُوطِ جانِبًا أغْلَظَ وأكْثَرَ اتِّصالَ خُيُوطٍ تَحْتَجِبُ فِيهِ وتُفَرِّخُ فِيهِ. وسُمِّيَ بَيْتًا لِشَبَهِهِ بِالخَيْمَةِ في أنَّهُ مَنسُوجٌ ومَشْدُودٌ مِن أطْرافِهِ، فَهو كَبَيْتِ الشِّعْرِ.

وجُمْلَةُ ﴿وإنَّ أوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ﴾ مُعْتَرِضَةٌ مُبِيِّنَةٌ وجْهَ الشَّبَهِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ تَجْرِي مَجْرى المِثْلِ فَيُضْرَبُ لِقِلَّةِ جَدْوى شَيْءٍ، فاقْتَضى ذَلِكَ أنَّ الأدْيانَ الَّتِي يَعْبُدُ أهْلُها غَيْرَ اللَّهِ هي أحْقَرُ الدِّياناتِ وأبْعَدُها عَنِ الخَيْرِ والرُّشْدِ، وإنْ كانَتْ مُتَفاوِتَةً فِيما يَعْرِضُ لِتِلْكَ العِباداتِ مِنَ الضَّلالاتِ كَما تَتَفاوَتُ بُيُوتُ العَنْكَبُوتِ في غِلَظِها بِحَسَبِ تَفاوُتِ الدُّوَيْبّاتِ الَّتِي تَنْسِجُها في القُوَّةِ والضَّعْفِ.

وجُمْلَةُ ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ مُتَّصِلَةٌ بِجُمْلَةِ ﴿كَمَثَلِ العَنْكَبُوتِ﴾ لا بِجُمْلَةِ ﴿وإنَّ أوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ﴾ . فَتَقْدِيرُ جَوابِ لَوْ هَكَذا: ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ أنَّ ذَلِكَ مَثَلُهم، أيْ ولَكِنَّهم لا يَعْلَمُونَ انْعِدامَ غَناءِ ما اتَّخَذُوهُ عَنْهم. وأمّا أوْهَنِيَّةُ بَيْتِ العَنْكَبُوتِ فَلا يَجْهَلُها أحَدٌ.