﴿مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنهم مَن قَضى نَحْبَهُ ومِنهم مَن يَنْتَظِرُ وما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾

أعْقَبَ الثَّناءَ عَلى جَمِيعِ المُؤْمِنِينَ الخُلَّصِ عَلى ثَباتِهِمْ ويَقِينِهِمْ واسْتِعْدادِهِمْ لِلِقاءِ

صفحة ٣٠٧

العَدُوِّ الكَثِيرِ يَوْمَئِذٍ وعَزْمِهِمْ عَلى بَذْلِ أنْفُسِهِمْ ولَمْ يُقَدَّرْ لَهم لِقاؤُهُ كَما يَأْتِي في قَوْلِهِ ﴿وكَفى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتالَ﴾ [الأحزاب: ٢٥] بِالثَّناءِ عَلى فَرِيقٍ مِنهم كانُوا وفَّوْا بِما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ وفاءً بِالعَمَلِ والنِّيَّةِ، لِيَحْصُلَ بِالثَّناءِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ ثَناءٌ عَلى إخْوانِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِن لِقاءِ العَدُوِّ يَوْمَئِذٍ لِيَعْلَمَ أنَّ صِدْقَ أُولَئِكَ يُؤْذِنُ بِصِدْقِ هَؤُلاءِ لِأنَّ المُؤْمِنِينَ يَدٌ واحِدَةٌ.

والإخْبارُ عَنْهم بِرِجالٍ زِيادَةٌ في الثَّناءِ لِأنَّ الرِّجْلَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرِّجْلِ وهي قُوَّةُ اعْتِمادِ الإنْسانِ كَما اشْتُقَّ الأيْدُ مِنَ اليَدِ، فَإنْ كانَتْ هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ مَعَ بَقِيَّةِ آيِ السُّورَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ الخَنْدَقِ فَهي تَذْكِيرٌ بِما حَصَلَ مِنَ المُؤْمِنِينَ مِن قَبْلُ، وإنْ كانَتْ نَزَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ فَمَوْضِعُها في هَذِهِ السُّورَةِ إنَّما هو بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيءِ ﷺ فَهو تَنْبِيهٌ عَلى المَعْنى الَّذِي ذَكَرْناهُ عَلى تَقْدِيرِ: أنَّها نَزَلَتْ مَعَ سُورَةِ الأحْزابِ. وأيًّا ما كانَ وقْتُ نُزُولِ الآيَةِ فَإنَّ المُرادَ مِنها: رِجالٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ ثَبَتُوا في وجْهِ العَدُوِّ يَوْمَ أُحُدٍ وهم: عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ، وأنَسُ بْنُ النَّضْرِ، وطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وحَمْزَةُ، وسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، ومُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ. فَأمّا أنَسُ بْنُ النَّضْرِ وحَمْزَةُ ومُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ فَقَدِ اسْتَشْهَدُوا يَوْمَ أُحُدٍ، وأمّا

طَلْحَةُ فَقَدْ قُطِعَتْ يَدُهُ يَوْمَئِذٍ وهو يُدافِعُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأمّا بَقِيَّتُهم فَقَدْ قاتَلُوا ونَجَوْا. وسِياقُ الآيَةِ ومَوْقِعُها يَقْتَضِيانِ أنَّها نَزَلَتْ بَعْدَ وقْعَةِ الخَنْدَقِ. وذَكَرَ القُرْطُبِيُّ رِوايَةَ البَيْهَقِيِّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ حِينَ انْصَرَفَ مِن أُحُدٍ مَرَّ عَلى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ وهو مَقْتُولٌ عَلى طَرِيقِهِ فَوَقَفَ ودَعا لَهُ ثُمَّ تَلا ﴿مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنهم مَن قَضى نَحْبَهُ﴾ الآيَةَ.

ومَعْنى ﴿صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ أنَّهم حَقَّقُوا ما عاهَدُوا عَلَيْهِ فَإنَّ العَهْدَ وعْدٌ، وهو إخْبارٌ بِأنَّهُ يَفْعَلُ شَيْئًا في المُسْتَقْبَلِ فَإذا فَعَلَهُ فَقَدْ صَدَقَ. وفِعْلُ الصِّدْقِ يُسْتَعْمَلُ قاصِرًا وهو الأكْثَرُ، ويُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا إلى المُخْبَرِ (بِفَتْحِ الباءِ) يُقالُ: صَدَقَهُ الخَبَرُ، أيْ قالَ لَهُ الصِّدْقَ، ولِذَلِكَ فَإنَّ تَعْدِيَتَهُ هُنا إلى ﴿ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ إنَّما هو عَلى نَزْعِ الخافِضِ، أيْ صَدَقُوا فِيما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِمْ في المَثَلِ: صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِهِ، أيْ في سِنِّ بَكْرِهِ.

والنَّحْبُ: النَّذْرُ وما يَلْتَزِمُهُ الإنْسانُ مَن عَهْدٍ ونَحْوِهِ، أيْ مِنَ المُؤْمِنِينَ مَن وفّى

صفحة ٣٠٨

بِما عاهَدَ عَلَيْهِ مِنَ الجِهادِ كَقَوْلِ أنَسِ بْنِ النَّضْرِ حِينَ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وقالَ: أوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ غِبْتُ عَنْهُ، أما واللَّهِ لَئِنْ أرانِيَ اللَّهُ مَشْهَدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِيما بَعْدُ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ ما أصْنَعُ فَشَهِدَ أُحُدًا وقاتَلَ حَتّى قُتِلَ. ومِثْلُ الَّذِينَ شَهِدُوا أيّامَ الخَنْدَقِ فَإنَّهم قَضَوْا نَحْبَهم يَوْمَ قُرَيْظَةَ.

وقَدْ حَمَلَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ ﴿قَضى نَحْبَهُ﴾ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى مَعْنى المَوْتِ في الجِهادِ عَلى طَرِيقَةِ الِاسْتِعارَةِ بِتَشْبِيهِ المَوْتِ بِالنَّذْرِ في لُزُومِ الوُقُوعِ، ورُبَّما ارْتَقى بِبَعْضِ المُفَسِّرِينَ ذَلِكَ إلى جَعْلِ النَّحْبِ مِن أسْماءِ المَوْتِ، ويَمْنَعُ مِنهُ ما ورَدَ في حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ في طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ (إنَّهُ مِمَّنْ قَضى نَحْبَهُ»)، وهو لَمْ يَمُتْ في حَياةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ .

وأمّا قَوْلُهُ ﴿وما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ فَهو في مَعْنى ﴿صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ وإنَّما ذُكِرَ هُنا لِلتَّعْرِيضِ بِالمُنافِقِينَ الَّذِينَ عاهَدُوا اللَّهَ لا يُوَلُّونَ الأدْبارَ ثُمَّ ولَّوْا يَوْمَ الخَنْدَقِ فَرَجَعُوا إلى بُيُوتِهِمْ في المَدِينَةِ.

وانْتَصَبَ تَبْدِيلًا عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُؤَكِّدٌ لِـ بَدَّلُوا المَنفِيِّ. ولَعَلَّ هَذا التَّوْكِيدَ مَسُوقٌ مَساقَ التَّعْرِيضِ بِالمُنافِقِينَ الَّذِينَ بَدَّلُوا عَهْدَ الإيمانِ لَمّا ظَنُّوا أنَّ الغَلَبَةَ تَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ.