Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿ويَقُولُونَ مَتى هَذا الفَتْحُ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ ﴿قُلْ يَوْمَ الفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إيمانُهم ولا هم يُنْظَرُونَ﴾ ﴿فَأعْرِضْ عَنْهم وانْتَظِرْ إنَّهم مُنْتَظِرُونَ﴾
يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ ثُمَّ أعْرَضَ عَنْها، أيْ أعْرَضُوا عَنْ سَماعِ الآياتِ والتَّدَبُّرِ فِيها وتَجاوَزُوا ذَلِكَ إلى التَّكْذِيبِ والتَّهَكُّمِ بِها. ومُناسَبَةُ ذِكْرِ ذَلِكَ هُنا أنَّهُ وقَعَ عَقِبَ الإشارَةِ إلى دَلِيلِ وُقُوعِ البَعْثِ وهو يَوْمُ الفَصْلِ.
ويَجُوزُ أنْ يُعْطَفَ عَلى جُمْلَةِ (﴿وقالُوا أاْذا ضَلَلْنا في الأرْضِ إنّا لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [السجدة: ١٠]) .
والمَعْنى: أنَّهم كَذَّبُوا بِالبَعْثِ وما مَعَهُ مِنَ الوَعِيدِ في الآخِرَةِ وكَذَّبُوا بِوَعِيدِ عَذابِ الدُّنْيا الَّذِي مِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَنُذِيقَنَّهم مِنَ العَذابِ الأدْنى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ﴾ [السجدة: ٢١] .
والفَتْحُ: النَّصْرُ والقَضاءُ. والمُرادُ بِهِ: نَصْرُ أهْلِ الإيمانِ بِظُهُورِ فَوْزِهِمْ وخَيْبَةِ أعْدائِهِمْ فَإنَّ خَيْبَةَ العَدُوِّ نَصْرٌ لِضِدِّهِ وكانَ المُسْلِمُونَ يَتَحَدَّوْنَ المُشْرِكِينَ بِأنَّ اللَّهَ سَيَفْتَحُ بَيْنَهم ويَنْصُرُهم وتَظْهَرُ حُجَّتُهم، فَكانَ الكافِرُونَ يُكَرِّرُونَ التَّهَكُّمَ بِالمُسْلِمِينَ بِالسُّؤالِ عَنْ وقْتِ هَذا الفَتْحِ اسْتِفْهامًا مُسْتَعْمَلًا في التَّكْذِيبِ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلِ المُسْتَفْهَمُ عَنْهُ.
وحِكايَةُ قَوْلِهِمْ بِصِيغَةِ المُضارِعِ لِإفادَةِ التَّعْجِيبِ مِنهُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُجادِلُنا في قَوْمِ لُوطٍ﴾ [هود: ٧٤] مَعَ إفادَةِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنهم واتِّخاذِهِمْ إيّاهُ.
والمَعْنى: إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنَّهُ واقِعٌ فَبَيِّنُوا لَنا وقْتَهُ فَإنَّكم إذْ عَلِمْتُمْ بِهِ دُونَ غَيْرِكم فَلْتَعْلَمُوا وقْتَهُ. وهَذا مِنَ السَّفْسَطَةِ الباطِلَةِ لِأنَّ العِلْمَ بِالشَّيْءِ إجْمالًا لا يَقْتَضِي العِلْمَ بِتَفْصِيلِ أحْوالِهِ حَتّى يُنْسَبَ الَّذِي لا يَعْلَمُ تَفْصِيلَهُ إلى الكَذِبِ في إجْمالِهِ.
صفحة ٢٤٣
واسْمُ الإشارَةِ في هَذا الفَتْحِ مَعَ إمْكانِ الِاسْتِغْناءِ عَنْهُ بِذِكْرِ مُبَيِّنِهِ مَقْصُودٌ مِنهُ التَّحْقِيرُ وقِلَّةُ الِاكْتِراثِ بِهِ كَما في قَوْلِ قَيْسِ بْنِ الخَطِيمِ:مَتى يَأْتِ هَذا المَوْتُ لا يُلْفِ حاجَةً لِنَفْسِي إلّا قَدْ قَضَيْتُ قَضاءَها
إنْباءً بِقِلَّةِ اكْتِراثِهِ بِالمَوْتِ. ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى حِكايَةً عَنْهم: ﴿أهَذا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾ [الأنبياء: ٣٦] فَأمَرَ اللَّهُ الرَّسُولَ ﷺ بِأنْ يُجِيبَهم عَلى طَرِيقَةِ الأُسْلُوبِ الحَكِيمِ بِأنَّ يَوْمَ الفَتْحِ الحَقِّ هو يَوْمُ القِيامَةِ وهو يَوْمُ الفَصْلِ وحِينَئِذٍ يَنْقَطِعُ أمَلُ الكُفّارِ في النَّجاةِ والِاسْتِفادَةِ مِنَ النَّدامَةِ والتَّوْبَةِ ولا يَجِدُونَ إنْظارًا لِتَدارُكِ ما فاتَهم، أيْ إفادَتُهم هَذِهِ المَوْعِظَةَ خَيْرٌ لَهم مَن تَطَلُّبِهِمْ مَعْرِفَةَ وقْتِ حُلُولِ يَوْمِ الفَتْحِ لِأنَّهم يَقُولُونَ يَوْمَئِذٍ ﴿رَبَّنا أبْصَرْنا وسَمِعْنا فارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحًا إنّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة: ١٢] مَعَ ما في هَذا الجَوابِ مِنَ الإيماءِ إلى أنَّ زَمَنَ حُلُولِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلنّاسِ وأنَّهُ مِمّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ فَعَلى مَن يَحْتاطُ لِنَجاةِ نَفْسِهِ أنْ يَعْمَلَ لَهُ مِنَ الآنِ فَإنَّهُ لا يَدْرِي مَتى يَحِلُّ بِهِ فَـ ﴿لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْرًا﴾ [الأنعام: ١٥٨] .فَفِي هَذا الجَوابِ سُلُوكُ الأُسْلُوبِ الحَكِيمِ مِن وجْهَيْنِ: مِن وجْهِ العُدُولِ عَنْ تَعْيِينِ يَوْمِ الفَتْحِ، ومِن وجْهِ العُدُولِ بِهِمْ إلى يَوْمِ الفَتْحِ الحَقِّ، وهم إنَّما أرادُوا بِالفَتْحِ نَصْرَ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ في الحَياةِ الدُّنْيا.
وإظْهارُ وصْفِ الَّذِينَ كَفَرُوا في مَقامِ الإضْمارِ مَعَ أنَّهم هُمُ القائِلُونَ ﴿مَتى هَذا الفَتْحُ﴾ لِقَصْدِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِأنَّ كُفْرَهم هو سَبَبُ خَيْبَتِهِمْ.
ثُمَّ فُرِّعَ عَلى جَمِيعِ هَذِهِ المُجادَلاتِ والدَّلالاتِ تَوْجِيهُ اللَّهِ خِطابَهَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِأنْ يُعْرِضَ عَنْ هَؤُلاءِ القائِلِينَ المُكَذِّبِينَ وأنْ لا يَزِيدَ في الإلْحاحِ عَلَيْهِمْ تَأْيِيسًا مِن إيمانِ المُجادِلِينَ مِنهُمُ المُتَصَدِّينَ لِلتَّمْوِيهِ عَلى دَهْمائِهِمْ. وهَذا إعْراضُ مُتارَكَةٍ عَنِ الجِدالِ وقْتِيًّا لا إعْراضٌ مُسْتَمِرٌّ، ولا عَنِ الدَّعْوَةِ إلى اللَّهِ ولا عَلاقَةَ لَهُ بِأحْكامِ الجِهادِ المَشْرُوعِ في غَيْرِ هَذِهِ الآيَةِ.
والِانْتِظارُ: التَّرَقُّبُ. وأصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّظَرِ فَكَأنَّهُ مُطاوِعُ أنْظَرَهُ، أيْ أراهُ فانْتَظَرَ، أيْ تَكَلَّفَ أنْ يَنْظُرَ.
وحُذِفَ مَفْعُولُ انْتَظِرْ لِلتَّهْوِيلِ، أيِ انْتَظِرْ أيّامًا يَكُونُ لَكَ فِيها النَّصْرُ،
صفحة ٢٤٤
ويَكُونُ لَهم فِيها الخُسْرانُ مِثْلَ سِنِي الجُوعِ إنْ كانَ حَصَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، ومِثْلَ يَوْمِ بَدْرٍ ويَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ وهُمّا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ لا مَحالَةَ، فَفي الأمْرِ بِالِانْتِظارِ تَعْرِيضٌ بِالبِشارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّظَرِ، وتَعْرِيضٌ بِالوَعِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ بِالعَذابِ في الدّارَيْنِ.وجُمْلَةُ إنَّهم مُنْتَظِرُونَ تَعْلِيلٌ لِما تُضَمَّنَهُ الأمْرُ بِالِانْتِظارِ مِن إضْمارِ العَذابِ لَهم. ومَفْعُولُ مُنْتَظِرُونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّياقُ، أيْ مُنْتَظِرُونَ لَكُمُ الفُرْصَةَ لِحَرْبِكم أوْ لِإخْراجِكم قالَ تَعالى: ﴿أمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ﴾ [الطور: ٣٠] وقالَ: ﴿ويَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ﴾ [التوبة: ٩٨] أيْ لَمْ نَكُنْ ظالِمِينَ في تَقْدِيرِ العَذابِ لَهم لِأنَّهم بَدَءُوا بِالظُّلْمِ.
* * *
صفحة ٢٤٥
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِسُورَةُ الأحْزابِ
هَكَذا سُمِّيَتْ (سُورَةُ الأحْزابِ) في المَصاحِفِ وكُتُبِ التَّفْسِيرِ والسُّنَّةِ، وكَذَلِكَ رُوِيَتْ تَسْمِيَتُها عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِأسانِيدَ مَقْبُولَةٍ. ولا يُعْرَفُ لَها اسْمٌ غَيْرُهُ. ووَجْهُ التَّسْمِيَةِ أنَّ فِيها ذِكْرَ أحْزابِ المُشْرِكِينَ مِن قُرَيْشٍ ومَن تَحَزَّبَ مَعَهم أرادُوا غَزْوَ المُسْلِمِينَ في المَدِينَةِ فَرَدَّ اللَّهُ كَيْدَهم وكَفى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتالَ.
وهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفاقِ، وسَيَأْتِي عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ آيَةَ ﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ﴾ [الأحزاب: ٣٦] إلَخْ نَزَلَتْ في تَزْوِيجِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ مِن زَيْدِ بْنِ حارِثَةَ في مَكَّةَ.
وهِيَ التِّسْعُونَ في عِدادِ السُّوَرِ النّازِلَةِ مِنَ القُرْآنِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الأنْفالِ، وقَبْلَ سُورَةِ المائِدَةِ.
وكانَ نُزُولُها عَلى قَوْلِ ابْنِ إسْحاقَ أواخِرَ سَنَةِ خَمْسٍ مِنَ الهِجْرَةِ وهو الَّذِي جَرى عَلَيْهِ
ابْنُ رُشْدٍ في البَيانِ والتَّحْصِيلِ. ورَوى ابْنُ وهْبٍ وابْنُ القاسِمِ عَنْ مالِكٍ: أنَّها كانَتْ سَنَةَ أرْبَعٍ وهي سَنَةُ غَزْوَةِ الأحْزابِ وتُسَمّى غَزْوَةُ الخَنْدَقِ حِينَ أحاطَ جَماعاتٌ مِن قُرَيْشٍ وأحابِيشِهِمْ وكِنانَةَ وغَطَفانَ وكانُوا عَشَرَةَ آلافٍ وكانَ المُسْلِمُونَ ثَلاثَةَ آلافٍ وعَقِبَتْها غَزْوَةُ قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ.
وعَدَدُ آيِها ثَلاثٌ وسَبْعُونَ بِاتِّفاقِ أصْحابِ العَدَدِ.
ومِمّا يَجِبُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ مِمّا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ السُّورَةِ ما رَواهُ الحاكِمُ والنَّسائِيُّ وغَيْرُهُما عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قالَ: قالَ لِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: كَأيِّنْ تَعُدُّونَ سُورَةَ الأحْزابِ ؟ قالَ:
صفحة ٢٤٦
قُلْتُ: ثَلاثًا وسَبْعِينَ آيَةً. قالَ: أقَطْ (بِهَمْزَةِ اسْتِفْهامٍ دَخَلَتْ عَلى قَطْ، أيْ حَسْبُ) فَوالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ أُبَيٌّ: إنْ كانَتْ لَتَعْدِلُ سُورَةَ البَقَرَةِ. ولَقَدْ قَرَأْنا فِيها (الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ إذا زَنَيا فارْجُمُوهُما البَتِّيَّةَ نَكالًا مِنَ اللَّهِ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فَرُفِعَ فِيما رُفِعَ، أيْ نُسِخَ فِيما نُسِخَ مِن تِلاوَةِ آياتِها. وما رَواهُ أبُو عَبِيدٍ القاسِمُ بْنُ سَلّامٍ بِسَنَدِهِ وابْنُ الأنْبارِيِّ بِسَنَدِهِ «عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: كانَتْ سُورَةُ الأحْزابِ تُقْرَأُ في زَمانِ النَّبِيءِ ﷺ مِائَتَيْ آيَةٍ فَلَمّا كَتَبَ عُثْمانُ المَصاحِفَ لَمْ يَقْدِرْ مِنها إلّا عَلى ما هو الآنَ» . وكَلامُ الخَبَرَيْنِ ضَعِيفُ السَّنَدِ.ومَحْمَلُ الخَبَرِ الأوَّلِ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ أنَّ أُبَيًّا حَدَّثَ عَنْ سُورَةِ الأحْزابِ قَبْلَ أنْ يُنْسَخَ مِنها ما نُسِخَ. فَمِنهُ ما نُسِخَتْ تِلاوَتُهُ وحُكْمُهُ ومِنهُ ما نُسِخَتْ تِلاوَتُهُ خاصَّةً مِثْلَ آيَةِ الرَّجْمِ. وأنا أقُولُ: إنْ صَحَّ عَنْ أُبَيٍّ ما نُسِبَ إلَيْهِ فَما هو إلّا أنَّ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ القُرْآنِ كانَ أُبَيٌّ يُلْحِقُهُ بِسُورَةِ الأحْزابِ وهو مِن سُوَرٍ أُخْرى مِنَ القُرْآنِ مِثْلَ كَثِيرٍ مِن سُورَةِ النِّساءِ الشَّبِيهِ بِبَعْضِ ما في سُورَةِ الأحْزابِ أغْراضًا ولَهْجَةً مِمّا فِيهِ ذِكْرُ المُنافِقِينَ واليَهُودِ، فَإنَّ أصْحابَ رَسُولِ اللَّهِ لَمْ يَكُونُوا عَلى طَرِيقَةٍ واحِدَةٍ في تَرْتِيبِ آيِ القُرْآنِ ولا في عِدَّةِ سُوَرِهِ وتَقْسِيمِ سُوَرِهِ كَما تَقَدَّمَ في المُقَدِّمَةِ الثّامِنَةِ ولا في ضَبْطِ المَنسُوخِ لَفْظُهُ. كَيْفَ وقَدْ أجْمَعَ حُفّاظُ القُرْآنِ والخُلَفاءُ الأرْبَعَةُ وكافَّةُ أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلّا الَّذِينَ شَذُّوا عَلى أنَّ القُرْآنَ هو الَّذِي في المُصْحَفِ وأجْمَعُوا في عَدَدِ آياتِ القُرْآنِ عَلى عَدَدٍ قَرِيبٍ بَعْضُهُ مِن بَعْضٍ كَما تَقَدَّمَ في المُقَدِّمَةِ الثّامِنَةِ.
وأمّا الخَبَرُ عَنْ عائِشَةَ فَهو أضْعَفُ سَنَدًا وأقْرَبُ تَأْوِيلًا فَإنْ صَحَّ عَنْها، ولا إخالَهُ، فَقَدْ تَحَدَّثَتْ عَنْ شَيْءٍ نُسِخَ مِنَ القُرْآنِ كانَ في سُورَةِ الأحْزابِ.
ولَيْسَ بَعْدَ إجْماعِ أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلى مُصْحَفِ عُثْمانَ مَطْلَبٌ لِطالِبٍ.
ولَمْ يَكُنْ تَعْوِيلُهم في مِقْدارِ القُرْآنِ وسُوَرِهِ إلّا عَلى حِفْظِ الحُفّاظِ. وقَدِ افْتَقَدَ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ آيَةً مِن سُورَةِ الأحْزابِ لَمْ يَجِدْها فِيما دُفِعَ إلَيْهِ مِن صُحُفِ القُرْآنِ فَلَمْ يَزَلْ يَسْألُ عَنْها حَتّى وجَدَها مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثابِتٍ الأنْصارِيِّ وقَدْ كانَ يَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ يَقْرَؤُها، فَلَمّا وجَدَها مَعَ خُزَيْمَةَ لَمْ يَشُكَّ في لَفْظِها الَّذِي كانَ عَرَفَهُ. وهي آيَةُ
صفحة ٢٤٧
﴿مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٢٣] إلى قَوْلِهِ تَبْدِيلًا. وافْتَقَدَ الآيَتَيْنِ مِن آخَرِ سُورَةِ بَراءَةَ فَوَجَدَهُما عِنْدَ أبِي خُزَيْمَةَ بْنِ أوْسٍ المُشْتَهِرِ بِكُنْيَتِهِ.وبَعْدُ فَخَبَرُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ خَبَرٌ غَرِيبٌ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْ أحَدٍ مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ فَنُوقِنُ بِأنَّهُ دَخَلَهُ وهْمٌ مِن بَعْضِ رُواتِهِ. وهو أيْضًا خَبَرُ آحادٍ لا يَنْتَقِضُ بِهِ إجْماعُ الأُمَّةِ عَلى المِقْدارِ المَوْجُودِ مِن هَذِهِ السُّورَةِ مُتَواتِرًا.
وفِي الكَشّافِ: وأمّا ما يُحْكى أنَّ تِلْكَ الزِّيادَةَ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ عائِشَةَ كانَتْ مَكْتُوبَةً في صَحِيفَةٍ في بَيْتِ عائِشَةَ فَأكَلَتْها الدّاجِنُ، أيِ الشّاةُ، فَمِن تَأْلِيفاتِ المَلاحِدَةِ والرَّوافِضِ اهـ.
ووَضْعُ هَذا الخَبَرِ ظاهِرٌ مَكْشُوفٌ فَإنَّهُ لَوْ صَدَقَ هَذا لَكانَتْ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ قَدْ هَلَكَتْ في زَمَنِ النَّبِيءِ ﷺ أوْ بَعْدَهُ والصَّحابَةُ مُتَوافِرُونَ وحُفّاظُ القُرْآنِ كَثِيرُونَ فَلَوْ تَلِفَتْ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ لَمْ يُتْلَفْ ما فِيها مِن صُدُورِ الحُفّاظِ.
وكَوْنُ القُرْآنِ قَدْ تَلاشى مِنهُ كَثِيرٌ هو أصْلٌ مِن أُصُولِ الرَّوافِضِ لِيَطْعَنُوا بِهِ في الخُلَفاءِ الثَّلاثَةِ، والرّافِضَةُ يَزْعُمُونَ أنَّ القُرْآنَ مُسْتَوْدَعٌ عِنْدَ الإمامِ المُنْتَظَرِ فَهو الَّذِي يَأْتِي بِالقُرْآنِ وِقْرَ بَعِيرٍ. وقَدِ اسْتَوْعَبَ قَوْلُهم واسْتَوْفى إبْطالَهَ أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ في كِتابِ العَواصِمِ مِنَ القَواصِمِ.
* * *
أغْراضُ هَذِهِ السُّورَةِلِكَثِيرٍ مِن آياتِ هَذِهِ السُّورَةِ أسْبابٌ لِنُزُولِها، وأكْثَرُها نَزَلَ لِلرَّدِّ عَلى المُنافِقِينَ أقْوالًا قَصَدُوا بِها أذى النَّبِيءِ ﷺ .
وأهَمُّ أغْراضِها: الرَّدُّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهم لَمّا تَزَوَّجَ النَّبِيءُ ﷺ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ بَعْدَ أنْ طَلَّقَها زَيْدُ بْنُ حارِثَةَ فَقالُوا: تَزَوَّجَ مُحَمَّدٌ امْرَأةَ ابْنِهِ وهو يَنْهى النّاسَ عَنْ ذَلِكَ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: إبْطالَ التَّبَنِّي.
وأنَّ الحَقَّ في أحْكامِ اللَّهِ لِأنَّهُ الخَبِيرُ بِالأعْمالِ وهو الَّذِي يَقُولُ الحَقَّ.
صفحة ٢٤٨
وأنَّ وِلايَةَ النَّبِيءِ ﷺ لِلْمُؤْمِنِينَ أقْوى وِلايَةً، ولِأزْواجِهِ حُرْمَةَ الأُمَّهاتِ لَهم، وتِلْكَ وِلايَةٌ مَن جَعْلِ اللَّهِ فَهي أقْوى وأشَدُّ مِن وِلايَةِ الأرْحامِ.وتَحْرِيضُ المُؤْمِنِينَ عَلى التَّمَسُّكِ بِما شَرَعَ اللَّهُ لَهم لِأنَّهُ أخَذَ العَهْدَ بِذَلِكَ عَلى جَمِيعِ النَّبِيئِينَ.
والِاعْتِبارُ بِما أظْهَرَهُ اللَّهُ مِن عِنايَتِهِ بِنَصْرِ المُؤْمِنِينَ عَلى أحْزابِ أعْدائِهِمْ مِنَ الكَفَرَةِ والمُنافِقِينَ في وقْعَةِ الأحْزابِ ودَفْعِ كَيْدِ المُنافِقِينَ.
والثَّناءُ عَلى صِدْقِ المُؤْمِنِينَ وثَباتِهِمْ في الدِّفاعِ عَنِ الدِّينِ.
ونِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِأنْ أعْطاهم بِلادَ أهْلِ الكِتابِ الَّذِينَ ظاهَرُوا الأحْزابَ.
وانْتَقَلَ مِن ذَلِكَ إلى أحْكامٍ في مُعاشَرَةِ أزْواجِ النَّبِيءِ ﷺ وذَكَرَ فَضْلَهُنَّ وفَضْلَ آلِ النَّبِيءِ ﷺ وفَضائِلَ أهْلِ الخَيْرِ مِنَ المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ.
وتَشْرِيعٌ في عِدَّةِ المُطَلَّقَةِ قَبْلَ البِناءِ.
وما يَسُوغُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الأزْواجِ. وحُكْمُ حِجابِ أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ ولُبْسَةِ المُؤْمِناتِ إذا خَرَجْنَ.
وتَهْدِيدُ المُنافِقِينَ عَلى الإرْجافِ بِالأخْبارِ الكاذِبَةِ.
وخُتِمَتِ السُّورَةُ بِالتَّنْوِيهِ بِالشَّرائِعِ الإلَهِيَّةِ فَكانَ خِتامُها مِن رَدِّ العَجُزِ عَلى الصَّدْرِ لِقَوْلِهِ في أوَّلِها ﴿واتَّبِعْ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ﴾ [الأحزاب: ٢]، وتَخَلَّلَ ذَلِكَ مُسْتَطْرَداتٌ مِنَ الأمْرِ بِالِائْتِساءِ بِالنَّبِيءِ ﷺ .
وتَحْرِيضُ المُؤْمِنِينَ عَلى ذِكْرِ اللَّهِ وتَنْزِيهِهِ شُكْرًا لَهُ عَلى هَدْيِهِ. وتَعْظِيمُ قَدْرِ النَّبِيءِ ﷺ عِنْدَ اللَّهِ وفي المَلَأِ الأعْلى، والأمْرُ بِالصَّلاةِ عَلَيْهِ والسَّلامِ.
ووَعِيدُ المُنافِقِينَ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِما يُؤْذِي اللَّهَ ورَسُولَهَ والمُؤْمِنِينَ.
والتَّحْذِيرُ مِنَ التَّوَرُّطِ في ذَلِكَ كَيْلا يَقَعُوا فِيما وقَعَ فِيهِ الَّذِينَ آذَوْا مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - .