﴿ألَمْ تَرَ أنَّ الفُلْكَ تَجْرِي في البَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكم مِن آياتِهِ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ﴾ ﴿وإذا غَشِيَهم مَوْجٌ كالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمّا نَجّاهم إلى البَرِّ فَمِنهم مُقْتَصِدٌ وما يَجْحَدُ بِآياتِنا إلّا كُلُّ خَتّارٍ كَفُورٍ﴾

اسْتِئْنافٌ جاءَ عَلى سُنَنِ الِاسْتِئْنافَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ في قَوْلِهِ ﴿ألَمْ تَرَوْا أنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكم ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ [لقمان: ٢٠] وقَوْلِهِ ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ﴾ [لقمان: ٢٩]، وجِيءَ بِها غَيْرَ مُتَعاطِفَةٍ لِئَلّا يَتَوَهَّمَ السّامِعُ أنَّ العَطْفَ عَلى ما تَخَلَّلَ مِنها، وجاءَ هَذا الِاسْتِئْنافُ الثّالِثُ دَلِيلًا ثالِثًا عَلى عَظِيمِ حِكْمَةِ اللَّهِ في نِظامِ هَذا العالِمِ وتَوْفِيقِ البَشَرِ لِلِانْتِفاعِ بِما هَيَّأهُ اللَّهُ لِانْتِفاعِهِمْ بِهِ.

فَلَمّا أتى الِاسْتِئْنافانِ الأوَّلانِ عَلى دَلائِلِ صُنْعِ اللَّهِ في السَّماواتِ والأرْضِ جاءَ في هَذا الثّالِثِ دَلِيلٌ عَلى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ بِخَلْقِ البَحْرِ وتَيْسِيرِ الِانْتِفاعِ بِهِ في إقامَةِ نِظامِ

صفحة ١٨٩

المُجْتَمَعِ البَشَرِيِّ، وتَخَلَّصَ مِنهُ إلى اتِّخاذِ فَرِيقٍ مِنَ النّاسِ مُوجِباتِ الشُّكْرِ دَواعِيَ كُفْرٍ.

فَكانَ خَلْقُ البَحْرِ عَلى هَذِهِ الصِّفَةِ العَظِيمَةِ مُيَسِّرًا لِلِانْتِفاعِ بِالأسْفارِ فِيهِ حِينَ لا تُغْنِي طُرُقُ البَرِّ في التَّنَقُّلِ غَناءً فَجَعَلَهُ قابِلًا لِحَمْلِ المَراكِبِ العَظِيمَةِ، وألْهَمَ الإنْسانَ لِصُنْعِ تِلْكَ المَراكِبِ عَلى كَيْفِيَّةٍ تَحْفَظُها مِنَ الغَرَقِ في عُبابِ البَحْرِ، وعَصَمَهم مِن تَوالِي الرِّياحِ والمَوْجِ في أسْفارِهِمْ، وهَداهم إلى الحِيلَةِ في مُصانَعَتِها إذا طَرَأتْ حَتّى تَنْجَلِيَ، ولِذَلِكَ وصَفَ هَذا الجَرْيَ بِمُلابَسَةِ نِعْمَةِ اللَّهِ فَإنَّ النّاسَ كُلَّما مَخَرَتْ بِهِمُ الفُلْكُ في البَحْرِ كانُوا مُلابِسِينَ لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالسَّلامَةِ إلّا في أحْوالٍ نادِرَةٍ، وقَدْ سُمِّيَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ أمْرًا في قَوْلِهِ ﴿والفُلْكَ تَجْرِي في البَحْرِ بِأمْرِهِ﴾ [الحج: ٦٥] في سُورَةِ الحَجِّ، أيْ بِتَقْدِيرِهِ ونِظامِ خَلْقِهِ.

وتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ في قَوْلِهِ ﴿فَإذا رَكِبُوا في الفُلْكِ﴾ [العنكبوت: ٦٥] في سُورَةِ العَنْكَبُوتِ، وفي قَوْلِهِ ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكم في البَرِّ والبَحْرِ﴾ [يونس: ٢٢] الآياتِ مِن سُورَةِ يُونُسَ وقَوْلِهِ ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكم ما في الأرْضِ والفُلْكَ تَجْرِي في البَحْرِ بِأمْرِهِ﴾ [الحج: ٦٥] في سُورَةِ الحَجِّ.

ويَتَعَلَّقُ لِيُرِيَكم بِـ (تَجْرِي) أيْ تَجْرِي في البَحْرِ جَرْيًا، عِلَّةُ خَلْقِهِ أنْ يُرِيَكُمُ اللَّهُ بَعْضَ آياتِهِ، أيْ آياتِهِ لَكم فَلَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ الآياتِ لِظُهُورِهِ مِن قَوْلِهِ لِيُرِيَكم وجَرْيُ الفُلْكِ في البَحْرِ آيَةٌ مِن آياتِ القُدْرَةِ في بَدِيعِ الصُّنْعِ أنْ خَلَقَ ماءَ البَحْرِ بِنِظامٍ، وخَلَقَ الخَشَبَ بِنِظامٍ، وجَعَلَ لِعُقُولِ النّاسِ نِظامًا فَحَصَلَ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ إمْكانُ سَيْرِ الفُلْكِ فَوْقَ عُبابِ البَحْرِ.

والمَعْنى أنَّ جَرْيَ السُّفُنِ فِيهِ حِكَمٌ كَثِيرَةٌ مَقْصُودَةٌ مِن تَسْخِيرِهِ، مِنها أنْ يَكُونَ آيَةً لِلنّاسِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ ووَحْدانِيَّتِهِ وعِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ.

ولَيْسَ يَلْزَمُ مِن لامِ التَّعْلِيلِ انْحِصارُ الغَرَضِ مِنَ المُعَلَّلِ في مَدْخُولِها لِأنَّ العِلَلَ جُزْئِيَّةٌ لا كُلِّيَّةٌ.

وجُمْلَةُ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ﴾ لَها مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ يُرِيَكم مِن آياتِهِ. ولَها مَوْقِعُ الِاسْتِئْنافِ البَيانِيِّ إذْ يَخْطُرُ بِبالِ السّامِعِ أنْ يَسْألَ: كَيْفَ لَمْ يَهْتَدِ المُشْرِكُونَ بِهَذِهِ الآياتِ، فَأُفِيدَ أنَّ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِدَلالَتِها عَلى

صفحة ١٩٠

مَدْلُولِها هو (﴿لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ﴾) ثَناءً عَلى هَذا الفَرِيقِ صَرِيحًا، وتَعْرِيضًا بِالَّذِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِدَلالَتِها.

واقْتِرانُ الجُمْلَةِ بِحَرْفِ إنَّ لِأنَّهُ يُفِيدُ في مِثْلِ هَذا المَقامِ مَعْنى التَّعْلِيلِ والتَّنْسِيبِ.

وجَعَلَ ذَلِكَ عِدَّةَ آياتٍ لِأنَّ في ذَلِكَ دَلائِلَ كَثِيرَةً، أيِ الَّذِينَ لا يُفارِقُهُمُ الوَصْفانِ.

والصَّبّارُ: مُبالَغَةٌ في المَوْصُوفِ بِالصَّبْرِ، والشَّكُورُ كَذَلِكَ، أيِ الَّذِينَ لا يُفارِقُهُمُ الوَصْفانِ. وهَذانِ وصْفانِ لِلْمُؤْمِنِينَ المُوَحِّدِينَ في الصَّبْرِ لِلضَّرّاءِ والشُّكْرِ لِلسَّرّاءِ إذْ يَرْجُونَ بِهِمْ رِضى اللَّهِ تَعالى الَّذِي لا يَتَوَكَّلُونَ إلّا عَلَيْهِ في كَشْفِ الضُّرِّ والزِّيادَةِ مِنَ الخَيْرِ. وقَدْ تَخَلَّقُوا بِذَلِكَ بِما سَمِعُوا مِنَ التَّرْغِيبِ في الوَصْفَيْنِ والتَّحْذِيرِ مِن ضِدَّيْهِما قالَ ﴿والصّابِرِينَ في البَأْساءِ والضَّرّاءِ وحِينَ البَأْسِ﴾ [البقرة: ١٧٧] وقالَ ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: ٧] فَهم بَيْنَ رَجاءِ الثَّوابِ وخَوْفِ العِقابِ لِأنَّهم آمَنُوا بِالحَياةِ الخالِدَةِ ذاتِ الجَزاءِ وعَلِمُوا أنَّ مَصِيرَهم إلى اللَّهِ الَّذِي أمَرَ ونَهى، فَصارا لَهم خُلُقًا تَطَبَّعُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يُفارِقاهُمُ البَتَّةَ أوْ إلّا نادِرًا؛ فَأمّا المُشْرِكُونَ فَنَظَرُهم قاصِرٌ عَلى الحَياةِ الحاضِرَةِ فَهم أُسَراءُ العالَمِ الحِسِّيِّ فَإذا أصابَهم ضُرٌّ ضَجِرُوا وإذا أصابَهم نَفْعٌ بَطَرُوا، فَهم أخْلِياءُ مِنَ الصَّبْرِ والشُّكْرِ، فَلِذَلِكَ كانَ قَوْلُهُ ﴿لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ﴾ كِنايَةً رَمْزِيَّةً عَنِ المُؤْمِنِينَ وتَعْرِيضًا رَمْزِيًّا بِالمُشْرِكِينَ.

ووَجْهُ إيثارِ خُلُقَيِ الصَّبْرِ والشُّكْرِ هُنا لِلْكِنايَةِ بِهِما، مِن شُعَبِ الإيمانِ، أنَّهُما أنْسَبُ بِمَقامِ السَّيْرِ في البَحْرِ إذْ راكِبُ البَحْرِ بَيْنَ خَطَرٍ وسَلامَةٍ وهُما مَظْهَرُ الصَّبْرِ والشُّكْرِ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكم في البَرِّ والبَحْرِ حَتّى إذا كُنْتُمْ في الفُلْكِ﴾ [يونس: ٢٢] الآيَةَ في سُورَةِ يُونُسَ.

وفِي قَوْلِهِ ﴿لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ﴾ حُسْنُ التَّخَلُّصِ إلى التَّفْصِيلِ الَّذِي عَقَّبَهُ في قَوْلِهِ ﴿وإذا غَشِيَهم مَوْجٌ كالظُّلَلِ﴾ الآيَةَ، فَعُطِفَ عَلى آياتِ سَيْرِ الفُلْكِ إشارَةً إلى أنَّ النّاسَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عِنْدَ تِلْكَ الآياتِ عِنْدَ الِاضْطِرارِ، وغَفْلَتِهِمْ عَنْها في حالِ السَّلامَةِ، وهو ما تَقَدَّمَ مِثْلُهُ في قَوْلِهِ في سُورَةِ العَنْكَبُوتِ ﴿فَإذا رَكِبُوا في الفُلْكِ

صفحة ١٩١

دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمّا نَجّاهم إلى البَرِّ إذا هم يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٥] وقَوْلِهِ في سُورَةِ يُونُسَ ﴿حَتّى إذا كُنْتُمْ في الفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ [يونس: ٢٢] الآياتِ.

والغِشْيانُ مُسْتَعارٌ لِلْمَجِيءِ لِأنَّهُ يُشْبِهُ التَّغْطِيَةَ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ﴾ [الأعراف: ٥٤] في سُورَةِ الأعْرافِ.

والظُّلَلُ: بِضَمِّ الظّاءِ وفَتْحِ اللّامِ: جَمْعُ ظُلَّةٍ بِالضَّمِّ وهي: ما أظَلَّ مِن سَحابٍ.

والفاءُ في قَوْلِهِ ﴿فَمِنهم مُقْتَصِدٌ﴾ تَدُلُّ عَلى مُقَدَّرٍ كَأنَّهُ قِيلَ: فَلَمّا نَجّاهُمُ انْقَسَمُوا فَمِنهم مُقْتَصِدٌ ومِنهم غَيْرُهُ كَما سَيَأْتِي. وجَعَلَ ابْنُ مالِكٍ الفاءَ داخِلَةً عَلى جَوابِ (لَمّا) أيْ رابِطَةً لِلْجَوابِ ومُخالِفُوهُ يَمْنَعُونَ اقْتِرانَ جَوابِ (لَمّا) بِالفاءِ كَما في مُغْنِي اللَّبِيبِ.

والمُقْتَصِدُ: الفاعِلُ لِلْقَصْدِ وهو التَّوَسُّطُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، والمَقامُ دَلِيلٌ عَلى أنَّ المُرادَ الِاقْتِصادُ في الكُفْرِ لِوُقُوعِ تَذْيِيلِهِ بِقَوْلِهِ ﴿وما يَجْحَدُ بِآياتِنا إلّا كُلُّ خَتّارٍ كَفُورٍ﴾ ولِقَوْلِهِ في نَظِيرِهِ في سُورَةِ العَنْكَبُوتِ ﴿فَلَمّا نَجّاهم إلى البَرِّ إذا هم يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٥]، وقَدْ يُطْلَقُ المُقْتَصِدُ عَلى الَّذِي يَتَوَسَّطُ حالُهُ بَيْنَ الصَّلاحِ وضِدِّهِ. كَما قالَ تَعالى ﴿مِنهم أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وكَثِيرٌ مِنهم ساءَ ما يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: ٦٦] .

والجاحِدُ الكَفُورُ: هو المُفْرِطُ في الكُفْرِ والجَحْدُ. والجُحُودُ: الإنْكارُ والنَّفْيُ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَكِنَّ الظّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣] في سُورَةِ الأنْعامِ. وعُلِمَ أنَّ هُنالِكَ قِسْمًا ثالِثًا وهو المُوقِنُ بِالآياتِ الشّاكِرُ لِلنِّعْمَةِ وأُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ قالَ في سُورَةِ فاطِرَ ﴿فَمِنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ومِنهم مُقْتَصِدٌ ومِنهم سابِقٌ بِالخَيْراتِ﴾ [فاطر: ٣٢] وهَذا الِاقْتِصارُ كَقَوْلِ جَرِيرٍ:

كانَتْ حَنِيفَةُ أثْلاثًا فَثُلْثـُهُـمُ مِنَ العَبِيدِ وثُلْثٌ مِن مَوالِيها

أيْ والثُّلْثُ الآخَرُ مِن أنْفُسِهِمْ.

والخَتّارُ: الشَّدِيدُ الخَتْرِ، والخَتْرُ: أشَدُّ الغَدْرِ.

وجُمْلَةُ وما يَجْحَدُ إلى آخِرِها تَذْيِيلٌ لِأنَّها تَعُمُّ كُلَّ جاحِدٍ سَواءٌ مَن جَحَدَ آيَةَ

صفحة ١٩٢

سَيْرِ الفُلْكِ وهَوْلِ البَحْرِ ويَجْحَدُ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالنَّجاةِ ومَن يَجْحَدُ غَيْرَ ذَلِكَ مِن آياتِ اللَّهِ ونِعَمِهِ، والمَعْنى: ومِنهم جاحِدٌ بِآياتِنا.

وفِي الِانْتِقالِ مِنَ الغَيْبَةِ إلى التَّكَلُّمِ في قَوْلِهِ بِآياتِنا التِفاتٌ.

والباءُ في بِآياتِنا لِتَأْكِيدِ تَعْدِيَةِ الفِعْلِ إلى المَفْعُولِ مِثْلَ قَوْلِهِ ﴿وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ [المائدة: ٦]، وقَوْلِ النّابِغَةِ:

لَكَ الخَيْرُ إنْ وارَتْ بِكَ الأرْضُ واحِدًا

وقَوْلِهِ تَعالى ﴿وما نُرْسِلُ بِالآياتِ إلّا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء: ٥٩] .