﴿غُلِبَتِ الرُّومُ في أدْنى الأرْضِ وهم مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ [الروم: ٤]

قَوْلُهُ: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ في لازِمِ فائِدَتِهِ عَلى طَرِيقِ الكِنايَةِ، أيْ نَحْنُ نَعْلَمُ بِأنَّ الرُّومَ غُلِبَتْ، فَلا يَهِنْكم ذَلِكَ ولا تَطاوَلُوا بِهِ عَلى رَسُولِنا وأوْلِيائِنا، فَإنّا

صفحة ٤٢

نَعْلَمُ أنَّهم سَيَغْلِبُونَ مَن غَلَبُوهم بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ بِحَيْثُ لا يُعَدُّ الغَلَبُ في مِثْلِهِ غَلَبًا.

فالمَقْصُودُ مِنَ الكَلامِ هو جُمْلَةُ ﴿وهم مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ في بِضْعِ سِنِينَ﴾ وكانَ ما قَبْلَهُ تَمْهِيدًا لَهُ.

وإسْنادُ الفِعْلِ إلى المَجْهُولِ لِأنَّ الغَرَضَ هو الحَدِيثُ عَنِ المَغْلُوبِ لا عَلى الغالِبِ؛ ولِأنَّهُ قَدْ عُرِفَ أنَّ الَّذِينَ غَلَبُوا الرُّومَ هُمُ الفُرْسُ.

والرُّومُ: اسْمٌ غَلَبَ في كَلامِ العَرَبِ عَلى أُمَّةٍ مُخْتَلِطَةٍ مِنَ اليُونانِ والصَّقالِبَةِ ومِنَ الرُّومانِيِّينَ الَّذِينَ أصْلُهم مِنَ اللّاطِينِيِّينَ سُكّانِ إيطاليا نَزَحُوا إلى أطْرافِ شَرْقِ أُورُبّا، تَقَوَّمَتْ هَذِهِ الأُمَّةُ المُسَمّاةُ الرُّومَ عَلى هَذا المَزِيجِ، فَجاءَتْ مِنها مَمْلَكَةٌ تَحْتَلُّ قِطْعَةً مِن أُورُبّا وقِطْعَةً مِن آسْيا الصُّغْرى وهي بِلادُ الأناظُولِ، وقَدْ أطْلَقَ العَرَبُ عَلى مَجْمُوعِ هَذِهِ الأُمَّةِ اسْمَ الرُّومِ تَفْرِقَةً بَيْنَهِمْ وبَيْنَ الرُّومانِ اللّاطِينِيِّينِ. وسَمَّوُا الرُّومَ أيْضًا بِبَنِي الأصْفَرِ كَما جاءَ في حَدِيثِ أبِي سُفْيانَ عَنْ كِتابِ النَّبِيءِ ﷺ المَبْعُوثِ إلى هِرَقْلَ سُلْطانِ الرُّومِ وهو في حِمْصَ مِن بِلادِ الشّامِ إذْ قالَ أبُو سُفْيانَ لِأصْحابِهِ: لَقَدْ أمِرَ أمْرُ ابْنِ أبِي كَبْشَةَ، إنَّهُ يَخافُهُ مَلِكُ بَنِي الأصْفَرِ.

وسَبَبُ اتِّصالِ الأُمَّةِ الرُّومانِيَّةِ بِالأُمَّةِ اليُونانِيَّةِ وتَكَوُّنِ أُمَّةِ الرُّومِ مِنَ الخَلِيطَيْنِ هو أنَّ اليُونانَ كانَ لَهُمُ اسْتِيلاءٌ عَلى صِقِلِّيَةَ وبَعْضِ بِلادِ إيطاليا، وكانُوا بِذَلِكَ في اتِّصالاتٍ وحُرُوبٍ سِجالٍ مَعَ الرُّومانِ رُبَّما عَظُمَتْ واتَّسَعَتْ مَمْلَكَةُ الرُّومانِ تَدْرِيجًا بِسَبَبِ الفُتُوحاتِ، وتَسَرَّبَتْ سُلْطَتُهم إلى إفْرِيقِيا وأدانِي آسْيا الصُّغْرى بِفُتُوحاتِ ”يُولْيُوسْ قَيْصَرْ“ لِمِصْرَ وشَمالِ أفْرِيقْيا وبِلادِ اليُونانِ، وبِتَوالِي الفُتُوحاتِ لِلْقَياصِرَةِ مِن بَعْدِهِ فَصارَتْ تَبْلُغُ مِن رُومَةَ إلى أرْمِينْيا والعِراقِ، ودَخَلَتْ فِيها بِلادُ اليُونانِ ومَدائِنُ رُودِسَ وساقِسَ وكارْيا والصَّقالِبَةِ الَّذِينَ عَلى نَهْرِ الطُّونَةِ، ولَحِقَ بِها البِيزَنْطِينِيُّونَ المَنسُوبُونَ إلى مَدِينَةِ بِيزَنْطَةَ الواقِعَةِ في مَوْقِعِ اسْتانْبُولَ عَلى البُسْفُورِ، وهم أصْنافٌ مِنَ اليُونانِ والإسْبَرْطِيِّينَ، وكانُوا أهْلَ تِجارَةٍ عَظِيمَةٍ في أوائِلِ القَرْنِ الرّابِعِ قَبْلَ المَسِيحِ، ثُمَّ ألَّفُوا اتِّحادًا بَيْنَهم وبَيْنَ أهْلِ رُودِسَ وساقِسَ، وكانَتْ بِيزَنْطَةُ مِن جُمْلَةِ مَمْلَكَةِ إسْكَنْدَرَ المَقْدُونِيِّ وبَعْدَ مَوْتِهِ واقْتِسامِ قُوّادِهِ المَمْلَكَةَ مِن بَعْدِهِ صارَتْ بِيزَنْطَةُ دَوْلَةً مُسْتَقِلَّةً، وانْضَوَتْ تَحْتَ سُلْطَةِ رُومَةَ، فَحَكَمَها قَياصِرَةُ الرُّومانِ إلى أنْ صارَ قُسْطَنْطِينُ قَيْصَرًا

صفحة ٤٣

لِرُومَةَ وانْفَرَدَ بِالسُّلْطَةِ في حُدُودِ سَنَةِ (٣٣٢) مَسِيحِيَّةً، وجَمَعَ شَتاتَ المَمْلَكَةِ، فَجَعَلَ لِلْمَمْلَكَةِ عاصِمَتَيْنِ: عاصِمَةً غَرْبِيَّةً هي ”رُومَةُ“ وعاصِمَةً شَرْقِيَّةً اخْتَطَّها مَدِينَةً عَظِيمَةً عَلى بَقايا مَدِينَةِ بِيزَنْطَةَ وسَمّاها ”قُسْطَنْطِينِيَّةَ“، وانْصَرَفَتْ هِمَّتُهُ إلى سُكْناها، فَنالَتْ شُهْرَةً تَفُوقُ ”رُومَةَ. وبَعْدَ مَوْتِهِ سَنَةَ (٣٣٧) قُسِّمَتِ المَمْلَكَةُ بَيْنَ أوْلادِهِ، وكانَ القِسْمُ الشَّرْقِيُّ الَّذِي هو بِلادُ الرُّومِ وعاصِمَتُهُ القُسْطَنْطِينِيَّةُ لِابْنِهِ“ قُسْطَنْطِينْيُوسَ ”، فَمُنْذُ ذَلِكَ الحِينِ صارَتْ مَمْلَكَةُ القُسْطَنْطِينِيَّةِ هي مَمْلَكَةُ الرُّومِ، وبَقِيَتْ مَمْلَكَةُ“ رُومَةَ ”مَمْلَكَةَ الرُّومانِ. وزادَ انْفِصالُ المَمْلَكَتَيْنِ في سَنَةِ (٣٩٥) حِينَ قَسَّمَ“ طُيُودِسْيُوسُ ”بُلْدانَ السَّلْطَنَةِ الرُّومانِيَّةِ بَيْنَ ولَدَيْهِ، فَجَعَلَها قِسْمَيْنِ: مَمْلَكَةً شَرْقِيَّةً ومَمْلَكَةً غَرْبِيَّةً، فاشْتَهَرَتِ المَمْلَكَةُ الشَّرْقِيَّةُ بِاسْمِ بِلادِ الرُّومِ وعاصِمَتُها“ القُسْطَنْطِينِيَّةُ ”. ويُعْرَفُ الرُّومُ عِنْدَ الإفْرِنْجِ بِالبِيزَنْطِينِيِّينَ نِسْبَةً إلى“ بِيزَنْطَةَ ”، اسْمُ مَدِينَةٍ يُونانِيَّةٍ قَدِيمَةٍ واقِعَةٍ عَلى شاطِئِ البُوسْفُورِ الَّذِي هو قِسْمٌ مِن مَوْقِعِ المَدِينَةِ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَها كَما تَقَدَّمَ آنِفًا. وقَدْ صارَتْ ذاتَ تِجارَةٍ عَظِيمَةٍ في القَرْنِ الخامِسِ قَبْلَ المَسِيحِ وسُمِّيَ مِيناها بِالقَرْنِ الذَّهَبِيِّ. وفي أواخِرِ القَرْنِ الرّابِعِ قَبْلَ المَسِيحِ خَلَعَتْ طاعَةَ أثِينا. وفي أواسِطِ القَرْنِ الرّابِعِ بَعْدَ المَسِيحِ جُعِلَ قُسْطَنْطِينُ سُلْطانَ مَدِينَةِ القُسْطَنْطِينِيَّةِ.

وهَذا الغَلَبُ الَّذِي ذُكِرَ في هَذِهِ الآيَةِ هو انْهِزامُ الرُّومِ في الحَرْبِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَهم وبَيْنَ الفُرْسِ سَنَةَ (٦١٥) مَسِيحِيَّةً، وذَلِكَ أنَّ خُسْرُو بْنَ هُرْمُزَ مَلِكَ الفُرْسِ غَزا الرُّومَ في بِلادِ الشّامِ وفِلَسْطِينَ، وهي مِنَ البِلادِ الواقِعَةِ تَحْتَ حُكْمِ“ هِرَقْلَ ”قَيْصَرِ الرُّومِ، فَنازَلَ أنْطاكِيَةَ ثُمَّ دِمَشْقَ، وكانَتِ الهَزِيمَةُ العَظِيمَةُ عَلى الرُّومِ في أطْرافِ بِلادِ الشّامِ المُحادَّةِ بِلادَ العَرَبِ بَيْنَ بُصْرى وأذْرُعاتَ. وذَلِكَ هو المُرادُ في هَذِهِ الآيَةِ بِأدْنى الأرْضِ أيْ أدْنى بِلادِ الرُّومِ إلى بِلادِ العَرَبِ.

فالتَّعْرِيفُ في الأرْضِ لِلْعَهْدِ، أيْ أرْضِ الرُّومِ المُتَحَدَّثِ عَنْهم، أوِ اللّامُ عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ، أيْ في أدْنى أرْضِهِمْ، أوْ أدْنى أرْضِ اللَّهِ. وحُذِفَ مُتَعَلِّقُ أدْنى لِظُهُورِ أنَّ تَقْدِيرَهُ: مِن أرْضِكم، أيْ أقْرَبِ بِلادِ الرُّومِ مِن أرْضِ العَرَبِ، فَإنَّ بِلادَ الشّامِ تابِعَةٌ يَوْمَئِذٍ لِلرُّومِ وهي أقْرَبُ مَمْلَكَةِ الرُّومِ مِن بِلادِ العَرَبِ.

وكانَتْ هَذِهِ الهَزِيمَةُ هَزِيمَةً كُبْرى لِلرُّومِ.

وقَوْلُهُ: ﴿وهم مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ في بِضْعِ سِنِينَ﴾ إخْبارٌ بِوَعْدٍ مَعْطُوفٍ

صفحة ٤٤

عَلى الإخْبارِ الَّذِي قَبْلَهُ. وضَمائِرُ الجَمْعِ عائِدَةٌ إلى الرُّومِ.

وغَلَبِهِمْ مَصْدَرٌ مُضافٌ إلى مَفْعُولِهِ. وحُذِفَ مَفْعُولُ سَيَغْلِبُونَ لِلْعِلْمِ بِأنَّ تَقْدِيرَهُ: سَيَغْلِبُونَ الَّذِينَ غَلَبُوهم، أيِ الفُرْسَ، إذْ لا يُتَوَهَّمُ أنَّ المُرادَ سَيَغْلِبُونَ قَوْمًا آخَرِينَ؛ لِأنَّ غَلَبَهم عَلى قَوْمٍ آخَرِينَ وإنْ كانَ يَرْفَعُ مِن شَأْنِهِمْ ويَدْفَعُ عَنْهم مَعَرَّةَ غَلَبِ الفُرْسِ إيّاهم، لَكِنِ القِصَّةُ تُبَيِّنُ المُرادَ؛ ولِأنَّ تَمامَ المِنَّةِ عَلى المُسْلِمِينَ بِأنْ يَغْلِبَ الرُّومُ الفُرْسَ الَّذِينَ ابْتَهَجَ المُشْرِكُونَ بِغَلَبِهِمْ وشَمِتُوا لِأجْلِهِ بِالمُسْلِمِينَ كَما تَقَدَّمَ.

وفائِدَةُ ذِكْرِ“ مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ ”التَّنْبِيهُ عَلى عِظَمِ تِلْكَ الهَزِيمَةِ عَلَيْهِمْ، وأنَّها بِحَيْثُ لا يُظَنُّ نَصْرٌ لَهم بَعْدَها، فابْتَهَجَ بِذَلِكَ المُشْرِكُونَ، فالوَعْدُ بِأنَّهم سَيَغْلِبُونَ بَعْدَ ذَلِكَ الِانْهِزامِ في أمَدٍ غَيْرِ طَوِيلٍ تَحَدٍّ تَحَدّى بِهِ القُرْآنُ المُشْرِكِينَ، ودَلِيلٌ عَلى أنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لَهُمُ الغَلَبَ عَلى الفُرْسِ تَقْدِيرًا خارِقًا لِلْعادَةِ؛ مُعْجِزَةً لِنَبِيِّهِ ﷺ وكَرامَةً لِلْمُسْلِمِينَ.

ولَفْظُ“ بِضْعِ ”بِكَسْرِ المُوَحَّدَةِ كِنايَةٌ عَنْ عَدَدٍ قَلِيلٍ لا يَتَجاوَزُ العَشَرَةَ، وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَبِثَ في السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ [يوسف: ٤٢] في سُورَةِ يُوسُفَ، وهَذا أجَلٌ لِرَدِّ الكَرَّةِ لَهم عَلى الفُرْسِ.

وحِكْمَةُ إبْهامِ عَدَدِ السِّنِينَ أنَّهُ مُقْتَضى حالِ كَلامِ العَظِيمِ الحَكِيمِ أنْ يَقْتَصِرَ عَلى المَقْصُودِ إجْمالًا، وأنْ لا يَتَنازَلَ إلى التَّفْصِيلِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ يَتَنَزَّلُ مَنزِلَةَ الحَشْوِ عِنْدَ أهْلِ العُقُولِ الرّاجِحَةِ، ولِيَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ رَجاءٌ في مُدَّةٍ أقْرَبَ مِمّا ظَهَرَ، فَفي ذَلِكَ تَفْرِيجٌ عَلَيْهِمْ.

وهَذِهِ الآيَةُ مِن مُعْجِزاتِ القُرْآنِ الرّاجِعَةِ إلى الجِهَةِ الرّابِعَةِ في المُقَدِّمَةِ العاشِرَةِ مِن مُقَدِّماتِ هَذا التَّفْسِيرِ.

رَوى التِّرْمِذِيُّ بِأسانِيدَ حَسَنَةٍ وصَحِيحَةٍ أنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا يُحِبُّونَ أنْ يَظْهَرَ أهْلُ فارِسَ عَلى الرُّومِ؛ لِأنَّهم وإيّاهم أهْلُ أوْثانٍ، وكانَ المُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أنْ يَظْهَرَ الرُّومُ عَلى أهْلِ فارِسَ؛ لِأنَّهم أهْلُ كِتابٍ مِثْلَهم، فَكانَتْ فارِسُ يَوْمَ نَزَلَتْ ﴿الم﴾ [الروم: ١] ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ قاهِرِينَ لِلرُّومِ، فَذَكَرُوهُ لِأبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَهُ أبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ «فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ:

صفحة ٤٥

أمّا إنَّهم سَيَغْلِبُونَ، ونَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَخَرَجَ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَصِيحُ في نُواحِي مَكَّةَ ﴿الم﴾ [الروم: ١] ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ في أدْنى الأرْضِ وهم مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ [الروم: ٤] فَقالَ ناسٌ مَن قُرَيْشٍ لِأبِي بَكْرٍ: فَذَلِكَ بَيْنَنا وبَيْنَكم، زَعَمَ صاحِبُكم أنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فارِسَ في بِضْعِ سِنِينَ، أفَلا نُراهِنُكَ عَلى ذَلِكَ قالَ: بَلى، وذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّهانِ، وقالُوا لِأبِي بَكْرٍ: كَمْ تَجْعَلُ البِضْعَ ثَلاثَ سِنِينَ إلى تِسْعِ سِنِينَ، فَسَمِّ بَيْنَنا وبَيْنَكَ وسَطًا نَنْتَهِي إلَيْهِ. فَسَمّى أبُو بَكْرٍ لَهم سِتَّ سِنِينَ، فارْتَهَنَ أبُو بَكْرٍ والمُشْرِكُونَ وتَواضَعُوا الرِّهانَ، فَمَضَتْ سِتُّ السِّنِينَ قَبْلَ أنْ يَظْهَرَ الرُّومُ، فَأخَذَ المُشْرِكُونَ رَهْنَ أبِي بَكْرٍ. وقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأبِي بَكْرٍ ألا أخْفَضْتَ يا أبا بَكْرٍ، ألا جَعَلْتَهُ إلى دُونِ العَشْرِ، فَإنَّ البِضْعَ ما بَيْنَ الثَّلاثِ إلى التِّسْعِ. وعابَ المُسْلِمُونَ عَلى أبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ سِتِّ سِنِينَ، وأسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ ناسٌ كَثِيرٌ» . وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ أنَّ الَّذِي راهَنَ أبا بَكْرٍ هو أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وأنَّهم جَعَلُوا الرِّهانَ خَمْسَ قَلائِصَ، وفي رِوايَةٍ أنَّهم بَعْدَ أنْ جَعَلُوا الأجَلَ سِتَّةَ أعْوامٍ غَيَّرُوهُ فَجَعَلُوهُ تِسْعَةَ أعْوامٍ وازْدادُوا في عَدَدِ القَلائِصِ، وأنَّ أبا بَكْرٍ لَمّا أرادَ الهِجْرَةَ مَعَ النَّبِيءِ ﷺ تَعَلَّقَ بِهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وقالَ لَهُ: أعْطِنِي كَفِيلًا بِالخَطَرِ إنْ غُلِبْتَ، فَكَفَلَ بِهِ ابْنَهُ عَبَدَ الرَّحْمَنِ، وكانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أيّامَئِذٍ مُشْرِكًا باقِيًا بِمَكَّةَ، وأنَّهُ لَمّا أرادَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الخُرُوجَ إلى أُحُدٍ طَلَبَهُ عَبْدُ الرَّحِمَنِ بِكَفِيلٍ فَأعْطاهُ كَفِيلًا. ثُمَّ ماتَ أُبَيُّ بِمَكَّةَ مِن جُرْحٍ جَرَحَهُ النَّبِيءُ ﷺ، فَلَمّا غَلَبَ الرُّومُ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ أخَذَ أبُو بَكْرٍ الخَطَرَ مِن ورَثَةِ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ.

وقَدْ كانَ تَغَلُّبُ الرُّومِ عَلى الفُرْسِ في سَنَةِ سِتٍّ، ووَرَدَ الخَبَرُ إلى المُسْلِمِينَ. وفي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: لَمّا كانَ يَوْمُ بَدْرٍ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلى فارِسَ فَأعْجَبَ ذَلِكَ المُؤْمِنِينَ. والمَعْرُوفُ أنَّ ذَلِكَ كانَ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ. وقَدْ تَقَدَّمَ في أوَّلِ السُّورَةِ أنَّ المُدَّةَ بَيْنَ انْهِزامِ الرُّومِ وانْهِزامِ الفُرْسِ سَبْعُ سِنِينَ - بِتَقْدِيمِ السِّينِ - وأنَّ ما وقَعَ في بَعْضِ الرِّواياتِ أنَّها تِسْعٌ هو تَصْحِيفٌ. وقَدْ كانَ غَلَبُ الرُّومِ عَلى الفُرْسِ في سَلْطَنَةِ هِرَقْلَ قَيْصَرِ الرُّومِ، وبِإثْرِهِ جاءَ هِرَقْلُ إلى بِلادِ الشّامِ ونَزَلَ حِمْصَ ولَقِيَ أبا سُفْيانَ بْنَ حَرْبٍ في رَهْطٍ مِن أهْلِ مَكَّةَ جاءُوا تُجّارًا إلى الشّامِ.

واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الرِّوايَةَ في مُخاطَرَةِ أبِي بَكْرٍ وأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ وتَقْرِيرِ النَّبِيءِ ﷺ إيّاها احْتَجَّ بِها أبُو حَنِيفَةَ عَلى جَوازِ العُقُودِ الرِّبَوِيَّةِ مَعَ أهْلِ الحَرْبِ. وأمّا الجُمْهُورُ

صفحة ٤٦

فَهَذا يَرَوْنَهُ مَنسُوخًا بِما ورَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ القِمارِ نَهْيًا مُطْلَقًا لَمْ يُقَيَّدْ بِغَيْرِ أهْلِ الحَرْبِ. وتَحْقِيقُ المَسْألَةِ أنَّ المُراهَنَةَ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ أبِي بَكْرٍ وأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ جَرَتْ عَلى الإباحَةِ الأصْلِيَّةِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ شَرْعٌ بِمَكَّةَ أيّامَئِذٍ، فَلا دَلِيلَ فِيها عَلى إباحَةِ المُراهِنَةِ، وأنَّ تَحْرِيمَ المُراهَنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ تَشْرِيعٌ أُنُفٌ ولَيْسَ مِنَ النَّسْخِ في شَيْءٍ.

﴿لِلَّهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ ومِن بَعْدُ﴾ [الروم: ٤]

جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ المُتَعاطِفاتِ. والمُرادُ بِالأمْرِ أمْرُ التَّقْدِيرِ والتَّكْوِينِ، أيْ أنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الغَلَبَ الأوَّلَ والثّانِيَ قَبْلَ أنْ يَقَعا، أيْ مِن قَبْلِ غَلَبِ الرُّومِ عَلى الفُرْسِ وهو المُدَّةُ الَّتِي مِن يَوْمِ غَلَبِ الفُرْسِ عَلَيْهِمْ ومِن بَعْدِ غَلَبِ الرُّومِ عَلى الفُرْسِ.

فَهُنالِكَ مُضافانِ إلَيْهِما مَحْذُوفانِ. فَبُنِيَتْ“ قَبْلُ ”و“ بَعْدُ ”عَلى الضَّمِّ؛ لِحَذْفِ المُضافِ إلَيْهِ؛ لِافْتِقارِ مَعْناهُما إلى تَقْدِيرِ مُضافَيْنِ إلَيْهِما فَأشْبَهَتا الحَرْفَ في افْتِقارِ مَعْناهُ إلى الِاتِّصالِ بِغَيْرِهِ. وهَذا البِناءُ هو الأفْصَحُ في الِاسْتِعْمالِ إذا حُذِفَ ما تُضافُ إلَيْهِ“ قَبْلُ ”و“ بَعْدُ ”وقُدِّرَ لِوُجُودِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ في الكَلامِ، وأمّا إذا لَمْ تُقْصَدُ إضافَتُهُما بَلْ أُرِيدَ بِهِما الزَّمَنُ السّابِقُ والزَّمَنُ اللّاحِقُ، فَإنَّهُما يُعْرَبانِ كَسائِرِ الأسْماءِ النَّكِراتِ، كَما قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْرُبَ بْنِ مُعاوِيَةَ أوْ يَزِيدُ بْنُ الصَّعْقِ:

فَساغَ لِيَ الشَّرابُ وكُنْتُ قَبْلًا أكادُ أغَصُّ بِالماءِ الحَمِـيمِ

أيْ وكُنْتُ في زَمَنٍ سَبَقَ لا يَقْصِدُ تَعْيِينَهُ. وجَوَّزَ الفَرّاءُ فِيهِما مَعَ حَذْفِ المُضافِ إلَيْهِ أنْ تَبْقى فِيهِما حَرَكَةُ الإعْرابِ بِدُونِ تَنْوِينٍ، ودَرَجَ عَلَيْهِ ابْنُ هِشامٍ، وأنْكَرَهُ الزَّجاجُ، وجَعَلَ مِنَ الخَطَإ رِوايَةَ قَوْلِ الشّاعِرِ الَّذِي لا يُعْرَفُ اسْمُهُ:

ومِن قَبْلِ نادى كُلُّ مَوْلًى قَرابَةً ∗∗∗ فَما عَطَفَتْ مَوْلًى عَلَيْهِ العَواطِفُ

بِكَسْرِ لامِ“ قَبْلِ ”رادًّا قَوْلَ الفَرّاءِ أنَّهُ رُوِيَ بِكَسْرٍ دُونَ تَنْوِينٍ، يُرِيدُ الزَّجاجُ: أيِ الواجِبُ أنْ يُرْوى بِالضَّمِّ.

وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ في قَوْلِهِ:“ ﴿لِلَّهِ الأمْرُ﴾ [الروم: ٤] " لِإبْطالِ تَطاوُلِ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ بَهَجَهم غَلَبُ الفُرْسِ عَلى الرُّومِ لِأنَّهم عَبَدَةُ أصْنامٍ مِثْلَهم؛ لِاسْتِلْزامِهِ الِاعْتِقادَ بِأنَّ ذَلِكَ الغَلَبَ مِن نَصْرِ الأصْنامِ عُبّادَها، فَبَيَّنَ لَهم بُطْلانَ ذَلِكَ وأنَّ التَّصَرُّفَ لِلَّهِ وحْدَهُ في

صفحة ٤٧

الحالَيْنِ؛ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي بَيَّنّاها آنِفًا كَما دَلَّ عَلَيْهِ التَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: ﴿يَنْصُرُ مَن يَشاءُ﴾ [الروم: ٥] .

فِيهِ أدَبٌ عَظِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِكَيْ لا يُعَلِّلُوا الحَوادِثَ بِغَيْرِ أسْبابِها ويَنْتَحِلُوا لَها عِلَلًا تُوافِقُ الأهْواءَ كَما كانَتْ تَفْعَلُهُ الدَّجاجِلَةُ مِنَ الكُهّانِ وأضْرابِهِمْ. وهَذا المَعْنى كانَ النَّبِيءُ ﷺ يُعْلِنُهُ في خُطَبِهِ، فَقَدْ كُسِفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ ماتَ إبْراهِيمُ ابْنُ النَّبِيءِ فَقالَ النّاسُ: كُسِفَتْ لِمَوْتِ إبْراهِيمَ، فَخَطَبَ النَّبِيءُ ﷺ فَقالَ في خُطْبَتِهِ: «إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيَتانِ مِن آياتِ اللَّهِ، لا يَخْسِفانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولا لِحَياتِهِ» . وكانَ مِن صِناعَةِ الدَّجَلِ أنْ يَتَلَقَّنَ أصْحابُ الدَّجَلِ الحَوادِثَ المُقارِنَةَ لِبَعْضِ الأحْوالِ فَيَزْعُمُوا أنَّها كانَتْ لِذَلِكَ مَعَ أنَّها تَنْفَعُ أقْوامًا وتَضُرُّ بِآخَرِينَ؛ ولِهَذا كانَ التَّأْيِيدُ بِنَصْرِ الرُّومِ في هَذِهِ الآيَةِ مَوْعُودًا بِهِ مِن قَبْلُ؛ لِيَعْلَمَ النّاسُ كُلُّهم أنَّهُ مُتَحَدًّى بِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ لا مُدَّعًى بِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ؛ ولِهَذا قالَ تَعالى بَعْدَ الوُعُودِ ﴿ويَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٤] .