﴿وقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إنَّما الآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وإنَّما أنا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾

لَمّا ذَكَرَ الجاحِدِينَ لِآيَةِ القُرْآنِ ثَلاثَ مَرّاتٍ ووَصَفَهم بِالكافِرِينَ والمُبْطِلِينَ والظّالِمِينَ انْتَقَلَ الكَلامُ إلى مَقالَتِهِمُ النّاشِئَةِ عَنْ جُحُودِهِمْ، وذَلِكَ طَلَبُهم أنْ يَأْتِيَ النَّبِيءُ ﷺ بِآياتٍ مَرْئِيَّةٍ خارِقَةٍ لِلْعادَةِ تَدُلُّ عَلى أنَّ اللَّهَ خَلَقَها تَصْدِيقًا لِلرَّسُولِ كَما خَلَقَ ناقَةَ صالِحٍ وعَصا مُوسى، وهَذا مِن جَلافَتِهِمْ أنْ لا يَتَأثَّرُوا إلّا لِلْأُمُورِ المُشاهَدَةِ، وهم يَحْسَبُونَ أنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - يَنْتَصِبُ لِلْمُعانَدَةِ مَعَهم، فَهم يَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِ ما يَرْغَبُونَهُ لِيَجْعَلُوا ما يَسْألُونَهُ مِنَ الخَوارِقِ حَدِيثَ النَّوادِي حَتّى يَكُونَ مَحْضَرُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - فِيهِمْ كَمَحْضَرِ المُشَعْوِذِينَ وأصْحابِ الخَنْقَطَراتِ. وقَدْ قَدَّمْتُ بَيانَ هَذا الوَهْمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ﴾ [الأنعام: ٣٧] في سُورَةِ الأنْعامِ.

ومَعْنى عِنْدَ اللَّهِ أنَّها مِن عَمَلِ القُدْرَةِ الَّذِي يَجْرِي عَلى وفْقِ إرادَتِهِ تَعالى، فَلِكَوْنِها مَنُوطَةً بِإرادَتِهِ شُبِّهَتْ بِالشَّيْءِ المَحْفُوظِ عِنْدَ مالِكِهِ.

وأفادَتْ إنَّما قَصْرَ النَّبِيءِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - عَلى صِفَةِ النِّذارَةِ، أيِ الرِّسالَةِ، لا يَتَجاوَزُها إلى خَلْقِ الآياتِ أوِ اقْتِراحِها عَلى رَبِّهِ، فَهو قَصْرُ إفْرادٍ رَدًّا عَلى زَعْمِهِمْ أنَّ مِن حَقِّ المَوْصُوفِ بِالرِّسالَةِ أنْ يَأْتِيَ بِالخَوارِقِ المُشاهَدَةِ.

والمَعْنى: أنَّهُ لا يُسَلَّمُ أنَّ التَّبْلِيغَ يَحْتاجُ إلى الإتْيانِ بِالخَوارِقِ عَلى حَسَبِ رَغْبَةِ

صفحة ١٤

النّاسِ واقْتِراحِهِمْ حَتّى يَكُونُوا مَعْذُورِينَ في عَدَمِ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ إذا لَمْ يَأْتِهِمْ بِآيَةٍ حَسَبَ اقْتِراحِهِمْ.

وخُصَّ بِالذِّكْرِ مِن أحْوالِ الرِّسالَةِ وصْفُ النَّذِيرِ؛ تَعْرِيضًا بِالمُشْرِكِينَ بِأنَّ حالَهم يَقْتَضِي الإنْذارَ وهو تَوَقُّعُ الشَّرِّ.

والمُبِينُ: المُوَضِّحُ لِلْإنْذارِ بِالدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ الدّالَّةِ عَلى صِدْقِ ما يُخْبِرُ بِهِ.

وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ، وأبُو جَعْفَرٍ ويَعْقُوبُ ”آياتٌ“، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ وخَلَفٌ ”آيَةٌ“ . والجَمْعُ والإفْرادُ في هَذا سَواءٌ؛ لِأنَّ القَصْدَ إلى الجِنْسِ، فالآيَةُ الواحِدَةُ كافِيَةٌ في التَّصْدِيقِ.