﴿إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم ويَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ ﴿وما ذَلِكَ عَلى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ واقِعٌ مَوْقِعَ البَيانِ لِما تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ ”﴿هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ﴾ [فاطر: ١٥]“ مِن مَعْنى قِلَّةِ الِاكْتِراثِ بِإعْراضِهِمْ عَنِ الإسْلامِ، ومِن مَعْنى رِضاهُ عَلى مَن يَعْبُدُهُ فَهو تَعالى لِغِناهُ عَنْهم وغَضَبِهِ عَلَيْهِمْ لَوْ شاءَ لَأبادَهم وأتى بِخَلْقٍ آخَرِينَ يَعْبُدُونَهُ فَخَلُصَ العالَمُ مِن عُصاةِ أمْرِ اللَّهِ وذَلِكَ في قُدْرَتِهِ ولَكِنَّهُ أمْهَلَهم إعْمالًا لِصِفَةِ الحِلْمِ.

فالمَشِيئَةُ هُنا المَشِيئَةُ النّاشِئَةُ عَنْ الِاسْتِحْقاقِ، أيْ أنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا أنْ يَشاءَ اللَّهُ إهْلاكَهم ولَكِنَّهُ أمْهَلَهم، لا أصْلُ المَشِيئَةِ الَّتِي هي كَوْنُهُ مُخْتارًا في فِعْلِهِ لا مُكْرِهَ لَهُ لِأنَّها لا يُحْتاجُ إلى الإعْلامِ بِها.

والإذْهابُ مُسْتَعْمَلٌ في الإهْلاكِ، أيِ الإعْدامِ مِن هَذا العالَمِ، أيْ إنْ يَشَأْ يُسَلِّطْ عَلَيْهِمْ مَوْتًا يَعُمُّهم، فَكَأنَّهُ أذَهْبَهم مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ لِأنَّهُ يَأْتِي بِهِمْ إلى دارِ الآخِرَةِ.

والإتْيانُ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ مُسْتَعْمَلٌ في إحْداثِ ناسٍ لَمْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ ولا مُتَرَقَّبًا وجُودُهم، أيْ يُوجِدُ خَلْقًا مِنَ النّاسِ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.

فالخَلْقُ هُنا بِمَعْنى المَخْلُوقِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿هَذا خَلْقُ اللَّهِ فَأرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾ [لقمان: ١١]

صفحة ٢٨٧

وهَذا في مَعْنى قَوْلِهِ ﴿وإنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكم ثُمَّ لا يَكُونُوا أمْثالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٨] .

ولَيْسَ المَعْنى: أنَّهُ إنْ يَشَأْ يُعَجِّلْ بِمَوْتِهِمْ فَيَأْتِي جِيلُ أبْنائِهِمْ مُؤْمِنِينَ لِأنَّ قَوْلَهُ وما ذَلِكَ عَلى اللَّهِ بِعَزِيزٍ يَنْبُو عَنْهُ.

وعُطِفَ عَلَيْهِ الإعْلامُ بِأنَّ ذَلِكَ لَوْ شاءَ لَكانَ هَيِّنًا عَلَيْهِ وما هو عَلَيْهِ بِعَزِيزٍ.

والعَزِيزُ: المُتَمَنِّعُ الغالِبُ، وهَذا زِيادَةٌ في الإرْهابِ والتَّهْدِيدِ لِيَكُونُوا مُتَوَقِّعِينَ حُلُولَ هَذا بِهِمْ.

ومَفْعُولُ فِعْلِ المَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ اسْتِغْناءً بِما دَلَّ عَلَيْهِ جَوابُ الشَّرْطِ وهو يُذْهِبْكم أيْ إنْ يَشَأْ إذْهابَكم، ومِثْلُ هَذا الحَذْفِ لِمَفْعُولِ المَشِيئَةِ كَثِيرٌ في الكَلامِ.

والإشارَةُ في قَوْلِهِ ”وما ذَلِكَ“ عائِدَةٌ إلى الإذْهابِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِـ ”يُذْهِبْكم“ أوْ إلى ما تَقَدَّمَ بِتَأْوِيلِ المَذْكُورِ.