صفحة ٩٥

﴿مُنِيبِينَ إلَيْهِ واتَّقُوهُ وأقِيمُوا الصَّلاةَ ولا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ ﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهم وكانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾

مُنِيبِينَ حالٌ مِن ضَمِيرِ فَأقِمْ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ الخِطابَ المُوَجَّهَ إلى النَّبِيءِ ﷺ مُرادٌ مِنهُ نَفْسُهُ والمُؤْمِنُونَ مَعَهُ كَما تَقَدَّمَ.

والمُنِيبُ: المُلازِمُ لِلطّاعَةِ. ويَظْهَرُ أنَّ مَعْنى أنابَ صارَ ذا نَوْبَةٍ، أيْ ذا رُجُوعٍ مُتَكَرِّرٍ وأنَّ الهَمْزَةَ فِيهِ لِلصَّيْرُورَةِ، والنَّوْبَةُ: حِصَّةٌ مِن عَمَلٍ يَتَوَزَّعُهُ عَدَدٌ مِنَ النّاسِ. وأصْلُها: فَعْلَةٌ بِصِيغَةِ المَرَّةِ لِأنَّها مَرَّةٌ مِنَ النَّوْبِ وهو قِيامُ أحَدٍ مَقامَ غَيْرِهِ، ومِنهُ النِّيابَةُ، ويُقالُ: تَناوَبُوا عَمَلَ كَذا. وفي حَدِيثِ عُمَرَ («كُنْتُ أنا وجارٍ لِي مِنَ الأنْصارِ نَتَناوَبُ النُّزُولَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَيَنْزِلُ يَوْمًا وأنْزِلُ يَوْمًا» ) الحَدِيثَ، فَإطْلاقُ المُنِيبِ عَلى المُطِيعِ اسْتِعارَةٌ لِتَعَهُّدِ الطّاعَةِ تَعَهُّدًا مُتَكَرِّرًا، وجُعِلَتْ تِلْكَ الِاسْتِعارَةُ كِنايَةً عَنْ مُواصَلَةِ الطّاعَةِ ومُلازَمَتِها قالَ تَعالى ﴿إنَّ إبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أوّاهٌ مُنِيبٌ﴾ [هود: ٧٥] في سُورَةِ هُودٍ.

وفُسِّرَتِ الإنابَةُ أيْضًا بِالتَّوْبَةِ. وقَدْ قِيلَ: إنَّ نابَ مُرادِفُ تابَ، وهو المُناسِبُ لِقَوْلِهِ في الآيَةِ المُوالِيَةِ ﴿دَعَوْا رَبَّهم مُنِيبِينَ إلَيْهِ﴾ [الروم: ٣٣] . والأمْرُ الَّذِي في قَوْلِهِ ﴿واتَّقُوهُ وأقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ مُسْتَعْمَلٌ في طَلَبِ الدَّوامِ.

والَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهم وكانُوا شِيَعًا: هُمُ المُشْرِكُونَ لِأنَّهُمُ اتَّخَذُوا عِدَّةَ آلِهَةٍ. وإنَّما كُرِّرَتْ مَنِ التَّبْعِيضِيَّةُ لِاعْتِبارِ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهم بَدَلًا مِنَ المُشْرِكِينَ بَدَلًا مُطابِقًا أوْ بَيانًا، فَإظْهارُ حَرْفِ الجَرِّ ثانِيَةً مَعَ الِاسْتِغْناءِ عَنْهُ بِالبَدَلِيَّةِ تَأْكِيدٌ بِإظْهارِ العامِلِ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿تَكُونُ لَنا عِيدًا لِأوَّلِنا وآخِرِنا﴾ [المائدة: ١١٤] وشَأْنُ البَدَلِ والبَيانِ أنْ يَجُوزَ مَعَهُما إظْهارُ العامِلِ المُقَدَّرِ فَيَخْرُجانِ عَنْ إعْرابِ التَّوابِعِ إلى الإعْرابِ المُسْتَقِلِّ ويَكُونانِ في المَعْنى بَدَلًا أوْ بَيانًا ولِهَذا قالَ النُّحاةُ: إنَّ البَدَلَ عَلى نِيَّةِ تِكْرارِ العامِلِ. وقالَ المُحَقِّقُونَ: إنَّ البَدَلَ مُعْرَبٌ بِالعامِلِ المُقَدَّرِ، ومِثْلُهُ البَيانُ وهُما سِيّانِ.

وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مَعْنى ﴿الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهم وكانُوا شِيَعًا﴾ [الأنعام: ١٥٩] في آخِرِ سُورَةِ الأنْعامِ.

صفحة ٩٦

وقَرَأ الجُمْهُورُ (فَرَّقُوا) بِتَشْدِيدِ الرّاءِ. وقَرَأهُ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ (فارَقُوا دِينَهم) بِألِفٍ بَعْدَ الفاءِ فالمُرادُ بِالدِّينِ دِينُ الإسْلامِ. ومَعْنى مُفارَقَتِهِمْ إيّاهُ ابْتِعادُهم مِنهُ، فاسْتُعِيرَتِ المُفارَقَةُ لِلنَّبْذِ إذْ كانَ الإسْلامُ هو الدِّينُ الَّذِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ النّاسَ فَلَمّا لَمْ يَتْبَعُوهُ جَعَلَ إعْراضَهَمْ عَنْهُ كالمُفارَقَةِ لِشَيْءٍ كانَ مُجْتَمِعًا مَعَهُ، ولَيْسَ المُرادُ الِارْتِدادَ عَنِ الإسْلامِ.

والشِّيَعُ: جَمْعُ شِيعَةٍ وهي الجَماعَةُ الَّتِي تُشايِعُ، أيْ تُوافِقُ رَأْيًا، وتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ﴾ [مريم: ٦٩] في سُورَةِ مَرْيَمَ.

والحِزْبُ: الجَماعَةُ الَّذِينَ رَأْيُهم ونَزْعَتُهم واحِدَةٌ. وما لَدَيْهِمْ هو ما اتَّفَقُوا عَلَيْهِ. والفَرَحُ: الرِّضا والِابْتِهاجُ. وهَذِهِ حالَةٌ ذَمِيمَةٌ مِن أحْوالِ أهْلِ الشِّرْكِ يُرادُ تَحْذِيرُ المُسْلِمِينَ مِنَ الوُقُوعِ في مِثْلِها، فَإذا اخْتَلَفُوا في أُمُورِ الدِّينِ الِاخْتِلافَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ اخْتِلافُ الِاجْتِهادِ أوِ اخْتَلَفُوا في الآراءِ والسِّياساتِ لِاخْتِلافِ العَوائِدِ فَلْيَحْذَرُوا أنْ يَجُرَّهم ذَلِكَ الِاخْتِلافُ إلى أنْ يَكُونُوا شِيَعًا مُتَعادِينَ مُتَفَرِّقِينَ يَلْعَنُ بَعْضُهم بَعْضًا ويُذِيقُ بَعْضُهم بَأْسَ بَعْضٍ. وتَقَدَّمَ ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٣] في سُورَةِ المُؤْمِنِينَ.