﴿ومِن آياتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وطَمَعًا ويُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ تِلْكَ آيَةٌ خامِسَةٌ وهي مُتَعَلِّقَةٌ بِالإنْسانِ ولَيْسَتْ مُتَّصِلَةً بِهِ، فَإنَّ البَرْقَ آيَةٌ مِن آياتٍ صُنْعِ اللَّهِ وهو مَن خَلْقِ القُوى الكَهْرَبائِيَّةِ النُّورانِيَّةِ في الأسْحِبَةِ وجَعْلِها آثارًا مُشاهَدَةً، وكَمْ مِن قُوًى أمْثالِها مُنْبَثَّةٍ في العَوالِمِ العُلْوِيَّةِ لا تُشاهَدُ آثارُها.

صفحة ٧٨

ومِنَ الحِكَمِ الإلَهِيَّةِ في كَوْنِ البَرْقِ مَرْئِيًّا أنَّ ذَلِكَ يُثِيرُ في النُّفُوسِ خَوْفًا مِن أنْ يَكُونَ اللَّهُ سَلَّطَهُ عِقابًا، وطَمَعًا في أنْ يَكُونَ أرادَ بِهِ خَيْرًا لِلنّاسِ فَيَطْمَعُونَ في نُزُولِ المَطَرِ، ولِذَلِكَ أعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ ﴿ويُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ فَإنَّ نُزُولَ المَطَرِ مِمّا يَخْطُرُ بِالبالِ عِنْدَ ذِكْرِ البَرْقِ.

وقَوْلُهُ مِن آياتِهِ جارٌّ ومَجْرُورٌ يَحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ كَوْنٍ إنْ كانَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا، أوْ إلى مُتَعَلَّقٍ إنْ كانَ ظَرْفًا لَغْوًا. ومُوقِعُ هَذا الجارِّ والمَجْرُورِ في هَذِهِ الآيَةِ وارِدٌ عَلى مِثْلِ مَواقِعِ أمْثالِهِ في الآياتِ السّابِقَةِ واللّاحِقَةِ الشَّبِيهَةِ بِها، وذَلِكَ مِمّا يَدْعُو إلى اعْتِبارِ ما يُذْكَرُ بَعْدَ الجارِّ والمَجْرُورِ في مَعْنى مُبْتَدَأٍ مُخْبَرٍ عَنْهُ بِالجارِّ والمَجْرُورِ المُقَدَّمِ عَلَيْهِ حَمْلًا عَلى نَظائِرِهِ، فَيَكُونُ المَعْنى: ومِن آياتِهِ إراءَتُهُ إيّاكُمُ البَرْقَ إلَخْ، فَلِذَلِكَ قالَ أيِمَّةُ النَّحْوِ: يَجُوزُ هُنا جَعْلُ الفِعْلِ المُضارِعِ بِمَعْنى المَصْدَرِ مِن غَيْرِ وُجُودِ (أنْ) ولا تَقْدِيرِها، أيْ مِن غَيْرِ نَصْبِ المُضارِعِ بِتَقْدِيرِ (أنْ) مَحْذُوفَةٍ، وجَعَلُوا مِنهُ قَوْلَ عُرْوَةَ بْنِ الوَرْدِ:

وقالُوا ما تَشاءُ فَقُلْتُ ألْهُو إلى الإصْباحِ آثَرُ ذِي آثارِ

وقَوْلَ طَرَفَةَ:

ألا أيُّهَذا الزّاجِرِي أحْضُرُ الوَغى

وجَعَلُوا مِنهُ قَوْلَهُ تَعالى ﴿قُلْ أفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أعْبُدُ أيُّها الجاهِلُونَ﴾ [الزمر: ٦٤] بِرَفْعِ أعْبُدُ في مَشْهُورِ القِراءاتِ، وقَوْلَهم في المَثَلِ: تَسْمَعُ بِالمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِن أنْ تَراهُ، وقَوْلَ النَّبِيءِ ﷺ «كُلُّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةً، وتُعِينُ الرَّجُلَ عَلى دابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْها أوْ تَحْمِلُ عَلَيْها مَتاعَهُ صَدَقَةً» وقَوْلَهَ فِيهِ «وتُمِيطُ الأذى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةً» رَواهُ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ.

ومِن بَدِيعِ الِاسْتِعْمالِ تَفَنُّنُ هَذِهِ الآياتِ في التَّعْبِيرِ عَنْ مَعانِي المَصْدَرِ بِأنْواعِ صِيَغِهِ الوارِدَةِ في الِاسْتِعْمالِ، مِن تَعْبِيرٍ بِصِيغَةِ صَرِيحِ المَصْدَرِ تارَةً كَقَوْلِهِ ﴿ومِن آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الروم: ٢٢] وقَوْلِهِ ﴿وابْتِغاؤُكم مِن فَضْلِهِ﴾ [الروم: ٢٣] وبِالمَصْدَرِ الَّذِي يَنْسَبِكُ مِنِ اقْتِرانِ (أنْ) المَصْدَرِيَّةِ بِالفِعْلِ الماضِي ﴿أنْ خَلَقَ لَكم مِن أنْفُسِكم أزْواجًا﴾ [الروم: ٢١] واقْتِرانِها بِالفِعْلِ المُضارِعِ ﴿ومِن آياتِهِ أنْ تَقُومَ السَّماءُ والأرْضُ بِأمْرِهِ﴾ [الروم: ٢٥]

صفحة ٧٩

وبِاسِمِ المَصْدَرِ تارَةً ﴿ومِن آياتِهِ مَنامُكم بِاللَّيْلِ والنَّهارِ﴾ [الروم: ٢٣] ومَرَّةً بِالفِعْلِ المُجَرَّدِ المُئَوَّلِ بِالمَصْدَرِ ﴿ومِن آياتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ﴾ .

ولَكَ أنْ تَجْعَلَ المَجْرُورَ مُتَعَلِّقًا بِـ (يُرِيكم) وتَكُونُ مِنَ ابْتِدائِيَّةً في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ البَرْقِ، وتَكُونُ جُمْلَةُ يُرِيكُمُ البَرْقَ مَعْطُوفَةً عَلى جُمْلَةِ ﴿ومِن آياتِهِ مَنامُكم بِاللَّيْلِ والنَّهارِ﴾ [الروم: ٢٣] إلَخْ فَيَكُونُ تَغْيِيرُ الأُسْلُوبِ لِأنَّ مَناطَ هَذِهِ الآيَةِ هو تَقْرِيرُ النّاسِ بِها إذْ هي غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِذَواتِهِمْ فَلَيْسَ حَظُّهم مِنها سِوى مُشاهَدَتِها والإقْرارِ بِأنَّها آيَةٌ بَيِّنَةٌ، فَهَذا التَّقْرِيرُ كالَّذِي في قَوْلِهِ تَعالى ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها﴾ [الرعد: ٢] ولِيَتَأتّى عَطْفُ ﴿ويُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ عَلَيْهِ لِأنَّهُ تَكْمِلَةٌ لِهَذِهِ الآيَةِ.

وقَوْلُهُ ﴿خَوْفًا وطَمَعًا﴾ مَفْعُولٌ لِأجْلِهِ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. والمُرادُ: خَوْفًا تَخافُونَهُ وطَمَعًا تَطْمَعُونَهُ. فالمَصْدَرانِ مُئَوَّلانِ بِمَعْنى الإرادَةِ، أيْ إرادَةَ أنْ تَخافُوا خَوْفًا وتَطْمَعُوا. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى البَرْقِ في قَوْلِهِ ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وطَمَعًا﴾ [الرعد: ١٢] في سُورَةِ الرَّعْدِ. وتَقَدَّمَ هُنالِكَ أنَّ خَوْفًا مَفْعُولٌ لَهُ وطَمَعًا كَذَلِكَ وتَوْجِيهُ ذَلِكَ.

وجُعِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ آياتٍ لِانْطِوائِها عَلى دَقائِقَ عَظِيمَةٍ في خَلْقِ القُوى الَّتِي هي أسْبابُ البَرْقِ ونُزُولِ المَطَرِ وخُرُوجِ النَّباتِ مِنَ الأرْضِ بَعْدَ جَفافِها ومَوْتِها. ونِيطَ الِانْتِفاعُ بِهَذِهِ الآياتِ بِأصْحابِ صِفَةِ العَقْلِ لِأنَّ العَقْلَ المُسْتَقِيمَ غَيْرَ المَشُوبِ بِعاهَةِ العِنادِ والمُكابَرَةِ كافٍ في فَهْمِ ما في تِلْكَ المَذْكُوراتِ مِنَ الدَّلائِلِ والحِكَمِ عَلى نَحْوِ ما قُرِّرَ في نَظائِرِهِ آنِفًا.

وإجْراءُ (يَعْقِلُونَ) عَلى لَفْظِ (قَوْمٍ) لِلْإيماءِ إلى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ آنِفًا في مِثْلِهِ.

ومَعْنى اللّامِ في قَوْلِهِ (﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾) مِثْلَ مَعْنى أُخْتِها في قَوْلِهِ (﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: ٢١]) .