﴿ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالعَذابِ ولَوْلا أجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ العَذابُ ولَيَأْتِيَنَّهم بَغْتَةً وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالعَذابِ وإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكافِرِينَ﴾ ﴿يَوْمَ يَغْشاهُمُ العَذابُ مِن فَوْقِهِمْ ومِن تَحْتِ أرْجُلِهِمْ ويَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾

عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿وقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِن رَبِّهِ﴾ [العنكبوت: ٥٠] اسْتِقْصاءً في الرَّدِّ عَلى شُبُهاتِهِمْ، وإبْطالًا لِتَعِلّاتِ إعْراضِهِمُ النّاشِئِ عَنِ المُكابَرَةِ، وهم يُخَيِّلُونَ أنَّهم إنَّما أعْرَضُوا لِعَدَمِ اقْتِناعِهِمْ بِآيَةِ صِدْقِ الرَّسُولِ ﷺ .

ومُناسَبَةُ وُقُوعِهِ هُنا أنَّهُ لَمّا ذُكِرَ كُفْرُهم بِاللَّهِ وكانَ النَّبِيءُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - يُنْذِرُهم عَلى ذَلِكَ بِالعَذابِ وكانُوا يَسْتَعْجِلُونَهُ بِهِ - ذَكَرَ تَوَرُّكَهم عَلَيْهِ عَقِبَ ذِكْرِ الكُفْرِ. واسْتِعْجالُ العَذابِ: طَلَبُ تَعْجِيلِهِ، وهو العَذابُ الَّذِي تُوُعِّدُوا بِهِ، وقَصْدُهم مِن ذَلِكَ الِاسْتِخْفافُ بِالوَعِيدِ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى تَرْكِيبِ ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالعَذابِ﴾ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهم بِالخَيْرِ﴾ [يونس: ١١] في سُورَةِ يُونُسَ، وقَوْلِهِ: ﴿ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ﴾ [الرعد: ٦] في سُورَةِ الرَّعْدِ. والتَّعْرِيفُ في العَذابِ تَعْرِيفُ الجِنْسِ.

وحُكِيَ اسْتِعْجالُهُمِ العَذابَ بِصِيغَةِ المُضارِعِ لِاسْتِحْضارِ حالِ اسْتِعْجالِهِمْ لِإفادَةِ التَّعْجِيبِ مِنها كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُجادِلُنا في قَوْمِ لُوطٍ﴾ [هود: ٧٤] .

وقَدْ أبْطَلَ ما قَصَدُوهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَوْلا أجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ العَذابُ﴾ وذَلِكَ أنَّ حُلُولَ العَذابِ لَيْسَ بِيَدِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - ولا جارِيًا عَلى طَلَبِهِمْ واسْتِبْطائِهِمْ، فَإنَّ اللَّهَ هو المُقَدِّرُ لِوَقْتِ حُلُولِهِ بِهِمْ في أجَلٍ قَدَّرَهُ بِعِلْمِهِ.

صفحة ١٩

والمُسَمّى أُرِيدَ بِهِ المُعَيَّنُ المَحْدُودُ، أيْ في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونُقِرُّ في الأرْحامِ ما نَشاءُ إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ [الحج: ٥] في سُورَةِ الحَجِّ.

والمَعْنى: لَوْلا الأجَلُ المُعَيَّنُ لِحُلُولِ العَذابِ بِهِمْ لَجاءَهُمُ العَذابُ عاجِلًا؛ لِأنَّ كُفْرَهم يَسْتَحِقُّ تَعْجِيلَ عِقابِهِمْ، ولَكِنْ أرادَ اللَّهُ تَأْخِيرَهُ لِحِكَمٍ عَلِمَها، مِنها إمْهالُهم لِيُؤْمِنَ مِنهم مَن آمَنَ بَعْدَ الوَعِيدِ، ولِيَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ لا يَسْتَفِزُّهُ اسْتِعْجالُهُمُ العَذابَ؛ لِأنَّهُ حَكِيمٌ لا يُخالِفُ ما قَدَّرَهُ بِحِكْمَتِهِ، حَلِيمٌ يُمْهِلُ عِبادَهُ، فالمَعْنى: لَوْلا أجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ العَذابُ في وقْتِ طَلَبِهِمْ تَعْجِيلَهُ، ثُمَّ أنْذَرَهم بِأنَّهُ آتِيهِمْ بَغْتَةً، وأنَّ إتْيانَهُ مُحَقَّقٌ؛ لِما دَلَّ عَلَيْهِ لامُ القَسَمِ ونُونُ التَّوْكِيدِ، وذَلِكَ عِنْدَ حُلُولِ الأجَلِ المُقَدَّرِ لَهُ. وقَدْ حَلَّ بِهِمْ عَذابُ يَوْمِ بَدْرٍ بَغْتَةً كَما قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ في المِيعادِ﴾ [الأنفال: ٤٢]، فاسْتَأْصَلَ صَنادِيدَهم يَوْمَئِذٍ وسُقِطَ في أيْدِيهِمْ.

وإذْ قَدْ كانَ اللَّهُ أعَدَّ لَهم عَذابًا أعْظَمَ مِن عَذابِ يَوْمِ بَدْرٍ وهو عَذابُ جَهَنَّمَ الَّذِي يَعُمُّ جَمِيعَهم - أعْقَبَ إنْذارَهم بِعَذابِ يَوْمِ بَدْرٍ بِإنْذارِهِمْ بِالعَذابِ الأعْظَمِ. وأُعِيدَ لِأجْلِهِ ذِكْرُ اسْتِعْجالِهِمْ بِالعَذابِ مُعْتَرَضًا بَيْنَ المُتَعاطِفَيْنِ إيماءً إلى أنَّ ذَلِكَ جَوابُ اسْتِعْجالِهِمْ، فَإنَّهُمُ اسْتَعْجَلُوا العَذابَ فَأُنْذِرُوا بِعَذابَيْنِ، أحَدُهُما أعْجَلُ مِنَ الآخَرِ. وفي إعادَةِ ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالعَذابِ﴾ تَهْدِيدٌ وإنْذارٌ بِأخْذِهِمْ، فَجُمْلَةُ ﴿وإنَّ جَهَنَّمَ﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿ولَيَأْتِيَنَّهم بَغْتَةً﴾ فَهُما عَذابانِ كَما هو مُقْتَضى ظاهِرِ العَطْفِ.

والإحاطَةُ كِنايَةٌ عَنْ عَدَمِ إفْلاتِهِمْ مِنها.

والمُرادُ بِالكافِرِينَ: المُسْتَعْجِلُونَ. واسْتُحْضِرُوا بِوَصْفِ الكافِرِينَ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ مُوجِبُ إحاطَةِ العَذابِ بِهِمْ، واسْتُعْمِلَ اسْمُ الفاعِلِ في الإحاطَةِ المُسْتَقْبَلَةِ مَعَ أنَّ شَأْنَ اسْمِ الفاعِلِ أنْ يُفِيدَ الِاتِّصافَ في زَمَنِ الحالِ، تَنْزِيلًا لِلْمُسْتَقْبَلِ مَنزِلَةَ زَمانِ الحالِ تَنْبِيهًا عَلى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ لِصُدُورِهِ عَمَّنْ لا خِلافَ في إخْبارِهِ.

ويَتَعَلَّقُ ﴿يَوْمَ يَغْشاهُمُ العَذابُ﴾ بِـ مُحِيطَةٌ، أيْ تُحِيطُ بِهِمْ يَوْمَ يَغْشاهُمُ العَذابُ، وفي قَوْلِهِ: ﴿يَغْشاهُمُ العَذابُ مِن فَوْقِهِمْ ومِن تَحْتِ أرْجُلِهِمْ﴾ تَصْوِيرٌ لِلْإحاطَةِ. والغَشَيانُ: التَّغْطِيَةُ والحَجْبُ.

صفحة ٢٠

وقَوْلُهُ: ﴿مِن فَوْقِهِمْ﴾ بَيانٌ لِلْغَشَيانِ لِتَصْوِيرِهِ تَفْظِيعًا لِحالِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨] وتَأْكِيدًا لِمَعْنى الغَشَيانِ لِرَفْعِ احْتِمالِ المَجازِ، فَهو في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ العَذابِ وهي حالٌ مُؤَكِّدَةٌ.

وقَوْلُهُ: ﴿ومِن تَحْتِ أرْجُلِهِمْ﴾ احْتِراسٌ عَمّا قَدْ يُوهِمُهُ الغَشَيانُ مِنَ الفَوْقِيَّةِ خاصَّةً، أيْ تُصِيبُهم نارٌ مِن تَحْتِهِمْ تَتَوَهَّجُ إلَيْهِمْ وهم فَوْقَها، ولَمّا كانَ مَعْطُوفًا عَلى الحالِ بِالواوِ، وكانَ غَيْرَ صالِحٍ لِأنْ يَكُونَ قَيْدًا لِـ يَغْشاهم؛ لِأنَّ الغَشَيانَ هو التَّغْطِيَةُ فَتَقْتَضِي العُلُوَّ - تَعَيَّنَ تَقْدِيرُ فِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ مِن تَحْتِ أرْجُلِهِمْ، وهو أنْ يُقَدَّرَ عامِلٌ مَحْذُوفٌ. وقَدْ عُدَّ هَذا العَمَلُ مِن خَصائِصِ الواوِ في العَطْفِ، أنْ تَعْطِفَ عامِلًا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ مَعْمُولُهُ، كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرى:

يا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدا مُتَقَلِّدًا سَيْفًا ورُمْحا

يُرِيدُ: ومُمْسِكًا رُمْحًا؛ لِأنَّ الرُّمْحَ لا يُتَقَلَّدُ - يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَعَهُ، وأبُو عُبَيْدَةَ والأصْمَعِيُّ والجُرْمِيُّ واليَزِيدِيُّ ومَن وافَقَهم يَجْعَلُونَ هَذا مِن قَبِيلِ تَضْمِينِ الفِعْلِ مَعْنى فِعْلٍ صالِحٍ لِلتَّعَلُّقِ بِالمَذْكُورِ، فَيُقَدَّرُ في هَذِهِ الآيَةِ تَضْمِينُ فِعْلِ يَغْشاهم مَعْنى يُصِيبُهم أوْ يَأْخُذُهم، والمَقْصُودُ مِن هَذا الكِنايَةُ عَنْ أنَّ العَذابَ مُحِيطٌ بِهِمْ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرِ الجانِبانِ الأيْمَنُ والأيْسَرُ؛ لِأنَّ الغَرَضَ مِنَ الكِنايَةِ قَدْ حَصَلَ.

والمَقامُ مَقامُ إيجازٍ؛ لِأنَّهُ مَقامُ غَضَبٍ وتَهْدِيدٍ بِخِلافِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهم مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ ومِن خَلْفِهِمْ وعَنْ أيْمانِهِمْ وعَنْ شَمائِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]؛ لِأنَّهُ حِكايَةٌ لِإلْحاحِ الشَّيْطانِ في الوَسْوَسَةِ.

وقَرَأ نافِعٌ وعاصِمٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ ويَقُولُ بِالياءِ التَّحْتِيَّةِ، والضَّمِيرُ عائِدٌ إلى مَعْلُومٍ مِنَ المَقامِ. فالتَّقْدِيرُ: ويَقُولُ اللَّهُ. وعُدِلَ عَنْ ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ عَلى خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ عَلى طَرِيقَةِ الِالتِفاتِ عَلى رَأْيِ كَثِيرٍ مِن أيِمَّةِ البَلاغَةِ، أوْ يُقَدَّرُ: ويَقُولُ المَلَكُ المُوَكَّلُ بِجَهَنَّمَ، أوِ التَّقْدِيرُ: ويَقُولُ العَذابُ، بِأنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلنّارِ أصْواتًا كَأنَّها قَوْلُ القائِلِ: ذُوقُوا. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو وابْنُ عامِرٍ وأبُو جَعْفَرٍ ويَعْقُوبُ بِالنُّونِ، وهي نُونُ العَظَمَةِ.

صفحة ٢١

ومَعْنى ﴿ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾: جَزاؤُهُ؛ لِأنَّ الجَزاءَ لَمّا كانَ بِقَدْرِ المَجْزِيِّ أُطْلِقُ عَلَيْهِ اسْمُهُ مَجازًا مُرْسَلًا أوْ مَجازًا بِالحَذْفِ.