﴿يا بُنَيِّ أقِمِ الصَّلاةَ وأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنْكَرِ واصْبِرْ عَلى ما أصابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِن عَزْمِ الأُمُورِ﴾

انْتَقَلَ مِن تَعْلِيمِهِ أُصُولَ العَقِيدَةِ إلى تَعْلِيمِهِ أُصُولَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ فابْتَدَأها بِإقامَةِ الصَّلاةِ، والصَّلاةُ التَّوَجُّهُ إلى اللَّهِ بِالخُضُوعِ والتَّسْبِيحِ والدُّعاءِ في أوْقاتٍ مُعَيَّنَةٍ في الشَّرِيعَةِ الَّتِي يَدِينُ بِها لُقْمانُ، والصَّلاةُ عِمادُ الأعْمالِ لِاشْتِمالِها عَلى الِاعْتِرافِ بِطاعَةِ اللَّهِ وطَلَبِ الِاهْتِداءِ لِلْعَمَلِ الصّالِحِ.

وإقامَةُ الصَّلاةِ إدامَتُها والمُحافَظَةُ عَلى أدائِها في أوْقاتِها. وتَقَدَّمَ في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ.

وشَمِلَ الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ الإتْيانَ بِالأعْمالِ الصّالِحَةِ كُلِّها عَلى وجْهِ الإجْمالِ لِيَتَطَلَّبَ

صفحة ١٦٥

بَيانُهُ في تَضاعِيفِ وصايا أبِيهِ كَما شَمِلَ النَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ اجْتِنابَ الأعْمالِ السَّيِّئَةِ كَذَلِكَ.

والأمْرُ بِأنْ يَأْمُرَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهى عَنِ المُنْكَرِ يَقْتَضِي إيتانَ الأمْرِ وانْتِهاءَهُ في نَفْسِهِ لِأنَّ الَّذِي يَأْمُرُ بِفِعْلِ الخَيْرِ ويَنْهى عَنْ فِعْلِ الشَّرِّ يَعْلَمُ ما في الأعْمالِ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ، ومَصالِحَ ومَفاسِدَ، فَلا جَرَمَ أنْ يَتَوَقّاها في نَفْسِهِ بِالأوْلَوِيَّةِ مِن أمْرِهِ النّاسَ ونَهْيِهِ إيّاهم.

فَهَذِهِ كَلِمَةٌ جامِعَةٌ مِنَ الحِكْمَةِ والتَّقْوى إذْ جَمَعَ لِابْنِهِ الإرْشادَ إلى فِعْلِهِ الخَيْرَ وبَثِّهِ في النّاسِ وكَفِّهِ عَنِ الشَّرِّ وزَجْرِهِ النّاسَ عَنِ ارْتِكابِهِ، ثُمَّ أعْقَبَ ذَلِكَ بِأنْ أمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلى ما يُصِيبُهُ.

وُوجْهُ تَعْقِيبِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ بِمُلازَمَةِ الصَّبْرِ أنَّ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ قَدْ يَجُرّانِ لِلْقائِمِ بِهِما مُعاداةً مِن بَعْضِ النّاسِ أوْ أذًى مِن بَعْضٍ فَإذا لَمْ يَصْبِرْ عَلى ما يُصِيبُهُ مِن جَرّاءِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ أوْشَكَ أنْ يَتْرُكَهُما.

ولَمّا كانَتْ فائِدَةُ الصَّبْرِ عائِدَةً عَلى الصّابِرِ بِالأجْرِ العَظِيمِ عُدَّ الصَّبْرُ هُنا في عِدادِ الأعْمالِ القاصِرَةِ عَلى صاحِبِها ولَمْ يَلْتَفِتْ إلى ما في تَحَمُّلِ أذى النّاسِ مِن حُسْنِ المُعامَلَةِ مَعَهم حَتّى يَذْكُرَ الصَّبْرَ مَعَ قَوْلِهِ (ولا تُصاعِرْ خَدَّكَ لِلنّاسِ) لِأنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هو المَقْصُودُ الأوَّلُ مِنَ الأمْرِ بِالصَّبْرِ.

والصَّبْرُ: هو تَحَمُّلُ ما يَحِلُّ بِالمَرْءِ مِمّا يُؤْلِمُ أوْ يُحْزِنُ. وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ﴾ [البقرة: ٤٥] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

وجُمْلَةُ ﴿إنَّ ذَلِكَ مِن عَزْمِ الأُمُورِ﴾ مَوْقِعُها كَمُوقِعِ جُمْلَةِ ﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] .

وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: ١٦] يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مِن كَلامِ لُقْمانَ وأنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى.

صفحة ١٦٦

والإشارَةُ بِـ (ذَلِكَ) إلى المَذْكُورِ مِن إقامَةِ الصَّلاةِ والأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ والصَّبْرِ عَلى ما أصابَ. والتَّأْكِيدُ لِلِاهْتِمامِ.

والعَزْمُ مَصْدَرٌ بِمَعْنى: الجَزْمِ والإلْزامِ. والعَزِيمَةُ: الإرادَةُ الَّتِي لا تَرَدُّدَ فِيها.

و”عَزْمِ“ مَصْدَرٌ بِمَعْنى المَفْعُولِ، أيْ مِن مَعْزُومِ الأُمُورِ، أيِ الَّتِي عَزَمَها اللَّهُ وأوْجَبَها.