﴿ثُمَّ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ أساءُوا السُّوءى أنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وكانُوا بِها يَسْتَهْزِئُونَ﴾ (١٠)

ثُمَّ لِلتَّراخِي الرُّتْبِيِّ لِأنَّ هَذِهِ العاقِبَةَ أعْظَمُ رُتْبَةً في السُّوءِ مِن عَذابِ الدُّنْيا، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا الكَلامُ تَذْيِيلًا لِحِكايَةِ ما حَلَّ بِالأُمَمِ السّالِفَةِ مِن قَوْلِهِ ﴿كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ [الروم: ٩] .

والمَعْنى: ثُمَّ عاقِبَةُ كُلِّ مَن أساءُوا السُّوءى مِثْلُهم، فَيَكُونُ تَعْرِيضًا بِالتَّهْدِيدِ لِمُشْرِكِي العَرَبِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ولِلْكافِرِينَ أمْثالُها﴾ [محمد: ١٠] فالمُرادُ بِـ ﴿الَّذِينَ أساءُوا﴾ كُلُّ مُسِيءٍ مَن جِنْسِ تِلْكَ الإساءَةِ وهي الشِّرْكُ.

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ إنْذارًا لِمُشْرِكِي العَرَبِ المُتَحَدَّثِ عَنْهم مِن قَوْلِهِ ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ٦] فَيَكُونُوا المُرادَ بِـ ﴿الَّذِينَ أساءُوا﴾ ويَكُونُ إظْهارًا في مَقامِ الإضْمارِ عَلى خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ لِقَصْدِ الإيماءِ بِالصِّلَةِ، أيْ أنَّ سَبَبَ عاقِبَتِهِمُ السُّوءى هو إساءَتُهم. وأصْلُ الكَلامِ: ثُمَّ كانَ عاقِبَتَهُمُ السُّوءى.

وهَذا إنْذارٌ بَعْدَ المَوْعِظَةِ ونَصٌّ بَعْدَ القِياسِ، فَإنَّ اللَّهَ وعَظَ المُكَذِّبِينَ لِلرَّسُولِ ﷺ بِعَواقِبِ الأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَها لِيَكُونُوا عَلى حَذَرٍ مِن مِثْلِ تِلْكَ العاقِبَةِ بِحُكْمِ قِياسِ التَّمْثِيلِ، ثُمَّ أعْقَبَ تِلْكَ المَوْعِظَةَ بِالنِّذارَةِ بِأنَّهم سَتَكُونُ لَهم مِثْلُ تِلْكَ العاقِبَةِ، وأوْقَعَ فِعْلَ كانَ الماضِي في مَوْقِعِ المُضارِعِ لِلتَّنْبِيهِ عَلى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ مِثْلَ ﴿أتى أمْرُ اللَّهِ﴾ [النحل: ١] إتْمامًا لِلنِّذارَةِ.

والعاقِبَةُ: الحالَةُ الأخِيرَةُ الَّتِي تَعْقُبُ حالَةً قَبْلَها، وتَقَدَّمَتْ في قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ﴾ [الأنعام: ١١] في سُورَةِ الأنْعامِ وقَوْلِهِ ﴿والعاقِبَةُ لِلتَّقْوى﴾ [طه: ١٣٢] ) في طه.

صفحة ٦٠

و﴿الَّذِينَ أساءُوا﴾ هم كُفّارُ قُرَيْشٍ. والمُرادُ ﴿بِآياتِ اللَّهِ﴾: القُرْآنُ ومُعْجِزاتُ الرَّسُولِ ﷺ .

والسُّوءى: تَأْنِيثُ الأسْوَأِ أيِ الحالَةُ الزّائِدَةُ في الِاتِّصافِ بِالسُّوءِ وهو أشَدُّ الشَّرِّ، كَما أنَّ الحُسْنى مُؤَنَّثُ الأحْسَنِ في قَوْلِهِ ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنى﴾ [يونس: ٢٦] .

وتَعْرِيفُ السُّوءى تَعْرِيفُ الجِنْسِ إذْ لَيْسَ ثَمَّةَ عاقِبَةٍ مَعْهُودَةٍ.

ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِـ ﴿الَّذِينَ أساءُوا﴾ الأُمَمُ الَّذِينَ أثارُوا الأرْضَ وعَمَرُوها فَتَكُونُ مِن وضْعِ الظّاهِرِ مَوْضِعَ المُضْمَرِ تَوَسُّلًا إلى الحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم أساءُوا واسْتَحَقُّوا السُّوءَ وهي جَهَنَّمُ.

وفِعْلُ (كانَ) عَلى ما هو عَلَيْهِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلى تَحَقُّقِ الوُقُوعِ.

وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو وأبُو جَعْفَرٍ ويَعْقُوبُ (عاقِبَةُ) بِالرَّفْعِ عَلى أصْلِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ اسْمِ (كانَ) وخَبَرِها. وقَرَأهُ البَقِيَّةُ بِالنَّصْبِ عَلى أنَّهُ خَبَرُ (كانَ) مُقَدَّمٌ عَلى اسْمِها وهو اسْتِعْمالٌ كَثِيرٌ.

والفَصْلُ بَيْنَ (كانَ) ومَرْفُوعِها بِالخَبَرِ سَوَّغَ حَذْفَ تاءِ التَّأْنِيثِ مِن فِعْلِ (كانَ) .

و﴿أنْ كَذَّبُوا﴾ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِ عاقِبَتِهِمُ السُّوءى بِحَذْفِ اللّامِ مَعَ (أنْ) . وآياتُ اللَّهِ: القُرْآنُ والمُعْجِزاتُ.

والباءُ في ﴿بِها يَسْتَهْزِئُونَ﴾ لِلتَّعْدِيَةِ، وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ لِلِاهْتِمامِ بِشَأْنِ الآياتِ، ولِلرِّعايَةِ عَلى الفاصِلَةِ.