﴿ولَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ في هَذا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ولَئِنْ جِئْتَهم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ أنْتُمْ إلّا مُبْطِلُونَ﴾ ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾

لَمّا انْتَهى ما أُقِيمَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِن دَلائِلِ الوَحْدانِيَّةِ وإثْباتِ البَعْثِ عَقِبَ

صفحة ١٣٤

ذَلِكَ بِالتَّنْوِيهِ بِالقُرْآنِ وبُلُوغِهِ الغايَةَ القُصْوى في البَيانِ والهُدى.

والضَّرْبُ حَقِيقَتُهُ: الوَضْعُ والإلْصاقُ. واسْتُعِيرَ في مِثْلِ هَذِهِ الآيَةِ لِلذِّكْرِ والتَّبْيِينِ لِأنَّهُ كَوَضْعِ الدّالِّ بِلَصْقِ المَدْلُولِ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما﴾ [البقرة: ٢٦]، وتَقَدَّمَ أيْضًا آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿ضَرَبَ لَكم مَثَلًا مِن أنْفُسِكُمْ﴾ [الروم: ٢٨]، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَقَدْ صَرَّفْنا لِلنّاسِ في هَذا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ [الإسراء: ٨٩] المُتَقَدَّمِ في سُورَةِ الإسْراءِ، و(النّاسِ) أُرِيدَ بِهِ المُشْرِكُونَ لِأنَّهُمُ المَقْصُودُ مِن تَكْرِيرِ هَذِهِ الأمْثالِ، وعَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ ﴿ولَئِنْ جِئْتَهم بِآيَةٍ﴾ إلَخْ فَهو وصْفٌ لِتَلَقِّي المُشْرِكِينَ أمْثالَ القُرْآنِ فَإذا جاءَهُمُ الرَّسُولُ ﷺ بِآيَةٍ مِنَ القُرْآنِ فِيها إرْشادُهم تَلَقَّوْها بِالِاعْتِباطِ والإنْكارِ البَحْتِ فَقالُوا ﴿إنْ أنْتُمْ إلّا مُبْطِلُونَ﴾ .

وضَمِيرُ جَمْعِ المُخاطِبِ لِلنَّبِيءِ ﷺ لِقَصْدِ تَعْظِيمِهِ مِن جانِبِ اللَّهِ تَعالى وإنَّما يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا: إنْ أنْتَ إلّا مُبْطِلٌ، فَحُكِيَ كَلامُهم بِالمَعْنى لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وقِيلَ: الخِطابُ لِلرَّسُولِ ﷺ والمُؤْمِنِينَ فَهو حِكايَةٌ بِاللَّفْظِ.

وهَذا تَأْنِيسٌ لِلرَّسُولِ ﷺ مِن إيمانِ مُعانَدِيهِ، أيْ أيِمَّةِ الكُفْرِ مِنهم، ولِذَلِكَ اعْتَرَضَ بَعْدَهُ بِجُمْلَةِ ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ المُتَعاطِفَتَيْنِ تَمْهِيدًا لِلْأمْرِ بِالصَّبْرِ عَلى غَلْوائِهِمْ، أيْ تِلْكَ سُنَّةُ أمْثالِهِمْ، أيْ مِثْلَ ذَلِكَ الطَّبْعِ الَّذِي عَلِمْتَهُ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ، وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣] في سُورَةِ البَقَرَةِ وفي مَواضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ القُرْآنِ.

والطَّبْعُ عَلى القَلْبِ: تَصْيِيرُهُ غَيْرَ قابِلٍ لِفَهْمِ الأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وهو الخَتْمُ، وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة: ٧] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

و”الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ“ مُرادٌ بِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أنْفُسُهم، فَعَدَلَ عَنِ الإضْمارِ لِزِيادَةِ وصْفِهِمْ بِانْتِفاءِ العِلْمِ عَنْهم بَعْدَ أنْ وُصِفُوا: بِالمُجْرِمِينَ، والَّذِينَ ظَلَمُوا، والَّذِينَ كَفَرُوا.