صفحة ٥

﴿ومَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صالِحًا نُؤْتِها أجْرَها مَرَّتَيْنِ وأعْتَدْنا لَها رِزْقًا كَرِيمًا﴾

أعْقَبَ الوَعِيدَ بِالوَعْدِ جَرْيًا عَلى سُنَّةِ القُرْآنِ كَما تَقَدَّمَ في المُقَدِّمَةِ العاشِرَةِ.

والقُنُوتُ: الطّاعَةُ، والقُنُوتُ لِلرَّسُولِ: الدَّوامُ عَلى طاعَتِهِ واجْتِلابُ رِضاهُ؛ لِأنَّ في رِضاهُ رِضى اللَّهِ تَعالى، قالَ تَعالى ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: ٨٠] .

وقَرَأ الجُمْهُورُ يَقْنُتْ بِتَحْتِيَّةٍ في أوَّلِهِ مُراعاةً لِمَدْلُولِ مَنِ الشَرْطِيَّةِ كَما تَقَدَّمَ في ﴿مَن يَأْتِ مِنكُنَّ﴾ [الأحزاب: ٣٠] .

وقَرَأهُ يَعْقُوبُ بِفَوْقِيَّةٍ في أوَّلِهِ مُراعاةً لِماصَدَقَ (مَن) أيْ إحْدى النِّساءِ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿مَن يَأْتِ مِنكُنَّ﴾ [الأحزاب: ٣٠] .

وأُسْنِدَ فِعْلُ إيتاءِ أجْرِهِنَّ إلى ضَمِيرِ الجَلالَةِ بِوَجْهٍ صَرِيحٍ تَشْرِيفًا لِإيتائِهِنَّ الأجْرَ؛ لِأنَّهُ المَأْمُولُ بِهِنَّ، وكَذَلِكَ فِعْلُ (وأعْتَدْنا) .

ومَعْنى مَرَّتَيْنِ تَوْفِيرُ الأجْرِ وتَضْعِيفُهُ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ضِعْفَيْنِ.

وضَمِيرُ أجْرَها عائِدٌ إلى (مَن) بِاعْتِبارِ أنَّها صادِقَةٌ عَلى واحِدَةٍ مِن نِساءِ النَّبِيءِ ﷺ .

وفِي إضافَةِ الأجْرِ إلى ضَمِيرِها إشارَةٌ إلى تَعْظِيمِ ذَلِكَ الأجْرِ بِأنَّهُ يُناسِبُ مَقامَها وإلى تَشْرِيفِها بِأنَّها مُسْتَحِقَّةٌ ذَلِكَ الأجْرَ.

ومُضاعَفَةُ الأجْرِ لَهُنَّ عَلى الطّاعاتِ كَرامَةٌ لِقَدْرِهِنَّ، وهَذِهِ المُضاعَفَةُ في الحالَيْنِ

صفحة ٦

مِن خَصائِصِ أزْواجِ النَّبِيِّ ﷺ لِعِظَمِ قَدْرِهِنَّ لَأنَّ زِيادَةَ قُبْحِ المَعْصِيَةِ تَتْبَعُ زِيادَةَ فَضْلِ الآتِي بِها.

ودَرَجَةُ أزْواجِ النَّبِيِّ ﷺ عَظِيمَةٌ.

وقَرَأ الجُمْهُورُ وتَعْمَلْ بِالتّاءِ الفَوْقِيَّةِ عَلى اعْتِبارِ مَعْنى مَنِ المَوْصُولَةِ المُرادِ بِها أحَدَ النِّساءِ، وحَسَّنَهُ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى فِعْلِ يَقْنُتْ بَعْدَ أنْ تَعَلَّقَ بِهِ الضَّمِيرُ المَجْرُورُ وهو ضَمِيرُ نِسْوَةٍ.

وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ (ويَعْمَلْ) بِالتَّحْتِيَّةِ مُراعاةً لِمَدْلُولِ (مَن) في أصْلِ الوَضْعِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ نُؤْتِها بِنُونِ العَظَمَةِ. وقَرَأهُ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلى اعْتِبارِ ضَمِيرِ الغائِبِ عائِدًا إلى اسْمِ الجَلالَةِ في قَوْلِهِ قَبْلَهُ ﴿وكانَ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [الأحزاب: ٣٠] .

والقَوْلُ في أعْتَدْنا لَها كالقَوْلِ في ﴿فَإنَّ اللَّهَ أعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ﴾ [الأحزاب: ٢٩] . والتّاءُ في أعْتَدْنا بَدَلٌ عَنْ أحَدِ الدّالَيْنِ مِن أعَدَّ لِقُرْبِ مَخْرَجَيْها وقَصْدِ التَّخْفِيفِ. والعُدُولُ عَنِ المُضارِعِ إلى فِعْلِ الماضِي في قَوْلِهِ أعْتَدْنا لِإفادَةِ تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ.

والرِّزْقُ الكَرِيمُ: هو رِزْقُ الجَنَّةِ، قالَ تَعالى ﴿كُلَّما رُزِقُوا مِنها مِن ثَمَرَةٍ رِزْقًا﴾ [البقرة: ٢٥] الآيَةَ. ووَصَفَهُ بِالكَرِيمِ لَأنَّهُ أفْضَلُ جِنْسِهِ. وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنِّي أُلْقِيَ إلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ﴾ [النمل: ٢٩] في سُورَةِ النَّمْلِ.