﴿وتِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وما يَعْقِلُها إلّا العالِمُونَ﴾

بَعْدَ أنْ بَيَّنَ اللَّهُ لَهم فَسادَ مُعْتَقَدِهِمْ في الأصْنامِ، وأعْقَبَهُ بِتَوْقِيفِهِمْ عَلى جَهْلِهِمْ بِذَلِكَ، نَعى عَلَيْهِمْ هُنا أنَّهم لَيْسُوا بِأهْلٍ لِتَفَهُّمِ تِلْكَ الدَّلائِلِ الَّتِي قُرِّبَتْ إلَيْهِمْ بِطَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ، فاسْمُ الإشارَةِ يُبَيِّنُهُ الِاسْمُ المُبْدَلُ مِنهُ وهو الأمْثالُ.

صفحة ٢٥٦

والإشارَةُ إلى حاضِرٍ في الأذْهانِ، فَإنَّ كُلَّ مَن سَمِعَ القُرْآنَ حَصَلَ في ذِهْنِهِ بَعْضُ تِلْكَ الأمْثالِ. واسْمُ الإشارَةِ لِلتَّنْوِيهِ بِالأمْثالِ المَضْرُوبَةِ في القُرْآنِ الَّتِي مِنها هَذا المَثَلُ بِالعَنْكَبُوتِ.

وجُمْلَةُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الإشارَةِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الخَبَرِيَّةُ مُسْتَعْمَلَةٌ في الِامْتِنانِ والطَّوْلِ؛ لِأنَّ في ضَرْبِ الأمْثالِ تَقْرِيبًا لِفَهْمِ الأُمُورِ الدَّقِيقَةِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولِضَرْبِ العَرَبِ الأمْثالَ واسْتِحْضارِ العُلَماءِ المُثُلَ والنَّظائِرَ شَأْنٌ لَيْسَ بِالخَفِيِّ في إبْرازِ خَبِيئاتِ المَعانِي ورَفْعِ الأسْتارِ عَنِ الحَقائِقِ، حَتّى تُرِيَكَ المُتَخَيَّلَ في صُورَةِ المُتَحَقِّقِ والغائِبَ كالمَشاهَدِ. وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ مَزِيَّةِ ضَرْبِ الأمْثالِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها﴾ [البقرة: ٢٦] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

ولِهَذا أُتْبِعَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ بِجُمْلَةِ وما يَعْقِلُها إلّا العالِمُونَ. والعَقْلُ هُنا بِمَعْنى الفَهْمِ، أيْ لا يَفْهَمُ مَغْزاها إلّا الَّذِينَ كَمُلَتْ عُقُولُهم فَكانُوا عُلَماءَ غَيْرَ سُفَهاءِ الأحْلامِ. وفي هَذا تَعْرِيضٌ بِأنَّ الَّذِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِها جُهَلاءُ العُقُولِ، فَما بالُكَ بِالَّذِينَ اعْتاضُوا عَنِ التَّدَبُّرِ في دَلالَتِها بِاتِّخاذِها هُزُءًا وسُخْرِيَةً، فَقالَتْ قُرَيْشٌ لَمّا سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا ولَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنهُ﴾ [الحج: ٧٣]، وقَوْلَهُ ﴿كَمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا﴾ [العنكبوت: ٤١] قالُوا: ما يَسْتَحْيِي مُحَمَّدٌ أنْ يُمَثِّلَ بِالذُّبابِ والعَنْكَبُوتِ والبَعُوضِ. وهَذا مِن بُهْتانِهِمْ، وإلّا فَقَدَ عَلِمَ البُلَغاءُ أنَّ لِكُلِّ مَقامٍ مَقالًا، ولِكُلِّ كَلِمَةٍ مَعَ صاحِبَتِها مَقامًا.