﴿وكَأيِّنْ مِن دابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَها اللَّهُ يَرْزُقُها وإيّاكم وهْوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾

عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ﴾ [العنكبوت: ٥٧] فَإنَّ اللَّهَ لَمّا هَوَّنَ بِها أمْرَ المَوْتِ في مَرْضاةِ اللَّهِ وكانُوا مِمَّنْ لا يَعْبَأُ بِالمَوْتِ عَلِمَ أنَّهم يَقُولُونَ في أنْفُسِهِمْ: إنّا لا نَخافُ المَوْتَ، ولَكِنّا نَخافُ الفَقْرَ والضَّيْعَةَ. واسْتِخْفافُ العَرَبِ بِالمَوْتِ سَجِيَّةٌ فِيهِمْ كَما أنَّ خَشْيَةَ المَعَرَّةِ مِن سَجاياهم كَما بَيَّنّاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَقْتُلُوا أوْلادَكم خَشْيَةَ إمْلاقٍ﴾ [الإسراء: ٣١]، فَأعَقَبَ ذَلِكَ بِأنْ ذَكَّرَهم بِأنَّ رِزْقَهم عَلى اللَّهِ وأنَّهُ لا يُضَيِّعُهم. وضَرَبَ لَهُمُ المَثَلَ بِرِزْقِ الدَّوابِّ، ولِلْمُناسَبَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ أرْضِي واسِعَةٌ﴾ [العنكبوت: ٥٦] مِن تَوَقُّعِ الَّذِينَ يُهاجِرُونَ مِن مَكَّةَ أنْ لا يَجِدُوا رِزْقًا في البِلادِ الَّتِي يُهاجِرُونَ إلَيْها، وهو أيْضًا مُناسِبٌ لِوُقُوعِهِ عَقِبَ ذِكْرِ التَّوَكُّلِ في قَوْلِهِ: ﴿وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [العنكبوت: ٥٩]، وفي الحَدِيثِ «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَما تُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِماصًا وتَرُوحُ بِطانًا» .

ولَعَلَّ ما في هَذِهِ الآيَةِ وما في الحَدِيثِ مَقْصُودٌ بِهِ المُؤْمِنُونَ الأوَّلُونَ؛ ضَمِنَ اللَّهُ لَهم رِزْقَهم لِتُوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ في تَرْكِهِمْ أمْوالِهِمْ بِمَكَّةَ لِلْهِجْرَةِ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ، وتَوَكُّلِهِمْ هو حَقُّ التَّوَكُّلِ، أيْ أكْمَلُهُ وأحْزَمُهُ، فَلا يَضَعُ نَفْسَهُ في هَذِهِ المَرْتَبَةِ مَن لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَهم.

صفحة ٢٥

وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى كَأيِّنْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ”وكَأيِّنْ مِن نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ“ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.

وقَوْلُهُ: ﴿وكَأيِّنْ مِن دابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَها﴾ خَبَرٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنهُ إفادَةُ الحُكْمِ بَلْ هو مُسْتَعْمَلٌ مَجازًا مُرَكَّبًا في لازِمِ مَعْناهُ وهو الِاسْتِدْلالُ عَلى ضَمانِ رِزْقِ المُتَوَكِّلِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ. وتَمْثِيلُهُ لِلتَّقْرِيبِ بِضَمانِ رِزْقِ الدَّوابِّ الكَثِيرَةِ الَّتِي تَسِيرُ في الأرْضِ لا تَحْمِلُ رِزْقَها، وهي السَّوائِمُ الوَحْشِيَّةُ، والقَرِينَةُ عَلى هَذا الِاسْتِعْمالِ هو قَوْلُهُ: ﴿اللَّهُ يَرْزُقُها وإيّاكُمْ﴾ الَّذِي هو اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ لِبَيانِ وجْهِ سَوْقِ قَوْلِهِ: ﴿وكَأيِّنْ مِن دابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَها﴾؛ ولِذَلِكَ عَطَفَ وإيّاكم عَلى ضَمِيرِ دابَّةٍ. والمَقْصُودُ: التَّمْثِيلُ في التَّيْسِيرِ والإلْهامِ لِلْأسْبابِ المُوصِلَةِ، وإنْ كانَتْ وسائِلُ الرِّزْقِ مُخْتَلِفَةٌ.

والحَمْلُ في قَوْلِهِ: ﴿لا تَحْمِلُ رِزْقَها﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا في حَقِيقَتِهِ، أيْ تَسِيرُ غَيْرَ حامِلَةٍ رِزْقَها لا كَما تَسِيرُ دَوابُّ القَوافِلِ حامِلَةً رِزْقَها، وهو عَلَفُها فَوْقَ ظُهُورِها بَلْ تَسِيرُ تَأْكُلُ مِن نَباتِ الأرْضِ، ويَجُوزُ أنْ يُسْتَعْمَلَ مَجازًا في التَّكَلُّفِ لَهُ، مِثْلَ قَوْلِ جَرِيرٍ:

حُمِّلْتَ أمْرًا عَظِيمًا فاصْطَبَرْتَ لَهُ

أيْ لا تَتَكَلَّفُ لِرِزْقِها. وهَذا حالُ مُعْظَمِ الدَّوابِّ عَدا النَّمْلَةِ والفارَةِ، قِيلَ وبَعْضُ الطَّيْرِ كالعَقْعَقِ.

وتَقْدِيمُ المُسْنَدِ إلَيْهِ عَلى الخَبَرِ الفِعْلِيِّ في قَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ يَرْزُقُها﴾ دُونَ أنْ يَقُولَ: يَرْزُقُها اللَّهُ، لِيُفِيدَ بِالتَّقْدِيمِ مَعْنى الِاخْتِصاصِ، أيِ اللَّهُ يَرْزُقُها لا غَيْرُهُ، فَلِماذا تَعْبُدُونَ أصْنامًا لَيْسَ بِيَدِها رِزْقٌ.

وجُمْلَةُ ﴿وهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿اللَّهُ يَرْزُقُها وإيّاكُمْ﴾، فالمَعْنى: اللَّهُ يَرْزُقُكم وهو السَّمِيعُ لِدُعائِكُمُ العَلِيمُ بِما في نُفُوسِكم مِنَ الإخْلاصِ لِلَّهِ في أعْمالِكم وتَوَكُّلِكم ورَجائِكم مِنهُ الرِّزْقَ.