صفحة ٢٣١

﴿قُلْ إنَّما أعِظُكم بِواحِدَةٍ أنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكم مِن جِنَّةٍ إنْ هو إلّا نَذِيرٌ لَكم بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ﴾

افْتَتَحَ بِالأمْرِ بِالقَوْلِ هُنا وفي الجُمَلِ الأرْبَعِ بَعْدَهُ لِلِاهْتِمامِ بِما احْتَوَتْ عَلَيْهِ. وهَذا اسْتِئْنافٌ لِلِانْتِقالِ مِن حِكايَةِ أحْوالِ كُفْرِ المُشْرِكِينَ وما تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ النَّقْضِ والِاسْتِدْلالِ والتَّسْلِيَةِ والتَّهْدِيدِ ووَصْفِ صُدُودِهِمْ ومُكابَرَتِهِمْ إلى دَعْوَتِهِمْ لِلْإنْصافِ فَبِالتَّأمُّلِ في الحَقائِقِ لِيَتَّضِحَ لَهم خَطَؤُهم فِيما ارْتَكَبُوهُ مِنَ العَسْفِ في تَلَقِّي دَعْوَةِ الإسْلامِ وما ألْصَقُوا بِهِ وبِالدّاعِي إلَيْهِ، وأرْشَدُوا إلى كَيْفِيَّةِ النَّظَرِ في شَأْنِهِمْ والِاخْتِلاءِ بِأنْفُسِهِمْ لِمُحاسَبَتِها عَلى سُلُوكِها، اسْتِقْصاءً لَهم في الحُجَّةِ وإعْذارًا لَهم في المُجادَلَةِ ﴿لِيَهْلِكَ مَن هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ويَحْيا مَن حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: ٤٢] .

ولِذَلِكَ اجْتُلِبَتْ صِيغَةُ الحَصْرِ بِـ (إنَّما)، أيْ ما أعِظُكم إلّا بِواحِدَةٍ، طَيًّا لِبِساطِ المُناظَرَةِ وإرْسالًا عَلى الخُلاصَةِ مِنَ المُجادَلاتِ الماضِيَةِ، وتَقْرِيبًا لِشُقَّةِ الخِلافِ بَيْنَنا وبَيْنَكم.

وهُوَ قَصْرٌ إضافِيٌّ، أيْ لا بِغَيْرِها مِنَ المَواعِظِ المُفَصَّلَةِ، أيْ إنِ اسْتَكْثَرْتُمُ الحُجَجَ وضَجِرْتُمْ مِنَ الرُّدُودِ والمَطاعِنِ فَأنا أخْتَصِرُ المُجادَلَةَ في كَلِمَةٍ واحِدَةٍ فَقَدْ كانُوا يَتَذَمَّرُونَ مِنَ القُرْآنِ لِأبِي طالِبٍ: أما يَنْتَهِي ابْنُ أخِيكَ مِن شَتْمِ آلِهَتِنا وآبائِنا. وهَذا كَما يَقُولُ المُناظِرُ والجَدَلِيُّ بَعْدَ بَسْطِ الأدِلَّةِ فَيَقُولُ: والخُلاصَةُ أوِ الفَذْلَكَةُ كَذا.

وقَدِ ارْتَكَبَ في هَذِهِ الدَّعْوَةِ تَقْرِيبَ مَسالِكِ النَّظَرِ إلَيْهِمْ بِاخْتِصارِهِ، فَوُصِفَ بِأنَّهُ خَصْلَةٌ واحِدَةٌ لِئَلّا يَتَجَهَّمُوا الإقْبالَ عَلى النَّظَرِ الَّذِي عَقَدُوا نِيّاتِهِمْ عَلى رَفْضِهِ، فَأعْلَمُوا بِأنَّ ذَلِكَ لا يُكَلِّفُهم جُهْدًا ولا يُضِيعُ عَلَيْهِمْ زَمَنًا فَلْيَتَأمَّلُوا فِيهِ قَلِيلًا ثُمَّ يَقْضُوا قَضاءَهم، والكَلامُ عَلى لِسانِ النَّبِيءِ ﷺ أمَرَهُ اللَّهُ أنْ يُخاطِبَهم بِهِ.

والوَعْظُ: كَلامٌ فِيهِ تَحْذِيرٌ مِن مَكْرُوهٍ وتَرْغِيبٌ في ضِدِّهِ. وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وكَتَبْنا لَهُ في الألْواحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: ١٤٥] في سُورَةِ الأعْرافِ، وقَوْلُهُ ”يَعِظُكُمُ اللَّهُ“ في سُورَةِ النُّورِ.

صفحة ٢٣٢

و(واحِدَةٍ) صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ المَقامُ ويَفْرِضُهُ السّامِعُ نَحْوَ: بِخَصْلَةٍ، أوْ بِقَضِيَّةٍ، أوْ بِكَلِمَةٍ.

والمَقْصُودُ مِن هَذا الوَصْفِ تَقْلِيلُها تَقْرِيبًا لِلْأفْهامِ واخْتِصارًا في الِاسْتِدْلالِ وإيجازًا في نَظْمِ الكَلامِ واسْتِنْزالًا لِطائِرِ نُفُورِهِمْ وإعْراضِهِمْ. وبُنِيَتْ هَذِهِ الواحِدَةُ بِقَوْلِهِ ﴿أنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وفُرادى﴾ إلى آخِرِهِ، فالمَصْدَرُ المُنْسَبِكُ مِن أنْ والفِعْلِ في مَوْضِعِ البَدَلِ مِن واحِدَةٍ، أوْ قُلْ عَطْفُ بَيانٍ فَإنَّ عَطْفَ البَيانِ هو البَدَلُ المُطابِقُ، وإنَّما اخْتَلَفَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ عِنْدَ المُتَقَدِّمِينَ فَلا تَخُضْ في مُحاوَلَةِ الفَرْقِ بَيْنَهُما كالَّذِي خاضُوا.

والقِيامُ في قَوْلِهِ ”أنْ تَقُومُوا“ مُرادٌ بِهِ المَعْنى المَجازِيُّ وهو التَّأهُّبُ لِلْعَمَلِ والِاجْتِهادُ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وأنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالقِسْطِ﴾ [النساء: ١٢٧] .

واللّامُ لِلتَّعْلِيلِ، أيْ لِأجْلِ اللَّهِ ولِذاتِهِ، أيْ جاعِلِينَ عَمَلَكم لِلَّهِ لا لِمَرْضاةِ صاحِبٍ ولا عَشِيرَةٍ، وهَذا عَكْسُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وقالَ إنَّما اتَّخَذْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ أوْثانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ﴾ [العنكبوت: ٢٥]، أوْ لِأجْلِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ والتَّدَبُّرِ في صِفاتِهِ.

وكَلِمَةُ مَثْنى مَعْدُولٌ بِها عَنْ قَوْلِهِمُ: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، بِتَكْرِيرِ كَلِمَةِ اثْنَيْنِ تَكْرِيرًا يُفِيدُ مَعْنى تَرْصِيفِ الأشْياءِ المُتَعَدِّدَةِ بِجَعْلِ كُلِّ ما يُعَدُّ بِعَدَدِ اثْنَيْنِ مِنهُ مُرَصَّفًا عَلى نَحْوِ عَدَدِهِ.

وكَلِمَةُ فُرادى مَعْدُولٌ بِها عَنْ قَوْلِهِمْ: فَرْدًا فَرْدًا تَكْرِيرًا يُفِيدُ مَعْنى التَّرْصِيفِ كَذَلِكَ. وكَذَلِكَ سائِرُ أسْماءِ العَدَدِ إلى تِسْعٍ أوْ عَشْرٍ ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فانْكِحُوا ما طابَ لَكم مِنَ النِّساءِ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ﴾ [النساء: ٣]، وتَقَدَّمَ في سُورَةِ النِّساءِ.

وانْتَصَبَ مَثْنى وفُرادى عَلى الحالِ مِن ضَمِيرِ ”تَقُومُوا“ أيْ أنْ تَكُونُوا في القِيامِ عَلى هَذَيْنِ الحالَيْنِ فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: أنْ تَقُومُوا لِحَقِّ اللَّهِ وإظْهارِهِ عَلى أيِّ حالٍ مِنِ اجْتِماعٍ وانْفِرادٍ، فَيَكُونُ ”مَثْنى“ كِنايَةً عَنِ التَّعَدُّدِ وهو مِنِ اسْتِعْمالِ مَعْنى التَّثْنِيَةِ في التَّكَرُّرِ لِأنَّ التَّثْنِيَةَ أوَّلُ التَّكْرِيرِ فَجَعَلَ التَّكَرُّرَ لازِمًا لِلتَّثْنِيَةِ ادِّعاءً كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خاسِئًا وهو حَسِيرٌ﴾ [الملك: ٤] فَإنَّ البَصَرَ لا يَرْجِعُ خاسِئًا مِن إعادَةِ نَظْرَةٍ واحِدَةٍ بَلِ المُرادُ مِنهُ تَكْرِيرُ

صفحة ٢٣٣

النَّظَرِ ومِنهُ قَوْلُهم: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، وقَوْلُهم: دَوالَيْكَ.

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى أنْ تَقُومُوا لِحَقِّ اللَّهِ مُسْتَعِينًا أحَدُكم بِصاحِبٍ لَهُ أوْ مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ فَإنَّ مِن أهْلِ النَّظَرِ مَن يَنْشَطُ إلَيْهِ بِالمُدارَسَةِ ما لا يُنَشِّطُهُ بِالخَلْوَةِ. ومِنهم مَن حالُهُ بِعَكْسِ هَذا، فَلِهَذا اقْتَصَرَ عَلى مَثْنى وفُرادى لِأنَّ ما زادَ عَلى ذَلِكَ لا اضْطِرارَ إلَيْهِ. وقَدَّمَ مَثْنى لِأنَّ الِاسْتِعانَةَ أعْوَنُ عَلى الفَهْمِ فَيَكُونُ المُرادُ دَفْعَ عَوائِقِ الوُصُولِ إلى الحَقِّ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ الَّذِي لا يُغالِطُ فِيهِ صاحِبُ هَوًى ولا شُبْهَةٍ ولا يَخْشى فِيهِ النّاظِرُ تَشْنِيعًا ولا سُمْعَةً، فَإنَّ الجَماهِيرَ إذا اجْتَمَعَتْ لَمْ يَخْلُ مُجْتَمَعُهم مِن ذِي هَوًى وذِي شُبْهَةٍ وذِي مَكْرٍ وذِي انْتِفاعٍ، وهَؤُلاءِ بِما يَلْزَمُ نَواياهم مِنَ الخُبْثِ تَصْحَبُهم جُرْأةٌ لا تَتْرُكُ فِيهِمْ وازِعًا عَنِ الباطِلِ ولا صَدًّا عَنِ الِاخْتِلاقِ والتَّحْرِيفِ لِلْأقْوالِ بِعَمْدٍ أوْ خَطَأٍ، ولا حَياءً يُهَذِّبُ مِن حِدَّتِهِمْ في الخِصامِ والأذى، ثُمَّ يَطِيرُونَ بِالقالَةِ وأعْمالِ أهْلِ السَّفالَةِ.

فَلِلسَّلامَةُ مِن هَذِهِ العَوائِقِ والتَّخَلُّصُ مِن تِلْكَ البَوائِقِ الصّادَّةِ عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ قِيلَ هَنا مَثْنى وفُرادى فَإنَّ المَرْءَ إذا خَلا بِنَفْسِهِ عِنْدَ التَّأمُّلِ لَمْ يَرْضَ لَها بِغَيْرِ النُّصْحِ، وإذا خَلا ثانِي اثْنَيْنِ فَهو إنَّما يَخْتارُ ثانِيَهُ أعْلَقَ أصْحابِهِ بِهِ وأقْرَبَهم مِنهُ رَأْيًا فَسَلِمَ كِلاهُما مِن غِشِّ صاحِبِهِ.

وحَرْفُ (ثُمَّ) لِلتَّراخِي في الرُّتْبَةِ لِأنَّ التَّفَكُّرَ في أحْوالِ النَّبِيءِ ﷺ أهَمُّ في إصْلاحِ حالِ المُخاطَبِينَ المُعْرِضِينَ عَنْ دَعْوَتِهِ، بِخِلافِ القِيامِ لِلَّهِ فَإنَّهم لا يَأْبَوْنَهُ.

والتَّفَكُّرُ: تَكَلُّفُ الفِكْرِ وهو العِلْمُ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿أفَلا تَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: ٥٠] في الأنْعامِ.

وقَوْلُهُ ﴿ما بِصاحِبِكم مِن جِنَّةٍ﴾ نَفْيٌ يُعَلِّقُ فِعْلَ تَتَفَكَّرُوا عَنِ العَمَلِ لِأجْلِ حَرْفِ النَّفْيِ.

والمَعْنى: ثُمَّ تَعْلَمُوا نَفْيَ الجُنُونِ عَنْ صاحِبِكم، أيْ تَعْلَمُوا مَضْمُونَ هَذا.

فَجُمْلَةُ ﴿ما بِصاحِبِكم مِن جِنَّةٍ﴾ مَعْمُولَةٌ لِـ (تَتَفَكَّرُوا)، ومَن وقَفَ عَلى تَتَفَكَّرُوا لَمْ يُتْقِنِ التَّفَكُّرَ.

والمُرادُ بِالصّاحِبِ: المُخالِطُ مُطْلَقًا بِالمُوافَقَةِ والمُخاصَمَةِ، وهو كِنايَةٌ عَنِ التَّبَصُّرِ

صفحة ٢٣٤

فِي خَلْقِهِ كَقَوْلِ الحَجّاجِ في خُطْبَتِهِ لِلْخَوارِجِ: ”ألَسْتُمْ أصْحابِي بِالأهْوازِ حِينَ رُمْتُمُ الغَدْرَ واسْتَبْطَنْتُمُ الكُفْرَ“ يَعْنِي: فَلا تَخْفى عَلَيَّ مَقاصِدُكم. وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿أوَ لَمْ يَتَفَكَّروُاْ ما بِصاحِبِهمْ مِن جِنَّةٍ﴾ [الأعراف: ١٨٤] في سُورَةِ الأعْرافِ.

والتَّعْبِيرُ بِصاحِبِكم إظْهارٌ في مَقامِ الإضْمارِ لِأنَّ مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ يُقالَ: ما بِي مِن جَنَّةٍ إذِ الكَلامُ جارٍ عَلى لِسانِ الرَّسُولِ ﷺ كَما تَقَدَّمَ آنِفًا.

وفائِدَتُهُ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ حالَهُ مَعْلُومٌ لَدَيْهِمْ لا يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ لِشِدَّةِ مُخالَطَتِهِ بِهِمْ مُخالَطَةً لا تَذَرُ لِلْجَهالَةِ مَجالًا، فَهم عَرَفُوهُ ونَشَأ بَيْنَهم حَتّى جاءَهم بِالحَقِّ فَهَذا كَقَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكم عُمُرًا مِن قَبْلِهِ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [يونس: ١٦] .

والِاقْتِصارُ في التَّفَكُّرِ المَطْلُوبِ عَلى انْتِفاءِ الجِنَّةِ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ هو أنَّ أصْلَ الكُفْرِ هو الطَّعْنُ في نُبُوءَتِهِ وهم لَمّا طَعَنُوا فِيهِ قالُوا: مَجْنُونٌ، وقالُوا: ساحِرٌ، وقالُوا: كاذِبٌ. فابْتُدِئْ في إرْجاعِهِمْ إلى الحَقِّ بِنَفْيِ الجِنَّةِ عَنْهُ حَتّى إذا أذْعَنُوا إلى أنَّهُ مِنَ العُقَلاءِ انْصَرَفَ النَّظَرُ إلى أنَّ مِثْلَ ما جاءَ بِهِ لا يَأْتِي بِهِ إلّا عاقِلٌ وهم إنَّما ابَتَدَأُوا اخْتِلاقَهم بِأنَّهُ مَجْنُونٌ كَما جاءَ في القُرْآنِ قالَ تَعالى: ﴿ما أنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ [القلم: ٢] في السُّورَةِ الثّانِيَةِ نُزُولًا. وقالَ ﴿وما صاحِبُكم بِمَجْنُونٍ﴾ [التكوير: ٢٢] في السُّورَةِ السّابِعَةِ، وذَلِكَ هو الَّذِي اسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ، قالَ تَعالى ﴿ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ﴾ [الدخان: ١٤] إذْ دَعْوى الجُنُونِ أرْوَجُ بَيْنَ أهْلِ مَكَّةَ لِأنَّ الجُنُونَ يَطْرَأُ عَلى الإنْسانِ دَفْعَةً فَلَمْ يَجِدُوا تَعِلَّةً أقْرَبَ لِلْقَبُولِ مِن دَعْوى أنَّهُ اعْتَراهُ جُنُونٌ كَما قالَ عادٌ لِهُودٍ ﴿إنْ نَقُولُ إلّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ﴾ [هود: ٥٤]، وقالَتْ ثَمُودُ لِصالِحٍ ﴿قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذا﴾ [هود: ٦٢] .

فَبَقِيَتْ دَعْواهم أنَّهُ ساحِرٌ وأنَّهُ كاهِنٌ وأنَّهُ شاعِرٌ وأنَّهُ كاذِبٌ حاشاهُ. فَأمّا السِّحْرُ والكِهانَةُ فَسَهُلَ نَفْيُهُما بِنَفْيِ خَصائِصِهِما، فَأمّا انْتِفاءُ السِّحْرِ فَبَيِّنٌ لِأنَّهُ يَحْتاجُ إلى مُعالَجَةِ تَعَلُّمٍ ومُزاوَلَةٍ طَوِيلَةٍ والنَّبِيءُ ﷺ بَيْنَ ظَهْرانِيهِمْ لا يَخْفى عَلَيْهِمْ أمْرُهُ، وأمّا الشِّعْرُ فَمَسْحَتُهُ مَنفِيَّةٌ عَنِ القُرْآنِ كَما قالَ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ، فَلَمْ يَبْقَ في كِنانَةِ مَطاعِنِهِمْ إلّا زَعْمُهم أنَّهُ كاذِبٌ عَلى اللَّهِ، وهَذا يُزَيِّفُهُ قَوْلُهم ”بِصاحِبِكم“ فَإنَّهم عَرَفُوهُ بِرَجاحَةِ العَقْلِ والصِّدْقِ والأمانَةِ في شَبِيبَتِهِ وكُهُولَتِهِ فَكَيْفَ يُصْبِحُ بَعْدَ ذَلِكَ كاذِبًا كَما قالَ النَّضْرُ بْنُ الحارِثِ: فَلَمّا رَأيْتُمُ الشَّيْبَ في صُدْغَيْهِ قُلْتُمُ شاعِرٌ

صفحة ٢٣٥

وقُلْتُمْ كاهِنٌ وقُلْتُمْ مَجْنُونٌ، وواللَّهِ ما هو بِأُولائِكم. وإذا كانَ لا يَكْذِبُ عَلى النّاسِ فَكَيْفَ يَكْذِبُ عَلى اللَّهِ، كَما قالَ هِرَقْلُ لِأبِي سُفْيانَ وقَدْ سَألَهُ: هَلْ جَرَّبْتُمْ عَلَيْهِ كَذِبًا قَبْلَ أنْ يَقُولَ ما قالَ ؟ قالَ أبُو سُفْيانَ: لا. قالَ: فَقَدْ عَلِمْتَ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَتْرُكَ الكَذِبَ عَلى النّاسِ ويَكْذِبَ عَلى اللَّهِ.

ومِن أجْلِ هَذا التَّدَرُّجِ الَّذِي طُوِيَ تَحْتَ جُمْلَةِ ﴿ما بِصاحِبِكم مِن جِنَّةٍ﴾ أعْقَبَ ذَلِكَ بِحَصْرِ أمْرِهِ في النِّذارَةِ بِقُرْبِ عَذابٍ واقِعٍ، أيْ في النِّذارَةِ والرِّسالَةِ الصّادِقَةِ.

قالَ في الكَشّافِ: أيْ مِثْلُ هَذِهِ الدَّعْوى لا يَتَصَدّى لَها إلّا رَجُلانِ: إمّا مَجْنُونٌ لا يُبالِي بِافْتِضاحِهِ إذا طُولِبَ بِالبُرْهانِ، وإمّا عاقِلٌ راجِحُ العَقْلِ لا يَدَّعِي مِثْلَهُ إلّا بَعْدَ صِحَّتِهِ بِالحُجَّةِ وإلّا فَما يُجْدِي العاقِلُ دَعْوى شَيْءٍ لا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ وقَدْ عَلِمْتُمْ أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ ما بِهِ مِن جِنَّةٍ بَلْ عَلِمْتُمُوهُ أرْجَحَ قُرَيْشٍ عَقْلًا وأرْزَنَهم حِلْمًا وأثْقَبَهم ذِهْنًا وآصَلَهم رَأْيًا وأصْدَقَهم قَوْلًا وأجْمَعَهم لِما يُحْمَدُ عَلَيْهِ الرِّجالُ فَكانَ مَظِنَّةً لِأنْ تَظُنُّوا بِهِ الخَيْرَ وتُرَجِّحُوا فِيهِ جانِبَ الصِّدْقِ عَلى الكَذِبِ اهـ.

فالقَصْرُ المُسْتَفادُ مِن ﴿إنْ هو إلّا نَذِيرٌ لَكُمْ﴾ قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلى صِفَةٍ قَصْرًا إضافِيًّا، أيْ هو مَقْصُورٌ عَلى صِفَةِ النِّذارَةِ لا تَحُومُ حَوْلَهُ الأوْصافُ الَّتِي لَمَزْتُمُوهُ بِها.

ومَعْنى ﴿بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ﴾ القُرْبُ، أيْ قُرْبَ الحُصُولِ فَيَقْتَضِي القَبْلِيَّةَ، أيْ قَبْلَ عَذابٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا في هَذِهِ السُّورَةِ، والمُرادُ عَذابُ الآخِرَةِ.