صفحة ١١٦

﴿مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ومَن عَمِلَ صالِحًا فَلِأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِن فَضْلِهِ إنَّهُ لا يُحِبُّ الكافِرِينَ﴾

هَذِهِ الجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ مَنزِلَةَ البَيانِ لِإجْمالِ الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها وهي ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ القَيِّمِ﴾ [الروم: ٤٣] إذِ التَّثْبِيتُ عَلى الدِّينِ بَعْدَ ذِكْرِ ما أصابَ المُشْرِكِينَ مِنَ الفَسادِ بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ يَتَضَمَّنُ تَحْقِيرَ شَأْنِهِمْ عِنْدَ الرَّسُولِ ﷺ والمُؤْمِنِينَ، فَبَيَّنَ ذَلِكَ بِأنَّهم لا يَضُرُّونَ بِكُفْرِهِمْ إلّا أنْفُسَهَمْ، والَّذِي يَكْشِفُ هَذا المَعْنى تَقْدِيمُ المُسْنَدِ في قَوْلِهِ ﴿فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ فَإنَّهُ يُفِيدُ تَخْصِيصَهُ بِالمُسْنِدِ إلَيْهِ، أيْ فَكُفْرُهُ عَلَيْهِ لا عَلَيْكَ ولا عَلى المُؤْمِنِينَ، ولِهَذا ابْتُدِئَ بِذِكْرِ حالِ مَن كَفَرَ ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدَهُ مَن عَمِلَ صالِحًا. واقْتَضى حَرْفُ الِاسْتِعْلاءِ أنَّ في الكُفْرِ تَبِعَةً وشَدَّةً وضُرًّا عَلى الكافِرِ، لِأنَّ عَلى تَقْتَضِي ذَلِكَ في مِثْلِ هَذا المَقامِ، كَما اقْتَضى اللّامُ في قَوْلِهِ ﴿فَلِأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ أنَّ لِمَجْرُورِها نَفَعًا وغَنْمًا، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: ٢٨٦] . وقالَ تَوْبَةُ بْنُ الحُمَيِّرِ:

وقَدْ زَعَمَتْ لَيْلى بِأنِّيَ فاجِـرٌ لِنَفْسِي تُقاها أوْ عَلَيْها فُجُورُها

وأفْرَدَ ضَمِيرَ كُفْرِهِ رَعْيًا لِلَّفْظِ مَن. وهَذا التَّرْكِيبُ مِن جَوامِعِ الكَلِمِ لِدَلالَتِهِ عَلى ما لا يُحْصى مِنَ المَضارِّ في الكُفْرِ عَلى الكافِرِ وأنَّهُ لا يَضُرُّ غَيْرَهُ، مَعَ تَمامِ الإيجازِ، وهو وعِيدٌ لِأنَّهُ في مَعْنى: مَن كَفَرَ فَجَزاؤُهُ عِقابُ اللَّهِ، فاكْتُفِيَ عَنِ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ اكْتِفاءً بِدَلالَةِ عَلى مِن قَوْلِهِ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وبِمُقابَلَةِ حالِهِمْ بِحالِ مَن عَمِلَ صالِحًا بِقَوْلِهِ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِن فَضْلِهِ﴾ .

وأمّا قَوْلُهُ ﴿ومَن عَمِلَ صالِحًا فَلِأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ فَهو بَيانٌ أيْضًا لِما في جُمْلَةِ ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ القَيِّمِ﴾ [الروم: ٤٣] مِنَ الأمْرِ بِمُلازَمَةِ التَّحَلِّي بِالإسْلامِ وما في ذَلِكَ مِنَ الخَيْرِ العاجِلِ والآجِلِ مَعَ ما تَقْتَضِيهِ عادَةُ القُرْآنِ مِن تَعْقِيبِ النِّذارَةِ بِالبِشارَةِ والتَّرْهِيبِ بِالتَّرْغِيبِ فَهو كالتَّكْمِلَةِ لِلْبَيانِ.

وإنَّما قُوبِلَ مَن كَفَرَ بِمَن عَمِلَ صالَحًا ولَمْ يُقابِلْ بِمَن آمَنَ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ المُؤْمِنِينَ بِأنَّهم أهْلُ الأعْمالِ الصّالِحَةِ دُونَ الكافِرِينَ. فاسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ العَمَلِ

صفحة ١١٧

الصّالِحِ عَنْ ذِكْرِ الإيمانِ لِأنَّهُ يَتَضَمَّنُهُ، ولِتَحْرِيضِ المُؤْمِنِينَ عَلى الأعْمالِ الصّالِحَةِ لِئَلّا يَتَّكِلُوا عَلى الإيمانِ وحْدَهُ فَتَفُوتُهُمُ النَّجاةُ التّامَّةُ. وهَذا اصْطِلاحُ القُرْآنِ في الغالِبِ أنْ يَقْرِنَ الإيمانَ بِالعَمَلِ الصّالِحِ كَما في قَوْلِهِ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ ﴿ويَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَهم في رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآياتِنا ولِقاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ في العَذابِ مُحْضَرُونَ﴾ [الروم: ١٤] حَتّى تَوَهَّمَتِ المُعْتَزِلَةُ والخَوارِجُ أنَّ العَمَلَ الصّالِحَ شَرْطٌ في قَبُولِ الإيمانِ.

وتَقْدِيمُ فَلِأنْفُسِهِمْ عَلى يَمْهَدُونَ لِلِاهْتِمامِ بِهَذا الِاسْتِحْقاقِ ولِلرِّعايَةِ عَلى الفاصِلَةِ ولَيْسَ لِلِاخْتِصاصِ.

ويَمْهَدُونَ يَجْعَلُونَ مِهادًا، والمِهادُ: الفِراشُ. مُثِّلَتْ حالَةُ المُؤْمِنِينَ في عَمَلِهِمُ الصّالِحِ بِحالِ مَن يَتَطَلَّبُ راحَةَ رُقادِهِ فَيُوَطِّئُ فِراشَهُ ويُسَوِّيهُ لِئَلّا يَتَعَرَّضَ لَهُ في مَضْجَعِهِ مِنَ النُّتُوءِ أوِ اليَبْسِ ما يَسْتَفِزُّ مَنامَهُ.

وتَقْدِيمُ لِأنْفُسِهِمْ عَلى يَمْهَدُونَ لِلرِّعايَةِ عَلى الفاصِلَةِ مَعَ الِاهْتِمامِ بِذِكْرِ أنْفُسِ المُؤْمِنِينَ لِأنَّ قَرِينَةَ عَدَمِ الِاخْتِصاصِ واضِحَةٌ.

ورَوْعِيَ في جَمْعِ ضَمِيرِ يَمْهَدُونَ مَعْنى (مَن) دُونَ لَفْظِها مَعَ ما تَقْتَضِيهِ الفاصِلَةُ مِن تَرْجِيحِ تِلْكَ المُراعاةِ.

ويَتَعَلَّقُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا بِـ (يَمْهَدُونَ) أيْ يُمَهِّدُونَ لِعِلَّةٍ أنْ يَجْزِيَ اللَّهُ إيّاهم مِن فَضْلِهِ. وعَدَلَ عَنِ الإضْمارِ إلى الإظْهارِ في قَوْلِهِ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لِلِاهْتِمامِ بِالتَّصْرِيحِ بِأنَّهم أصْحابُ صِلَةِ الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ وأنَّ جَزاءَ اللَّهِ إيّاهم مُناسِبٌ لِذَلِكَ لِتَقْرِيرِ ذَلِكَ في الأذْهانِ، مَعَ التَّنْوِيهِ بِوَصْفِهِمْ ذَلِكَ بِتَكْرِيرِهِ وتَقْرِيرِهِ كَما أنْبَأ عَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَقِبَهُ إنَّهُ لا يُحِبُّ الكافِرِينَ.

وقَدْ فُهِمَ مِن قَوْلِهِ (مِن فَضْلِهِ) أنَّ اللَّهَ يُجازِيهِمْ أضْعافًا لِرِضاهُ عَنْهم ومَحَبَّتِهِ إيّاهم كَما اقْتَضاهُ تَعْلِيلُ ذَلِكَ بِجُمْلَةِ إنَّهُ لا يُحِبُّ الكافِرِينَ المُقْتَضِي أنَّهُ يُحِبُّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ، فَحَصَلَ بِقَوْلِهِ ﴿إنَّهُ لا يُحِبُّ الكافِرِينَ﴾ تَقْرِيرٌ بَعْدَ تَقْرِيرٍ عَلى الطَّرْدِ والعَكْسِ فَإنَّ قَوْلَهُ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ دَلَّ بِصَرِيحِهِ عَلى أنَّهم أهْلُ الجَزاءِ بِالفَضْلِ، ودَلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلى أنَّهم أهْلُ الوِلايَةِ.

صفحة ١١٨

وقَوْلُهُ ﴿إنَّهُ لا يُحِبُّ الكافِرِينَ﴾ يَدُلُّ بِتَعْلِيلِهِ لِما قَبْلَهُ عَلى أنَّ الكافِرِينَ مَحْرُومُونَ مِنَ الفَضْلِ، وبِمَفْهُومِهِ عَلى أنَّ الجَزاءَ مَوْفُورٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فَضْلًا وأنَّ العِقابَ مُعَيَّنٌ لِلْكافِرِينَ عَدْلًا.