Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿إنَّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ والمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ والقانِتِينَ والقانِتاتِ والصّادِقِينَ والصّادِقاتِ والصّابِرِينَ والصّابِراتِ والخاشِعِينَ والخاشِعاتِ والمُتَصَدِّقِينَ والمُتَصَدِّقاتِ والصّائِمِينَ والصّائِماتِ والحافِظِينَ فُرُوجَهم والحافِظاتِ والذّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا والذّاكِراتِ أعَدَّ اللَّهُ لَهم مَغْفِرَةً وأجْرًا عَظِيمًا﴾ يَجُوزُ أنَّ تَكُونَ هَذِهِ الجُمْلَةُ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿ومَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صالِحًا نُؤْتِها أجْرَها مَرَّتَيْنِ﴾ [الأحزاب: ٣١] بَعْدَ قَوْلِهِ ﴿لَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ النِّساءِ﴾ [الأحزاب: ٣٢]
صفحة ٢٠
يُثِيرُ في نُفُوسِ المُسْلِماتِ أنْ يَسْألْنَ: أهُنَّ مَأْجُوراتٌ عَلى ما يَعْمَلْنَ مِنَ الحَسَناتِ ؟ وأهُنَّ مَأْمُوراتٌ بِمِثْلِ ما أُمِرَتْ بِهِ أزْواجُ النَّبِيِّ ﷺ ؟ أمْ تِلْكَ خَصائِصُ لِنِساءِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - ؟ فَكانَ في هَذِهِ الآيَةِ ما هو جَوابٌ لِهَذا السُّؤالِ عَلى عادَةِ القُرْآنِ فِيما إذا ذَكَرَ مَأْمُوراتٍ يُعْقِبُها بِالتَّذْكِيرِ بِحالِ أمْثالِها أوْ بِحالِ أضْدادِها.ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا ورَدَ بِمُناسَبَةِ ما ذُكِرَ مِن فَضائِلِ أزْواجِ النَّبِيِّ ﷺ .
ورَوى ابْنُ جَرِيرٍ، والواحِدِيُّ عَنْ قَتادَةَ أنَّ نِساءً دَخَلْنَ عَلى أزْواجِ النَّبِيِّ ﷺ فَقُلْنَ: قَدْ ذَكَرَكُنَّ اللَّهُ في القُرْآنِ ولَمْ يَذْكُرْنا بِشَيْءٍ ولَوْ كانَ فِينا خَيْرٌ لَذَكَرَنا، فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ.
ورَوى التِّرْمِذِيُّ، والطَّبَرانِيُّ «أنَّ أُمَّ عُمارَةَ الأنْصارِيَّةَ أتَتِ النَّبِيَّ ﷺ فَقالَتْ: ما أرى النِّساءَ يُذْكَرْنَ بِشَيْءٍ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» وقالَ الواحِدِيُّ: قالَ مُقاتِلٌ بَلَغَنِي «أنَّ أسْماءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ لَمّا رَجَعَتْ مِنَ الحَبَشَةِ مَعَ زَوْجِها جَعْفَرَ بْنِ أبِي طالِبٍ دَخَلَتْ عَلى نِساءِ النَّبِيِّ ﷺ فَقالَتْ: هَلْ نَزَلَ فِينا شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ ؟ قِيلَ: لا، فَأتَتِ النَّبِيَّ ﷺ فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ النِّساءَ لَفي خَيْبَةٍ وخَسارٍ. قالَ: ومِمَّ ذَلِكَ ؟ قالَتْ: لِأنَّهُنَّ لا يُذْكَرْنَ بِالخَيْرِ كَما تُذْكَرُ الرِّجالُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ» .
فالمَقْصُودُ مِن أصْحابِ هَذِهِ الأوْصافِ المَذْكُورَةِ النِّساءُ، وأمّا ذِكْرُ الرِّجالِ فَلِلْإشارَةِ إلى أنَّ الصِّنْفَيْنِ في هَذِهِ الشَّرائِعِ سَواءٌ لِيَعْلَمُوا أنَّ الشَّرِيعَةَ لا تَخْتَصُّ بِالرِّجالِ لا كَما كانَ مُعْظَمُ شَرِيعَةِ التَّوْراةِ خاصًّا بِالرِّجالِ إلّا الأحْكامَ الَّتِي لا تُتَصَوَّرُ في غَيْرِ النِّساءِ، فَشَرِيعَةُ الإسْلامِ بِعَكْسِ ذَلِكَ، الأصْلُ في شَرائِعِها أنْ تَعُمَّ الرِّجالَ والنِّساءَ إلّا ما نُصَّ عَلى تَخْصِيصِهِ بِأحَدِ الصِّنْفَيْنِ، ولَعَلَّ بِهَذِهِ الآيَةِ وأمْثالِها تَقَرَّرَ أصْلُ التَّسْوِيَةِ فَأغْنى عَنِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ في مُعْظَمِ أقْوالِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ، ولَعَلَّ هَذا هو
صفحة ٢١
وجْهُ تِعْدادِ الصِّفاتِ المَذْكُورَةِ لِئَلّا يُتَوَهَّمُ التَّسْوِيَةُ في خُصُوصِ صِفَةٍ واحِدَةٍ.وسُلِكَ مَسْلَكُ الإطْنابِ في تِعْدادِ الأوْصافِ لِأنَّ المَقامَ لِزِيادَةِ البَيانِ لِاخْتِلافِ أفْهامِ النّاسِ في ذَلِكَ، عَلى أنَّ في هَذا التِّعْدادِ إيماءً إلى أُصُولِ التَّشْرِيعِ كَما سَنُبَيِّنُهُ في آخِرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ.
وبِهَذِهِ الآثارِ يَظْهَرُ اتِّصالُ هَذِهِ الآياتِ بِالَّتِي قَبْلَها.
وبِهِ يَظْهَرُ وجْهُ تَأْكِيدِ هَذا الخَبَرِ بِحَرْفِ (إنَّ) لِدَفْعِ شَكِّ مَن شَكَّ في هَذا الحُكْمِ مِنَ النِّساءِ.
والمُرادُ بِـ ﴿المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ﴾ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذا المَعْنى المَعْرُوفِ شَرَعًا. والإسْلامُ بِالمَعْنى الشَّرْعِيِّ هو شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وإقامُ الصَّلاةِ وإيتاءُ الزَّكاةِ وصَوْمُ رَمَضانَ وحِجُّ البَيْتِ، ولا يَعْتَبِرُ إسْلامًا إلّا مَعَ الإيمانِ. وذِكْرُ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ بَعْدَهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ الإيمانَ هو الأصْلُ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَلا تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢] في البَقَرَةِ.
﴿والقانِتِينَ والقانِتاتِ﴾: أصْحابُ القُنُوتِ وهو الطّاعَةُ لِلَّهِ وعِبادَتُهُ، وتَقَدَّمَ آنِفًا ﴿ومَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [الأحزاب: ٣١] .
﴿والصّادِقِينَ والصّادِقاتِ﴾: مَن حَصَلَ مِنهم صِدْقُ القَوْلِ وهو ضِدُّ الكَذِبِ والصِّدْقُ كُلُّهُ حَسَنٌ، والكَذِبُ لا خَيْرَ فِيهِ إلّا لِضَرُورَةٍ. وشَمَلَ ذَلِكَ الوَفاءَ بِما يُلْتَزَمُ بِهِ مِن أُمُورِ الدِّيانَةِ كالوَفاءِ بِالعَهْدِ والوَفاءِ بِالنَّذْرِ، وتَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ [البقرة: ١٧٧] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
وبِـ الصّابِرِينَ والصّابِراتِ: أهْلُ الصَّبْرِ. والصَّبْرُ مَحْمُودٌ في ذاتِهِ لِدَلالَتِهِ عَلى قُوَّةِ العَزِيمَةِ، ولَكِنَّ المَقْصُودَ هُنا هو تَحَمُّلُ المَشاقِّ في أُمُورِ الدِّينِ وتَحَمُّلُ المَكارِهِ في
صفحة ٢٢
الذَّبِّ عَنِ الحَوْزَةِ الإسْلامِيَّةِ، وتَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وصابِرُوا﴾ [آل عمران: ٢٠٠] آخِرُ سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.وبِ - الخاشِعِينَ والخاشِعاتِ: أهْلُ الخُشُوعِ، وهو الخُضُوعُ لِلَّهِ والخَوْفُ مِنهُ وهو يَرْجِعُ إلى مَعْنى الإخْلاصِ بِالقَلْبِ فِيما يَعْمَلُهُ المُكَلَّفُ. ومُطابَقَةُ ذَلِكَ لِما يَظْهَرُ مِن آثارِهِ عَلى صاحِبِهِ. والمُرادُ: الخُشُوعُ لِلَّهِ بِالقَلْبِ والجَوارِحِ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإنَّها لَكَبِيرَةٌ إلّا عَلى الخاشِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٥] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
وبِـ المُتَصَدِّقِينَ والمُتَصَدِّقاتِ: مَن يَبْذُلُ الصَّدَقَةَ مِن مالِهِ لِلْفُقَراءِ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إلّا مَن أمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ [النساء: ١١٤] في سُورَةِ النِّساءِ. وفائِدَةُ ذَلِكَ لِلْأُمَّةِ عَظِيمَةٌ.
وأمّا الصّائِمُونَ والصّائِماتُ فَظاهَرٌ ما في الصِّيامِ مِن تَخَلُّقٍ بِرِياضَةِ النَّفْسِ لِطاعَةِ اللَّهِ إذْ يَتْرُكُ المَرْءُ ما هو جِبِلِّيٌّ مِنَ الشَّهْوَةِ تَقَرُّبًا إلى اللَّهِ، أيْ بُرْهانًا عَلى أنَّ رِضى اللَّهِ عَنْهُ ألَذُّ مِن أشَدِّ اللَّذّاتِ مُلازَمَةً لَهُ.
وأمّا حِفْظُ الفُرُوجِ فَلِأنَّ شَهْوَةَ الفَرْجِ شَهْوَةٌ جِبِلِّيَّةٌ وهي في الرَّجُلِ أشَدُّ، وقَدْ أثْنى اللَّهُ عَلى الأنْبِياءِ بِذَلِكَ فَقالَ في يَحْيى ﴿وحَصُورًا﴾ [آل عمران: ٣٩] وقالَ في مَرْيَمَ ﴿الَّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَها﴾ [التحريم: ١٢]، وهَذا الحِفْظُ لَهُ حُدُودٌ سَنَّتْها الشَّرِيعَةُ، فالمُرادُ: حِفْظُ الفُرُوجِ عَلى أنْ تُسْتَعْمَلَ فِيما نُهِيَ عَنْهُ شَرْعًا، ولَيْسَ المُرادُ: حِفْظَها عَنِ الِاسْتِعْمالِ أصْلًا وهو الرَّهْبَنَةُ فَإنَّ الرَّهْبَنَةَ مَدْحُوضَةٌ في الإسْلامِ بِأدِلَّةٍ مُتَواتِرَةِ المَعْنى.
وأمّا الذّاكِرُونَ والذّاكِراتُ فَهو وصْفٌ صالِحٌ لِأنْ يَكُونَ مِنَ الذِّكْرِ بِكَسْرِ الذّالِ وهو ذِكْرُ اللِّسانِ كالَّذِي في قَوْلِهِ ﴿فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٢] وقَوْلِهِ في الحَدِيثِ «ومَن ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي»، ومِنَ الذُّكْرِ بِضَمِّها كَما تَقَدَّمَ آنِفًا في قَوْلِهِ ﴿واذْكُرْنَ ما يُتْلى في بِيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: ٣٤]، والَّذِي في قَوْلِهِ ﴿ذَكَرُوا اللَّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٣٥] .
ومَفْعُولُ ﴿والحافِظاتِ﴾ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ مِن قَوْلِهِ ﴿والحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ﴾، وكَذَلِكَ مَفْعُولُ ﴿والذّاكِراتِ﴾ .
وقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الخِصالُ العَشْرُ عَلى جَوامِعِ فُصُولِ الشَّرِيعَةِ كُلِّها.
صفحة ٢٣
فالإسْلامُ يَجْمَعُ قَواعِدَ الدِّينِ الخَمْسَ المَفْرُوضَةَ الَّتِي هي أعْمالٌ، والإيمانُ يَجْمَعُ الِاعْتِقاداتِ القَلْبِيَّةَ المَفْرُوضَةَ وهو شَرْطُ أعْمالِ الإسْلامِ كُلِّها، قالَ تَعالى ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البلد: ١٧] .والقُنُوتُ يَجْمَعُ الطّاعاتِ كُلَّها مَفْرُوضَها ومَسْنُونَها، وتَرْكَ المَنهِيّاتِ والإقْلاعَ عَنْها مِمَّنْ هو مُرْتَكِبُها، وهو مَعْنى التَّوْبَةِ، فالقُنُوتُ هو تَمامُ الطّاعَةِ، فَهو خَيْرٌ مُساوٍ لِلتَّقْوى. فَهَذِهِ جَوامِعُ شَرائِعِ المُكَلَّفِينَ في أنْفُسِهِمْ.
والصِّدْقُ يَجْمَعُ كُلَّ عَمَلٍ هو مِن مُوافَقَةِ القَوْلِ والفِعْلِ لِلْواقِعِ في القَضاءِ والشَّهادَةِ والعُقُودِ والِالتِزاماتِ وفي المُعامَلاتِ بِالوَفاءِ بِها وتَرْكِ الخِيانَةِ، ومُطابَقَةِ الظّاهِرِ لِلْباطِنِ في المَراتِبِ كُلِّها. ومِنَ الصِّدْقِ صِدْقُ الأفْعالِ.
والصَّبْرُ جامِعٌ لِما يَخْتَصُّ بِتَحَمُّلِ المَشاقِّ مِنَ الأعْمالِ كالجِهادِ والحِسْبَةِ في الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ ومُناصَحَةِ المُسْلِمِينَ وتَحَمُّلِ الأذى في اللَّهِ، وهو خُلُقٌ عَظِيمٌ هو مِفْتاحُ أبْوابِ مَحامِدِ الأخْلاقِ والآدابِ والإنْصافِ مِنَ النَّفْسِ.
والخُشُوعُ: الإخْلاصُ بِالقَلْبِ والظّاهِرِ، وهو الِانْقِيادُ وتَجَنُّبُ المَعاصِي. ويَدْخُلُ في الإحْسانِ وهو المُفَسَّرُ في حَدِيثِ جِبْرِيلَ «أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ» . ويَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ جَمِيعُ القُرَبِ والنَّوافِلِ فَإنَّها مِن آثارِ الخُشُوعِ، ويَدْخُلُ فِيهِ التَّوْبَةُ مِمّا اقْتَرَفَهُ المَرْءُ مِنَ الكَبائِرِ إذْ لا يَتَحَقَّقُ الخُشُوعُ بِدُونِها.
والتَّصَدُّقُ يَحْتَوِي جَمِيعَ أنْواعِ الصَّدَقاتِ والعَطِيّاتِ وبَذْلِ المَعْرُوفِ والإرْفاقِ.
والصَّوْمُ: عِبادَةٌ عَظِيمَةٌ فَلِذَلِكَ خُصِّصَتْ بِالذِّكْرِ مِعَ أنَّ الفَرْضَ مِنهُ مَشْمُولٌ لِلْإسْلامِ في قَوْلِهِ ﴿إنَّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ﴾ ويَفِي صَوْمَ النّافِلَةِ، فالتَّصْرِيحُ بِذِكْرِ الصَّوْمِ تَنْوِيهٌ بِهِ. وفي الحَدِيثِ قالَ تَعالى: «الصَّوْمُ لِي وأنا أجْزِي بِهِ» .
وحِفْظُ الفُرُوجِ أُرِيدَ بِهِ حِفْظُها عَمّا ورَدَ الشَّرْعُ بِحِفْظِها عَنْهُ، وقَدِ انْدَرَجَ في هَذا جَمِيعُ أحْكامِ النِّكاحِ وما يَتَفَرَّعُ عَنْها وما هو وسِيلَةٌ لَها.
وذِكْرُ اللَّهِ كَما عَلِمْتَ لَهُ مُحَمَلانِ:
صفحة ٢٤
أحَدُهُما: ذِكْرُهُ اللِّسانِيُّ فَيَدْخُلُ فِيهِ قِراءَةُ القُرْآنِ وطَلَبُ العِلْمِ ودِراسَتُهُ.قالَ النَّبِيُّ ﷺ «ما اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ مِن بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ ويَتَدارَسُونَهُ بَيْنَهم إلّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَن عِنْدَهُ»، فَفي قَوْلِهِ (وذَكَرَهُمُ اللَّهُ) إيماءٌ إلى أنَّ الجَزاءَ مِن جَنْسِ عَمَلِهِمْ، فَدَلَّ عَلى أنَّهم كانُوا في شَيْءٍ مِن ذِكْرِ اللَّهِ وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٢] وقالَ فِيما أخْبَرَ رَسُولُهُ ﷺ «وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَأٍ خَيْرٍ مِنهم» . وشَمَلَ ما يُذْكَرُ عَقِبَ الصَّلَواتِ، ونَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الأذْكارِ.
والمَحْمَلُ الثّانِي: الذِّكْرُ القَلْبِيُّ وهو ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أمْرِهِ ونَهْيِهِ كَما قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: أفْضَلُ مِن ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أمْرِهِ ونَهْيِهِ، وهو الَّذِي في قَوْلِهِ تَعالى ﴿والَّذِينَ إذا فَعَلُوا فاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم ذَكَرُوا اللَّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٣٥] فَدَخَلَ فِيهِ التَّوْبَةُ ودَخَلَ فِيها الِارْتِداعُ عَنِ المَظالِمِ كُلِّها مِنَ القَتْلِ وأخْذِ أمْوالِ النّاسِ والحِرابَةِ والإضْرارِ بِالنّاسِ في المُعامَلاتِ. ومِمّا يُوَضِّحُ شُمُولَهُ بِالشَّرائِعِ كُلِّها تَقْيِيدُهُ بِـ (كَثِيرًا) لِأنَّ المَرْءَ إذا ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا فَقَدِ اسْتَغْرَقَ ذِكْرُهُ عَلى المَحْمَلَينِ جَمِيعَ ما يُذْكَرُ اللَّهُ عِنْدَهُ.
ويُراعى في الِاتِّصافِ بِهَذِهِ الصِّفاتِ أنْ تَكُونَ جارِيَةً عَلى ما حَدَّدَهُ الشَّرْعُ في تَفاصِيلِها.
والمَغْفِرَةُ: عَدَمُ المُؤاخَذَةِ بِما فَرَّطَ مِنَ الذُّنُوبِ، وقَدْ تَقَدَّمَتْ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ [الأعراف: ٢٣] في سُورَةِ الأعْرافِ. واعْلَمْ أنَّ عَطْفَ الصِّفاتِ بِالواوِ المُفِيدِ مُجَرَّدَ التَّشْرِيكِ في الحُكْمِ دُونَ حَرْفَيِ التَّرْتِيبِ: الفاءِ وثُمَّ، شَأْنُهُ أنْ يَكُونَ الحُكْمُ المَذْكُورُ مَعَهُ ثابِتًا لِكُلِّ واحِدٍ اتَّصَفَ بِوَصْفٍ مِنَ الأوْصافِ المُشْتَقِّ مِنها مَوْصُوفُهُ لَأنَّ أصْلَ العَطْفِ بِالواوِ أنْ يَدُلَّ عَلى مُغايَرَةِ المَعْطُوفاتِ في الذّاتِ، فَإذا قُلْتَ: وُجَدْتُ فِيهِمُ الكَرِيمَ والشُّجاعَ والشّاعِرَ، كانَ المَعْنى: أنَّكَ وجَدْتَ فِيهِمْ ثَلاثَةَ أُناسٍ كُلَّ واحِدٍ مِنهم مَوْصُوفٌ بِصِفَةٍ مِنَ المَذْكُوراتِ. وفي الحَدِيثِ «فَإنَّ مِنهُمُ المَرِيضَ والضَّعِيفَ وذا الحاجَةِ» أيْ أصْحابَ المَرَضِ والضَّعْفِ والحاجَةِ، بِخِلافِ العَطْفِ بِالفاءِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿والصّافّاتِ صَفًّا فالزّاجِراتِ زَجْرًا فالتّالِياتِ ذِكْرًا﴾ [الصافات: ١] فَإنَّ الأوْصافَ المَذْكُورَةَ في تِلْكَ الآيَةِ ثابِتَةٌ
صفحة ٢٥
لِمَوْصُوفٍ واحِدٍ. ولِهَذا فَحَقُّ جُمْلَةِ ﴿أعَدَّ اللَّهُ لَهم مَغْفِرَةً وأجْرًا عَظِيمًا﴾ أنْ تَكُونَ خَبَرًا في المَعْنى عَنْ كُلِّ واحِدٍ مِنَ المُتَعاطِفاتِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ المُسْلِمِينَ أعَدَ اللَّهُ لَهم مَغْفِرَةً وأجْرًا عَظِيمًا، إنَّ المُسْلِماتِ أعَدَّ اللَّهُ لَهُنَّ مَغْفِرَةً وأجْرًا عَظِيمًا، وهَكَذا. والفِعْلُ الواقِعُ في جُمْلَةِ الخَبَرِ وهو فِعْلُ (أعَدَّ) قَدْ تَعَدّى إلى مَفْعُولٍ ومَعْطُوفٍ عَلى المَفْعُولِ، فَصِحَّةُ الإخْبارِ بِهِ عَنْ كُلِّ واحِدٍ مِنَ المَوْصُوفاتِ والمُتَعاطِفاتِ بِاعْتِبارِ المَعْطُوفِ عَلى مَفْعُولِهِ واضِحَةٌ؛ لَأنَّ الأجْرَ العَظِيمَ يَصْلُحُ لِأنْ يُعْطى لِكُلِّ واحِدٍ ويَقْبَلُ التَّفاوُتَ فَيَكُونُ لِكُلٍّ مِن أصْحابِ تِلْكَ الأوْصافِ أجْرُهُ عَلى اتِّصافِهِ بِهِ ويَكُونُ أجْرُ بَعْضِهِمْ أوْفَرَ مِن أجْرِ بَعْضٍ آخَرَ.وأمّا صِحَّةُ الإخْبارِ بِفِعْلِ (أعَدَّ) عَنْ كُلِّ واحِدٍ مِنَ المُتَعاطِفاتِ بِاعْتِبارِ المَفْعُولِ بِهِ (مَغْفِرَةً) فَيَمْنَعُ مِنهُ ما جاءَ مِن دَلائِلَ الكِتابِ والسُّنَّةِ الدّالَّةِ عَلى أنَّ الذُّنُوبَ الكَبِيرَةَ الَّتِي فَرَطَتْ لا يُضْمَنُ غُفْرانُها لِلْمُذْنِبِينَ إلّا بِشَرْطِ التَّوْبَةِ مِنَ المُذْنِبِ وعَدًا مِنَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ ﴿كَتَبَ رَبُّكم عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ إنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكم سُوءًا بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِن بَعْدِهِ وأصْلَحَ فَإنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: ٥٤] .
وألْحَقَتِ السُّنَّةُ بِمُوجِباتِ المَغْفِرَةِ الحَجَّ المَبْرُورَ والجِهادَ في سَبِيلِ اللَّهِ وأشْياءَ أُخْرى.
والوَجْهُ في تَفْسِيرِ ذَلِكَ عِنْدِي أنْ تُحْمَلَ كُلُّ صِفَةٍ مِن هَذِهِ الصِّفاتِ عَلى عَدَمِ ما يُعارِضُها مِمّا يُوجِبُ التَّبِعَةَ، أيْ سَلامَتُهُ مِنَ التَّلَبُّسِ بِالكَبائِرِ حَمَلًا أُراعِي فِيهِ الجَرْيَ عَلى سَنَنِ القُرْآنِ في مِثْلِ مَقامِ الثَّناءِ والتَّنْوِيهِ بِالمُسْلِمِينَ مِنَ اعْتِبارِ حالِ كَمالِ الإسْلامِ كَقَوْلِهِ ﴿أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال: ٤] فَإنّا لا نَجِدُ التَّفْصِيلَ بَيْنَ أحْوالِ المُسْلِمِينَ إلّا في مَقامِ التَّحْذِيرِ مِنَ الذُّنُوبِ.
والمَرْجِعُ في هَذا المَحْمَلِ إلى بَيانِ الإجْمالِ بِالجَمْعِ بَيْنَ أدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ. وقَدْ سَكَتَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ عَنِ التَّصَدِّي لِبَيانِ مُفادِ هَذا الوَعْدِ ولَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ فِيما رَأيْتُ سِوى صاحِبِ الكَشّافِ فَجَعَلَ مَعْنى قَوْلِهِ ﴿أعَدَّ اللَّهُ لَهم مَغْفِرَةً وأجْرًا عَظِيمًا﴾: أنَّ الجامِعِينَ والجامِعاتِ لِهَذِهِ الطّاعاتِ أعَدَّ اللَّهُ لَهم مَغْفِرَةً وأجْرًا عَظِيمًا، وجَعَلَ واوَ العَطْفِ بِمَعْنى المَعِيَّةِ، وجَعَلَ العَطْفَ عَلى اعْتِبارِ المُغايَرَةِ بَيْنَ المُتَعاطِفاتِ في الأوْصافِ لا المُغايَرَةِ بِالذَّواتِ، وهَذا تَكَلُّفٌ وصُنْعٌ بِاليَدِ، وتَبِعَهُ البَيْضاوِيُّ وكَثِيرٌ. ويُعَكِّرُ عَلَيْهِ أنَّ جَمْعَ تِلْكَ الصِّفاتِ لا يُوجِبُ المَغْفِرَةَ لِأنَّ الكَبائِرَ لا تُسْقِطُها عَنْ
صفحة ٢٦
صاحِبِها إلّا التَّوْبَةُ إلّا أنْ يَضُمَّ إلى كَلامِهِ ضَمِيمَةً وهي حَمْلُ الذّاكِرِينَ اللَّهَ والذّاكِراتِ عَلى مَعْنى المُتَّصِفِينَ بِالذِّكْرِ اللِّسانِيِّ والقَلْبِيِّ، فَيَكُونَ الذِّكْرُ القَلْبِيُّ شامِلًا لِلتَّوْبَةِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿والَّذِينَ إذا فَعَلُوا فاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم ذَكَرُوا اللَّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٣٥] فَيَكُونُ الَّذِينَ جَمَعُوا هَذِهِ الخِصالَ العَشْرَ قَدْ حَصَلَتْ لَهُمُ التَّوْبَةُ، غَيْرَ أنَّ هَذا الِاعْتِذارَ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ لا يَتَجاوَزُ هَذِهِ الآيَةَ فَإنَّ في القُرْآنِ آياتٌ كَثِيرَةٌ مِثْلُها يَضِيقُ عَنْها نِطاقُ هَذا الِاعْتِذارِ، مِنها قَوْلُهُ تَعالى ﴿وعِبادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان: ٦٣] إلى قَوْلِهِ ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا﴾ [الفرقان: ٧٥] الآيَةَ في سُورَةِ الفُرْقانِ.