﴿قُلْ ما سَألْتُكم مِن أجْرٍ فَهْوَ لَكم إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى اللَّهِ وهْوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ هَذا اسْتِقْصاءٌ لِبَقايا شُبَهِ التَّكْذِيبِ لِدَحْضِها سَواءً مِنها ما تَعَلَّقُوا بِهِ مِن نَحْوِ قَوْلِهِمْ: كاهِنٌ وشاعِرٌ ومَجْنُونٌ وما لَمْ يَدَّعُوهُ ولَكِنَّهُ قَدْ يَخْطُرُ بِبالِ واحِدٍ مِنهم أنْ يَزْعُمُوا أنَّهُ يُرِيدُ بِهَذِهِ الدَّعْوى نَفْعًا لِنَفْسِهِ يَكُونُ أجْرًا لَهُ عَلى التَّعْلِيمِ والإرْشادِ.

وهم لَمّا ادَّعَوْا أنَّهُ ساحِرٌ أوْ أنَّهُ شاعِرٌ أوْ أنَّهُ كاهِنٌ لَزِمَ مِن دَعْواهم أنَّهُ يَتَعَرَّضُ

صفحة ٢٣٦

لِجائِزَةِ الشّاعِرِ، وحُلْوانِ الكاهِنِ، فَلَمّا نُفِيَتْ عَنْهُ تِلْكَ الخِلالُ لَمْ يَبْقَ لَهم في الكِنانَةِ سَهْمُ طَعْنٍ، إلّا أنْ يَزْعُمُوا أنَّهُ يَطْلُبُ أجْرًا عَلى الإرْشادِ فَقِيلَ لَهم: ﴿ما سَألْتُكم مِن أجْرٍ فَهو لَكُمْ﴾ إنْ كانَ بِكم ظَنُّ انْتِفاعِي مِنكم بِما دَعَوْتُكم إلَيْهِ، فَما كانَ لِي مِن أجْرٍ عَلَيْهِ فَخُذُوهُ. وهَذِهِ طَرِيقَةٌ بَدِيعَةٌ في الكِنايَةِ التَّهَكُّمِيَّةِ عَنْ عَدَمِ انْتِفاعِهِ بِما يَدْعُوهم إلَيْهِ بِأنْ يُفْرَضَ كالواقِعِ ثُمَّ يُرَتَّبَ عَلَيْهِ الِانْكِفافُ عَنْهُ ورَدُّ ما فاتَ مِنهُ لِيُفْضِيَ بِذَلِكَ إلى البَراءَةِ مِنهُ ومِنَ التَّعَرُّضِ لَهُ، فَهي كِنايَةٌ رَمْزِيَّةٌ وأنَّهم يَعْلَمُونَ أنَّهُ لَمْ يَسْألْهم أجْرًا ﴿قُلْ ما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ وما أنا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص: ٨٦] ﴿إنْ هو إلّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾ [ص: ٨٧] أوْ إنْ كُنْتُ سَألْتُكم أجْرًا فَلا تُعْطُونِيهِ وإنْ كُنْتُمْ أعْطَيْتُمْ شَيْئًا فاسْتَرِدُّوهُ، فَكُنِّيَ بِهَذا الشَّرْطِ المُحَقَّقِ انْتِفاؤُهُ عِنْدَ انْتِفاءِ أنْ يَكُونَ طالِبًا أجْرًا مِنهم عَلى حَدِّ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ [المائدة: ١١٦]، وهَذا ما صَرَّحَ بِهِ عَقِبَهُ مِن قَوْلِهِ ﴿إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى اللَّهِ﴾، فَجِيءَ بِالشَّرْطِ بِصِيغَةِ الماضِي لِيَدُلَّ عَلى انْتِفاءِ ذَلِكَ في الماضِي فَيَكُونُ انْتِفاؤُهُ في المُسْتَقْبَلِ أجْدَرَ، عَلى أنَّ وُقُوعَهُ في سِياقِ الشَّرْطِ يَقْضِي بِانْتِفائِهِ في المُسْتَقْبَلِ أيْضًا. وهَذا جارٍ مَجْرى التَّحَدِّي لِأنَّهُ لَوْ كانَ لِجَماعَتِهِمْ أوْ آحادِهِمْ عِلْمٌ بِأنَّهُ طَلَبَ أجْرًا مِنهم لَجارُوا حِينَ هَذا التَّحَدِّي بِمُكافَحَتِهِ وطالَبُوهُ بِرَدِّهِ عَلَيْهِمْ.

ويَنْتَقِلُ مِن هَذا إلى تَعْيِينِ أنَّ ما دَعاهم إلَيْهِ لا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهم بِالنَّجاةِ مِنَ العَذابِ، وقَدْ تَكَرَّرَ في القُرْآنِ التَّبَرُّؤُ مِن أنْ يَكُونَ النَّبِيءُ ﷺ يُرِيدُ مِنهم أجْرًا أوْ يَتَطَلَّبُ نَفْعًا لِأنَّ انْتِفاءَ ذَلِكَ ما يُلاقِيهِ مِنَ العَناءِ في الدَّعْوَةِ دَلِيلُ أنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ مِنَ اللَّهِ لا يُرِيدُ جَزاءً مِنهم.

و(ما) يَجُوزُ أنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، و(مِن أجْرٍ) بَيانًا لِإبْهامِ (ما) وجُمْلَةُ ”فَهو لَكم“ جَوابَ الشَّرْطِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ (ما) نافِيَةً. وتَكُونَ (مِن) لِتَوْكِيدِ عُمُومِ النَّكِرَةِ في النَّفْيِ، وتَكُونَ الفاءُ في قَوْلِهِ (﴿فَهُوَ لَكُمْ﴾) تَفْرِيعًا عَلى نَفْيِ الأجْرِ، وضَمِيرُ (هو) عائِدًا عَلى القُرْآنِ المَفْهُومِ مِنَ المَقامِ ومِن تَقَدُّمِ قَوْلِهِ ﴿وإذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ﴾ [سبإ: ٤٣] أيْ فَهَذا القُرْآنُ لِفائِدَتِكم لا لِفائِدَتِي لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿ما سَألْتُكم مِن أجْرٍ﴾ يُفِيدُ أنْ لا فائِدَةَ لَهُ في هَذِهِ الدَّعْوَةِ. ويَكُونُ مَعْنى الآيَةِ نَظِيرَ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ ما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ وما أنا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص: ٨٦] ﴿إنْ هو إلّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾ [ص: ٨٧] .

صفحة ٢٣٧

والأجْرُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿لِيَجْزِيَكَ أجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا﴾ [القصص: ٢٥] في سُورَةِ القَصَصِ. وجُمْلَةُ (﴿إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى اللَّهِ﴾) مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا جَوابًا لِسُؤالٍ مُقَدَّرٍ أنْ يَسْألَ السّامِعُ: كَيْفَ لا يَكُونُ لَهُ عَلى ما قامَ بِهِ أجْرٌ، فَأُجِيبَ بِأنَّ أجْرَهُ مَضْمُونٌ وعَدَهُ اللَّهُ بِهِ لِأنَّهُ إنَّما يَقُومُ بِعَمَلٍ لِمَرْضاتِهِ وامْتِثالِ أمْرِهِ فَعَلَيْهِ أجْرُهُ.

وحَرْفُ ”عَلى“ يَقْتَضِي أنَّهُ حَقُّ اللَّهِ وذَلِكَ بِالنَّظَرِ إلى وعْدِهِ الصّادِقِ، ثُمَّ ذَيَّلَ ذَلِكَ بِاسْتِشْهادِ اللَّهِ تَعالى عَلى باطِنِهِ ونِيَّتِهِ الَّتِي هي مِن جُمْلَةِ الكائِناتِ الَّتِي اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَيْها، وعَلِيمٌ بِخَفاياها فَهو مِن بابِ ﴿قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ [الرعد: ٤٣] أيْ وهو شاهِدٌ عَلى ذَلِكَ كُلِّهِ.

والأجْرُ: عِوَضٌ نافِعٌ عَلى عَمَلٍ سَواءٌ كانَ مالًا أوْ غَيْرَهُ.

وقَرَأ نافِعٌ وأبُو عَمْرٍو وابْنُ عامِرٍ وحَفْصٌ ياءَ ”أجْرِيَ“ مَفْتُوحَةً. وقَرَأها ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو بَكْرٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ ساكِنَةً، وهُما وجْهانِ مِن وُجُوهِ ياءِ المُتَكَلِّمِ في الإضافَةِ.