﴿إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ وأعَدَّ لَهم عَذابًا مُهِينًا﴾ لَمّا أرْشَدَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ إلى تَناهِي مَراتِبِ حُرْمَةِ النَّبِيءِ ﷺ وتَكْرِيمِهِ وحَذَّرَهم

صفحة ١٠٤

مِمّا قَدْ يَخْفى عَلى بَعْضِهِمْ مِن خَفِيِّ الأذى في جانِبِهِ بِقَوْلِهِ ﴿إنَّ ذَلِكم كانَ يُؤْذِي النَّبِيءَ﴾ [الأحزاب: ٥٣] وقَوْلِهِ ﴿وما كانَ لَكم أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ٥٣] الآيَةَ، وعَلَّمَهم كَيْفَ يُعامِلُونَهُ مُعامَلَةَ التَّوْقِيرِ والتَّكْرِيمِ بِقَوْلِهِ ﴿ولا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ﴾ [الأحزاب: ٥٣] وقَوْلِهِ ﴿ولا أنْ تَنْكِحُوا أزْواجَهُ مِن بَعْدِهِ أبَدًا إنَّ ذَلِكم كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٥٣] وقَوْلِهِ ﴿إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيءِ﴾ [الأحزاب: ٥٦] الآيَةَ، وعَلِمَ أنَّهم قَدِ امْتَثَلُوا أوْ تَعَلَّمُوا أرْدَفَ ذَلِكَ بِوَعِيدِ قَوْمٍ اتَّسَمُوا بِسِماتِ المُؤْمِنِينَ وكانَ مِن دَأْبِهِمُ السَّعْيُ فِيما يُؤْذِي الرَّسُولَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - فَأعْلَمَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ بِأنَّ أُولَئِكَ مَلْعُونُونَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ لِيُعْلِمَ المُؤْمِنِينَ أنَّ أُولَئِكَ لَيْسُوا مِنَ الإيمانِ في شَيْءٍ وأنَّهم مُنافِقُونَ لِأنَّ مِثْلَ هَذا الوَعِيدِ لا يُعْهَدُ إلّا لِلْكافِرِينَ.

فالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا؛ لِأنَّهُ يَخْطُرُ في نُفُوسِ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَسْمَعُ الآياتِ السّابِقَةِ أنْ يَتَساءَلُوا عَنْ حالِ قَوْمٍ قَدْ عُلِمَ مِنهم قِلَّةُ التَّحَرُّزِ مِن أذى الرَّسُولِ ﷺ بِما لا يَلِيقُ بِتَوْقِيرِهِ.

وجِيءَ بِاسْمِ المَوْصُولِ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهم عَرَفُوا بِأنَّ إيذاءَ النَّبِيءِ ﷺ مِن أحْوالِهِمُ المُخْتَصَّةِ بِهِمْ، ولِدَلالَةِ الصِّلَةِ عَلى أنَّ أذى النَّبِيءِ ﷺ هو عِلَّةُ لَعْنِهِمْ وعَذابِهِمْ.

واللَّعْنُ: الإبْعادُ عَنِ الرَّحْمَةِ وتَحْقِيرِ المَلْعُونِ. فَهم في الدُّنْيا مُحَقَّرُونَ عِنْدَ المُسْلِمِينَ ومَحْرُومُونَ مِن لُطْفِ اللَّهِ وعِنايَتِهِ وهم في الآخِرَةِ مُحَقَّرُونَ بِالإهانَةِ في الحَشْرِ وفي الدُّخُولِ في النّارِ.

والعَذابُ المُهِينُ: هو عَذابُ جَهَنَّمَ في الآخِرَةِ وهو مُهِينٌ؛ لِأنَّهُ عَذابٌ مَشُوبٌ بِتَحْقِيرٍ وخِزْيٍ.

والقَرْنُ بَيْنَ أذى اللَّهِ ورَسُوِلِهِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ أذى الرَّسُولِ ﷺ يُغْضِبُ اللَّهَ تَعالى فَكَأنَّهُ أذًى لِلَّهِ.

وفِعْلُ (يُؤْذُونَ) مُعَدًّى إلى اسْمِ اللَّهِ عَلى مَعْنى المَجازِ المُرْسَلِ في اجْتِلابِ غَضَبِ اللَّهِ وتَعْدِيَتُهُ إلى الرَّسُولِ حَقِيقَةٌ. فاسْتُعْمِلَ (يُؤْذُونَ) في مَعْنَيَيْهِ المَجازِيِّ والحَقِيقِيِّ.

صفحة ١٠٥

ومَعْنى هَذا قَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ «مَن آذانِي فَقَدْ آذى اللَّهَ» وأذى الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - يَحْصُلُ بِالإنْكارِ عَلَيْهِ فِيما يَفْعَلُهُ، وبِالكَيْدِ لَهُ، وبِأذى أهْلِهِ مِثْلَ المُتَكَلِّمِينَ في الإفْكِ، والطّاعِنِينَ أعْمالَهُ، كالطَّعْنِ في إمارَةِ زَيْدٍ، وأُسامَةَ، والطَّعْنِ في أخْذِهِ صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّها نَزَلَتْ في الَّذِينَ طَعَنُوا في اتِّخاذِ النَّبِيءِ ﷺ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ لِنَفْسِهِ.