﴿أوَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أنْفُسِهِمْ﴾ [الروم: ٨] وهو مِثْلُ الَّذِي عُطِفَ هو عَلَيْهِ مُتَّصِلٌ بِما يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ٦] أنَّ مِن أسْبابِ عَدَمِ عِلْمِهِمْ تَكْذِيبَهُمُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الَّذِي أنْبَأهم بِالبَعْثِ، فَلَمّا سِيقَ إلَيْهِمْ دَلِيلُ حِكْمَةِ البَعْثِ والجَزاءِ بِالحَقِّ أعْقَبَ بِإنْذارِهِمْ مَوْعِظَةً لَهم بِعَواقِبِ الأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهم لِأنَّ المَقْصُودَ هو عاقِبَةُ تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ اللَّهِ وهو قَوْلُهُ ﴿وجاءَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ الآيَةَ.

والأمْرُ بِالسَّيْرِ في الأرْضِ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ سِيرُوا في الأرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ﴾ [الأنعام: ١١] في سُورَةِ الأنْعامِ وقَوْلِهِ ﴿قُلْ سِيرُوا في الأرْضِ فانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأ الخَلْقَ﴾ [العنكبوت: ٢٠] في سُورَةِ العَنْكَبُوتِ.

والِاسْتِفْهامُ في ﴿أوَلَمْ يَسِيرُوا﴾ تَقْرِيرِيٌّ. وجاءَ التَّقْرِيرُ عَلى النَّفْيِ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْناهُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ألَمْ يَرَوْا أنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ﴾ [الأعراف: ١٤٨] وقَوْلِهِ ﴿ألَمْ يَأْتِكم رُسُلٌ مِنكُمْ﴾ [الأعراف: ٣٥] في الأعْرافِ، وقَوْلِهِ ﴿ألَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكافِرِينَ﴾ [العنكبوت: ٦٨] في آخِرِ العَنْكَبُوتِ.

والأرْضُ: اسْمٌ لِلْكُرَةِ الَّتِي عَلَيْها النّاسُ.

صفحة ٥٦

والنَّظَرُ: هُنا نَظَرُ العَيْنِ لِأنَّ قُرَيْشًا كانُوا يَمُرُّونَ في أسْفارِهِمْ إلى الشّامِ عَلى دِيارِ ثَمُودَ وقَوْمِ لُوطٍ وفي أسْفارِهِمْ إلى اليَمَنِ عَلى دِيارِ عادٍ.

وكَيْفِيَّةُ العاقِبَةِ هي حالَةُ آخِرِ أمْرِهِمْ مِن خَرابِ بِلادِهِمْ وانْقِطاعِ أعْقابِهِمْ فَعاضَدَ دَلالَةَ التَّفَكُّرِ الَّتِي في قَوْلِهِ ﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أنْفُسِهِمْ﴾ [الروم: ٨] الآيَةَ. بِدَلالَةِ الحِسِّ بِقَوْلِهِ ﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ .

وكَيْفَ اسْتِفْهامٌ مُعَلِّقُ فِعْلَ (يَنْظُرُوا) عَنْ مَفْعُولِهِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: فَيَنْظُرُوا ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ فَقِيلَ: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ.

والعاقِبَةُ: آخِرُ الأمْرِ مِنَ الخَيْرِ والشَّرِّ، بِخِلافِ العُقْبى فَهي لِلْخَيْرِ خاصَّةً إلّا في مَقامِ المُشاكَلَةِ، وتَقَدَّمَ ذِكْرُ العاقِبَةِ في قَوْلِهِ ﴿والعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: ١٢٨] في الأعْرافِ.

وقَدْ جَمَعَ قَوْلُهُ ﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ وعِيدًا عَلى تَكْذِيبِهِمُ النَّبِيءَ ﷺ وتَجْهِيلًا لِإحالَتِهِمُ المُمْكِنَ، حَيْثُ أيْقَنُوا بِأنَّ الفُرْسَ لا يُغْلَبُونَ بَعْدَ انْتِصارِهِمْ.

فَهَذِهِ آثارُ أُمَمٍ عَظِيمَةٍ كانَتْ سائِدَةً عَلى الأرْضِ فَزالَ مُلْكُهم وخَلَتْ بِلادُهم مِن سَبَبِ تَغَلُّبِ أُمَمٍ أُخْرى عَلَيْهِمْ.

والمُرادُ بِالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ عادٌ وثَمُودُ وقَوْمُ لُوطٍ وأمْثالُهُمُ الَّذِينَ شاهَدَ العَرَبُ آثارَهَمْ. والمَعْنى: أنَّهم كانُوا مِن قَبْلِهِمْ في مِثْلِ حالَتِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ وتَكْذِيبِ الرُّسُلِ المُرْسَلِينَ إلَيْهِمْ، كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ ﴿كانُوا أشَدَّ مِنهم قُوَّةً﴾ . الآيَةَ.

* * *

﴿كانُوا أشَدَّ مِنهم قُوَّةً وأثارُوا الأرْضَ وعَمَرُوها أكْثَرَ مِمّا عَمَرُوها وجاءَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهم ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾

كُلُّ أُولَئِكَ كانُوا أشَدَّ قُوَّةً مِن قُرَيْشٍ وأكْثَرَ تَعْمِيرًا في الأرْضِ، وكُلُّهم جاءَتْهم رُسُلٌ، وكُلُّهم كانَتْ عاقِبَتُهُمُ الِاسْتِئْصالَ، كُلُّ هَذِهِ ما تُقِرُّ بِهِ قُرَيْشٌ.

صفحة ٥٧

وجُمْلَةُ ﴿كانُوا أشَدَّ مِنهم قُوَّةً﴾ بَيانٌ لِجُمْلَةِ ﴿كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ .

والشِّدَّةُ: صَلابَةُ جِسْمٍ، وتُسْتَعارُ بِكَثْرَةٍ لِقُوَّةِ صِفَةٍ مِنَ الأوْصافِ في شَيْءٍ تَشْبِيهًا لِكَمالِ الوَصْفِ وتَمامِهِ بِالصَّلابَةِ في عُسْرِ التَّحَوُّلِ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿وأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ [النمل: ٣٣] في سُورَةِ النَّمْلِ.

والقُوَّةُ: حالَةٌ بِها يُقاوِمُ صاحِبُها ما يُوجِبُ انْخِرامَهُ، فَمِن ذَلِكَ قُوَّةُ البَدَنِ، وقُوَّةُ الخَشَبِ، وتُسْتَعارُ القُوَّةُ لِما بِهِ تُدْفَعُ العادِيَةُ وتَسْتَقِيمُ الحالَةُ؛ فَهي مَجْمُوعُ صِفاتٍ يَكُونُ بِها بَقاءُ الشَّيْءِ عَلى أكْمَلِ أحْوالِهِ كَما في قَوْلِهِ﴿نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ﴾ [النمل: ٣٣] . فَقُوَّةُ الأُمَّةِ مَجْمُوعُ ما بِهِ تَدْفَعُ العَوادِيَ عَنْ كِيانِها وتَسْتَبْقِي صَلاحَ أحْوالِها مِن عُدَدٍ حَرْبِيَّةٍ وأمْوالٍ وأبْناءٍ وأزْواجٍ. وحالَةُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ لا تُدانِي أحْوالَ تِلْكَ الأُمَمِ في القُوَّةِ، وناهِيكَ بِعادٍ فَقَدْ كانُوا مَضْرِبَ الأمْثالِ في القُوَّةِ في سائِرِ أُمُورِهِمْ، والعَرَبُ تَصِفُ الشَّيْءَ العَظِيمَ في جِنْسِهِ بِأنَّهُ عادِيٌّ نِسْبَةً إلى عادٍ.

وعَطْفُ أثارُوا عَلى كانُوا فَهو فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الإثارَةِ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، وهي تَحْرِيكُ أجْزاءِ الشَّيْءِ، فالإثارَةُ: رَفْعُ الشَّيْءِ المُسْتَقِرِّ وقَلْبُهُ بَعْدَ اسْتِقْرارِهِ قالَ تَعالى ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا﴾ [الروم: ٤٨] أيْ تَسُوقُهُ وتَدْفَعُهُ مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ.

وأُطْلِقَتِ الإثارَةُ هُنا عَلى قَلْبِ تُرابِ الأرْضِ بِجَعْلِ ما كانَ باطِنًا ظاهِرًا وهو الحَرْثُ، قالَ تَعالى ﴿لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ﴾ [البقرة: ٧١] وقالَ النّابِغَةُ يَصِفُ بَقَرَ الوَحْشِ إذا حَفَرَتِ التُّرابَ:

يُثِرْنَ الحَصى حَتّى يُباشِرْنَ بَرْدَهُ إذا الشَّمْسُ مَجَّتْ رِيقَها بِالكَلاكِلِ

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أثارُوا هُنا تَمْثِيلًا لِحالِ شِدَّةِ تَصَرُّفِهِمْ في الأرْضِ وتَغَلُّبِهِمْ عَلى مَن سِواهم بِحالِ مَن يُثِيرُ ساكِنًا ويُهَيِّجُهُ، ومِنهُ أُطْلِقَتِ الثَّوْرَةُ عَلى الخُرُوجِ عَنِ الجَماعَةِ. وهَذا الِاحْتِمالُ أنْسَبُ بِالمَقْصُودِ الَّذِي هو وصْفُ الأُمَمِ بِالقُوَّةِ والمَقْدِرَةِ مِنِ احْتِمالِ أنْ تَكُونَ الإثارَةُ بِمَعْنى حَرْثِ الأرْضِ لِأنَّهُ يَدْخُلُ في العِمارَةِ. وضَمِيرُ أثارُوا عائِدٌ إلى ما عادَ إلَيْهِ ضَمِيرُ كانُوا أشَدَّ.

ومَعْنى عِمارَةِ الأرْضِ: جَعْلُها عامِرَةً غَيْرَ خَلاءٍ وذَلِكَ بِالبِناءِ والغَرْسِ والزَّرْعِ.

صفحة ٥٨

يُقالُ: ضَيْعَةٌ عامِرَةٌ، أيْ مَعْمُورَةٌ بِما تَعْمُرُ بِهِ الضِّياعُ، ويُقالُ في ضِدِّهِ: ضَيْعَةٌ غامِرَةٌ. ولِكَوْنِ قُرَيْشٍ لَمْ تَكُنْ لَهم إثارَةٌ في الأرْضِ بِكِلا المَعْنَيَيْنِ إذْ كانُوا بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ لَمْ يُقَلْ في هَذا الجانِبِ: أكْثَرَ مِمّا أثارُوها.

وضَمِيرا جَمْعِ المُذَكَّرِ في قَوْلِهِ ﴿وعَمَرُوها أكْثَرَ مِمّا عَمَرُوها﴾ راجِعٌ أوَّلُهُما إلى ما رَجَعَ إلَيْهِ ضَمِيرُ أثارُوا وثانِيهِما إلى ما رَجَعَ إلَيْهِ ضَمِيرُ ﴿يَسِيرُوا في الأرْضِ﴾ .

ويُعْرَفُ تَوْزِيعُ الضَّمِيرَيْنِ بِالقَرِينَةِ مِثْلُ تَوْزِيعِ الإشارَةِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿هَذا مِن شِيعَتِهِ وهَذا مِن عَدُوِّهِ﴾ [القصص: ١٥] في سُورَةِ القَصَصِ كالضَّمِيرَيْنِ في قَوْلِ عَبّاسِ بْنِ مِرْداسٍ يَذْكُرُ قِتالَ هَوازِنَ يَوْمَ حُنَيْنٍ:

عُدْنا ولَوْلا نَحْنُ أحْدَقَ جَمْعُهم ∗∗∗ بِالمُسْلِمِينَ وأحْرَزُوا ما جَمَّعُوا

وتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هو خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: ٥٨] في سُورَةِ يُونُسَ، أيْ عَمَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمُ الأرْضَ أكْثَرَ مِمّا عَمَرَها هَؤُلاءِ، فَإنَّ لِقُرَيْشٍ عِمارَةً في الأرْضِ مِن غَرْسٍ قَلِيلٍ وبِناءٍ وتَفْجِيرٍ ولَكِنَّهُ يَتَضاءَلُ أمامَ عِمارَةِ الأُمَمِ السّالِفَةِ مِن عادٍ وثَمُودَ.

وتَفْرِيعُ ﴿فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ عَلى قَوْلِهِ ﴿وجاءَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ﴾ إيجازُ حَذْفٍ بَدِيعٌ، لِأنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ بِالبَيِّناتِ يَقْتَضِي تَصْدِيقًا وتَكْذِيبًا فَلَمّا فَرَّعَ عَلَيْهِ أنَّهم ظَلَمُوا أنْفُسَهم عَلِمَ أنَّهم كَذَّبُوا الرُّسُلَ وأنَّ اللَّهَ جازاهم عَلى تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ بِأنْ عاقَبَهم عِقابًا لَوْ كانَ لِغَيْرِ جُرْمٍ لَشابَهَ الظُّلْمَ، فَجُعِلَ مِن مَجْمُوعِ نَفْيِ ظُلْمِ اللَّهِ إيّاهم، ومِن إثْباتِ ظُلْمِهِمْ أنْفُسَهم مَعْرِفَةُ أنَّهم كَذَّبُوا الرُّسُلَ وعانَدُوهم وحَلَّ بِهِمْ ما هو مَعْلُومٌ مِن مُشاهَدَةِ دِيارِهِمْ وتَناقُلِ أخْبارِهِمْ.

والِاسْتِدْراكُ ناشِئٌ عَلى ما يَقْتَضِيهُ نَفْيُ ظُلْمِ اللَّهِ إيّاهم مِن أنَّهم عُومِلُوا مُعامَلَةً سَيِّئَةً لَوْ لَمْ يَسْتَحِقُّوها لَكانَتْ مُعامَلَةَ ظُلْمٍ.

وعُبِّرَ عَنْ ظُلْمِهِمْ أنْفُسَهم بِصِيغَةِ المُضارِعِ لِلدَّلالَةِ عَلى اسْتِمْرارِ ظُلْمِهِمْ وتَكَرُّرِهِ وأنَّ اللَّهَ أمْهَلَهم فَلَمْ يُقْلِعُوا حَتّى أخَذَهم بِما دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ العاقِبَةُ، والقَرِينَةُ قَوْلُهُ (كانُوا) .

صفحة ٥٩

وتَقْدِيمُ (أنْفُسَهم) وهو مَفْعُولُ (يَظْلِمُونَ) عَلى فِعْلِهِ لِلِاهْتِمامِ بِأنْفُسِهِمْ في تَسْلِيطِ ظُلْمِهِمْ عَلَيْها لِأنَّهُ ظُلْمٌ يُتَعَجَّبُ مِنهُ، مَعَ ما فِيهِ مِنَ الرِّعايَةِ عَلى الفاصِلَةِ. ولَيْسَ تَقْدِيمُ المَفْعُولِ هُنا لِلْحَصْرِ لِأنَّ الحَصْرَ حاصِلٌ مِن جُمْلَتَيِ النَّفْيِ والإثْباتِ.