﴿وعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وعْدَهُ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا وهم عَنِ الآخِرَةِ هم غافِلُونَ﴾

انْتَصَبَ ”وعْدَ اللَّهِ“ عَلى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ، وهَذا مِنَ المَفْعُولِ المُطْلَقِ المُؤَكِّدِ لِمَعْنى جُمْلَةٍ قَبْلَهُ هي بِمَعْناهُ، ويُسَمِّيهِ النَّحْوِيُّونَ مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا لِنَفْسِهِ - تَسْمِيَةً غَرِيبَةً - يُرِيدُونَ بِنَفْسِهِ مَعْناهُ دُونَ لَفْظِهِ. ومَثْلُهُ في ”الكَشّافِ“ ومَثَّلُوهُ بِنَحْوِ ”لَكَ عَلَيَّ ألْفٌ عُرْفًا“ لِأنَّ عُرْفًا بِمَعْنى ”اعْتِرافًا“، أكَّدَ مَضْمُونَ جُمْلَةِ لَكَ عَلِيَّ ألْفٌ، وكَذَلِكَ ﴿وعْدَ اللَّهِ﴾ أكَّدَ مَضْمُونَ جُمْلَةِ ﴿وهم مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ في بِضْعِ سِنِينَ﴾ [الروم: ٣] .

وإضافَةُ الوَعْدِ إلى اللَّهِ تَلْوِيحٌ بِأنَّهُ وعْدٌ مُحَقَّقٌ الإيفاءَ؛ لِأنَّ وعْدَ الصّادِقِ القادِرِ الغَنِيِّ لا مُوجِبَ لِإخْلافِهِ.

وجُمْلَةُ ﴿لا يُخْلِفُ اللَّهُ وعْدَهُ﴾ بَيانٌ لِلْمَقْصُودِ مِن جُمْلَةِ ”وعْدَ اللَّهِ“ فَإنَّها دَلَّتْ عَلى أنَّهُ وعْدٌ مُحَقَّقٌ بِطَرِيقِ التَّلْوِيحِ، فَبَيَّنَ ذَلِكَ بِالصَّرِيحِ بِجُمْلَةِ ﴿لا يُخْلِفُ اللَّهُ وعْدَهُ﴾ . ولِكَوْنِها في مَوْقِعِ البَيانِ فُصِلَتْ ولَمْ تُعْطَفْ، وفائِدَةُ الإجْمالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ تَقْرِيرُ الحُكْمِ لِتَأْكِيدِهِ، ولِما في جُمْلَةِ ﴿لا يُخْلِفُ اللَّهُ وعْدَهُ﴾ مِن إدْخالِ الرَّوْعِ عَلى المُشْرِكِينَ بِهَذا التَّأْكِيدِ، وسَمّاهُ وعْدًا نَظَرًا لِحالِ المُؤْمِنِينَ الَّذِي هو أهَمُّ هُنا، وهو أيْضًا وعِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِخِذْلانِ أشْياعِهِمْ ومَن يَفْتَخِرُونَ بِمُماثَلَةِ دِينِهِمْ.

ومَوْقِعُ الِاسْتِدْراكِ في قَوْلِهِ: ”﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾“ هو ما اقْتَضاهُ

صفحة ٤٩

الإجْمالُ. وتَفْصِيلُهُ مِن كَوْنِ ذَلِكَ أمْرًا لا ارْتِيابَ فِيهِ، وأنَّهُ وعْدُ اللَّهِ الصّادِقِ الوَعْدِ القادِرِ عَلى نَصْرِ المَغْلُوبِ فَيَجْعَلُهُ غالِبًا، فاسْتَدْرَكَ بِأنَّ مُراهَنَةَ المُشْرِكِينَ عَلى عَدَمِ وُقُوعِهِ نَشَأتْ عَنْ قُصُورِ عُقُولِهِمْ، فَأحالُوا أنْ تَكُونَ لِلرُّومِ بَعْدَ ضَعْفِهِمْ دَوْلَةٌ عَلى الفُرْسِ الَّذِينَ قَهَرُوهم في زَمَنٍ قَصِيرٍ هو بِضْعُ سِنِينَ، ولَمْ يَعْلَمُوا أنَّ ما قَدَّرَهُ اللَّهُ أعْظَمُ.

فالمُرادُ بِـ أكْثَرَ النّاسِ ابْتِداءً المُشْرِكُونَ؛ لِأنَّهم سَمِعُوا الوَعْدَ وراهَنُوا عَلى عَدَمِ وُقُوعِهِ.

ويَشْمَلُ المُرادُ أيْضًا كُلَّ مَن كانَ يَعُدُّ انْتِصارَ الرُّومِ عَلى الفُرْسِ في مِثْلِ هَذِهِ المُدَّةِ مُسْتَحِيلًا، مِن رِجالِ الدَّوْلَةِ ورِجالِ الحَرْبِ مِنَ الفُرْسِ الَّذِينَ كانُوا مُزْدَهِينَ بِانْتِصارِهِمْ، ومِن أهْلِ الأُمَمِ الأُخْرى، ومِنَ الرُّومِ أنْفُسِهِمْ؛ فَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الجَمْهَرَةِ بِـ أكْثَرَ النّاسِ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ.

والتَّعْرِيفُ في النّاسِ لِلِاسْتِغْراقِ.

ومَفْعُولُ يَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿سَيَغْلِبُونَ في بِضْعِ سِنِينَ﴾ [الروم: ٣]، فالتَّقْدِيرُ: لا يَعْلَمُونَ هَذا الغَلَبَ القَرِيبَ العَجِيبَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ تَنْزِيلَ الفِعْلِ مَنزِلَةَ اللّازِمِ بِأنْ نَزَلُوا مَنزِلَةَ مَن لا عِلْمَ عِنْدَهم أصْلًا؛ لِأنَّهم لَمّا لَمْ يَصِلُوا إلى إدْراكِ الأُمُورِ الدَّقِيقَةِ وفَهْمِ الدَّلائِلِ القِياسِيَّةِ كانَ ما عِنْدَهم مِن بَعْضِ العِلْمِ شَبِيهًا بِالعَدَمِ؛ إذْ لَمْ يَبْلُغُوا بِهِ الكَمالَ الَّذِي بَلَغَهُ الرّاسِخُونَ أهْلُ النَّظَرِ، فَيَكُونُ في ذَلِكَ مُبالَغَةً في تَجْهِيلِهِمْ وهو مِمّا يَقْتَضِيهِ المَقامُ.

ولَمّا كانَ في أسْبابِ تَكْذِيبِهِمُ الوَعْدَ بِانْتِصارِ الرُّومِ عَلى الفُرْسِ بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ أنَّهم يَعُدُّونَ ذَلِكَ مُحالًا، وكانَ عَدُّهم إيّاهم كَذَلِكَ مِنِ التِباسِ الِاسْتِبْعادِ العادِيِّ بِالمُحالِ، مَعَ الغَفْلَةِ عَنِ المَقادِيرِ النّادِرَةِ الَّتِي يُقَدِّرُها اللَّهُ تَعالى ويُقَدِّرُ لَها أسْبابًا لَيْسَتْ في الحُسْبانِ، فَتَأْتِي عَلى حَسَبِ ما جَرى بِهِ قَدَرُهُ لا عَلى حَسَبِ ما يُقَدِّرُهُ النّاسُ، وكانَ مِن حَقِّ العاقِلِ أنْ يَفْرِضَ الِاحْتِمالاتِ كُلَّها ويَنْظُرَ فِيها بِالسَّبْرِ والتَّقْيِيمِ - أنْحى اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِأنْ أعْقَبَ إخْبارَهُ عَنِ انْتِفاءِ عِلْمِهِمْ صِدْقَ وعْدِ القُرْآنِ، بِأنْ وصَفَ حالَةَ عِلْمِهِمْ كُلِّها بِأنَّ قُصارى تَفْكِيرِهِمْ مُنْحَصِرٌ في ظَواهِرِ الحَياةِ الدُّنْيا غَيْرِ المُحْتاجَةِ إلى النَّظَرِ العَقْلِيِّ وهي المَحْسُوساتُ والمُجَرَّباتُ

صفحة ٥٠

والأماراتُ، ولا يَعْلَمُونَ بَواطِنَ الدَّلالاتِ المُحْتاجَةِ إلى إعْمالِ الفِكْرِ والنَّظَرِ.

والوَجْهُ أنْ تَكُونَ ”مِن“ في قَوْلِهِ: ﴿مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ تَبْعِيضِيَّةً، أيْ يَعْلَمُونَ ظَواهِرَ ما في الدُّنْيا، أيْ: ولا يَعْلَمُونَ دَقائِقَها وهي العُلُومُ الحَقِيقِيَّةُ، وكُلُّها حاصِلَةٌ في الدُّنْيا، وبِهَذا الِاعْتِبارِ كانَتِ الدُّنْيا مَزْرَعَةَ الآخِرَةِ.

والكَلامُ يُشْعِرُ بِذَمِّ حالِهِمْ، ومَحَطُّ الذَّمِّ هو جُمْلَةُ ﴿وهم عَنِ الآخِرَةِ هم غافِلُونَ﴾ . فَأمّا مَعْرِفَةُ الحَياةِ الدُّنْيا فَلَيْسَتْ بِمَذَمَّةٍ؛ لِأنَّ المُؤْمِنِينَ كانُوا أيْضًا يَعْلَمُونَ ظاهِرَ الحَياةِ الدُّنْيا، وإنَّما المَذْمُومُ أنَّ المُشْرِكِينَ يَعْلَمُونَ ما هو ظاهِرٌ مِن أُمُورِ الدُّنْيا ولا يَعْلَمُونَ أنَّ وراءَ عالَمِ المادَّةِ عالَمًا آخَرَ هو عالَمُ الغَيْبِ. وقَدِ اقْتَصَرَ في تَجْهِيلِهِمْ بِعالَمِ الغَيْبِ عَلى تَجْهِيلِهِمْ بِوُجُودِ الحَياةِ الآخِرَةِ اقْتِصارًا بَدِيعًا حَصَلَ بِهِ التَّخَلُّصُ مِن غَرَضِ الوَعْدِ بِنَصْرِ الرُّومِ إلى غَرَضٍ أهَمَّ وهو إثْباتُ البَعْثِ مَعَ أنَّهُ يَسْتَلْزِمُ إثْباتَ عالَمِ الغَيْبِ، ويَكُونُ مِثالًا لِجَهْلِهِمْ بِعالَمِ الغَيْبِ وذَمًّا لِجَهْلِهِمْ بِهِ بِأنَّهُ أوْقَعَهم في ورْطَةِ إهْمالِ رَجاءِ الآخِرَةِ وإهْمالِ الِاسْتِعْدادِ لِما يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ الرَّجاءُ، فَذَلِكَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: ﴿وهم عَنِ الآخِرَةِ هم غافِلُونَ﴾، فَجُمْلَةُ ﴿يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ بَدَلٌ مِن جُمْلَةِ لا يَعْلَمُونَ بَدَلَ اشْتِمالٍ بِاعْتِبارِ ما بَعْدَ الجُمْلَةِ مِن قَوْلِهِ: ﴿وهم عَنِ الآخِرَةِ هم غافِلُونَ﴾؛ لِأنَّ عِلْمَهم يَشْتَمِلُ عَلى مَعْنى نَفْيِ عِلْمٍ بِمَغِيباتِ الآخِرَةِ وإنْ كانُوا يَعْلَمُونَ ظَواهِرَ الحَياةِ الدُّنْيا.

وجُمْلَةُ ﴿وهم عَنِ الآخِرَةِ هم غافِلُونَ﴾ يَجُوزُ أنْ تَجْعَلَها عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ ﴿يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾، فَحَصَلَ الإخْبارُ عَنْهم بِعِلْمِ أشْياءٍ وعَدَمِ العِلْمِ بِأشْياءَ، ولَكَ أنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ ﴿وهم عَنِ الآخِرَةِ﴾ إلَخْ في مَوْقِعِ الحالِ، والواوُ واوُ الحالِ.

وعُبِّرَ عَنْ جَهْلِهِمُ الآخِرَةَ بِالغَفْلَةِ كِنايَةً عَنْ نُهُوضِ دَلائِلِ وُجُودِ الحَياةِ الآخِرَةِ لَوْ نَظَرُوا في الدَّلائِلِ المُقْتَضِيَةِ وُجُودَ حَياةٍ آخِرَةٍ، فَكانَ جَهْلُهم بِذَلِكَ شَبِيهًا بِالغَفْلَةِ؛ لِأنَّهُ بِحَيْثُ يَنْكَشِفُ لَوِ اهْتَمُّوا بِالنَّظَرِ، فاسْتُعِيرَ لَهُ ”غافِلُونَ“ اسْتِعارَةً تَبَعِيَّةً.

و”هم“ الأُولى في مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ، و”هم“ الثّانِيَةُ ضَمِيرُ فَصْلٍ. والجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ دالَّةٌ عَلى تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الغَفْلَةِ عَنِ الآخِرَةِ وثَباتِهِمْ في تِلْكَ الغَفْلَةِ، وضَمِيرُ

صفحة ٥١

الفَصْلِ لِإفادَةِ الِاخْتِصاصِ بِهِمْ، أيْ هُمُ الغافِلُونَ عَنِ الآخِرَةِ دُونَ المُؤْمِنِينَ.

ومِنَ البَدِيعِ الجَمْعُ بَيْنَ لا يَعْلَمُونَ ويَعْلَمُونَ، وفِيهِ الطِّباقُ مِن حَيْثُ ما دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظانِ لا مِن جِهَةِ مُتَعَلِّقِهِما. وقَرِيبٌ مِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ﴾ [البقرة: ١٠٢] ﴿ولَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٠٢] .