Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وإنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنهُ شَيْءٌ ولَوْ كانَ ذا قُرْبى﴾ لَمّا كانَ ما قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ مَسُوقًا في غَرَضِ التَّهْدِيدِ وكانَ الخِطابُ لِلنّاسِ أُرِيدَتْ طَمْأنَةُ المُسْلِمِينَ مِن عَواقِبِ التَّهْدِيدِ، فَعُقِّبَ بِأنَّ مَن لَمْ يَأْتِ وِزْرًا لا يَنالُهُ جَزاءُ الوازِرِ في الآخِرَةِ قالَ تَعالى ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ونَذَرُ الظّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا، وقَدْ يَكُونُ وعْدًا بِالإنْجاءِ مِن عَذابِ الدُّنْيا إذْ نَزَلَ بِالمُهَدَّدِينَ الإذْهابُ والإهْلاكُ مِثْلَما أُهْلِكَ فَرِيقُ الكُفّارِ يَوْمَ بَدْرٍ وأُنْجِيَ فَرِيقُ المُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ هَذا وعْدًا خاصًّا لا يُعارِضُهُ قَوْلُهُ تَعالى واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكم خاصَّةً وما ورَدَ في حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ «قالَتْ يا رَسُولَ اللَّهِ أنَهْلِكُ وفِينا الصّالِحُونَ ؟ قالَ: نَعَمْ إذا كَثُرَ الخَبَثُ» .
فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ تَعالى حَتّى إذا اسْتَيْأسَ الرُّسُلُ وظَنُّوا أنَّهم قَدْ كُذِبُوا جاءَهم نَصْرُنا فَنُنْجِي مَن نَشاءُ ولا يُرَدُّ بَأْسُنا
صفحة ٢٨٨
عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ، ولِهَذا فالظّاهِرُ أنَّ هَذا تَأْمِينٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الِاسْتِئْصالِ كَقَوْلِهِ تَعالى وما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ إنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهم بِالغَيْبِ، وهو تَأْمِينٌ مِن تَعْمِيمِ العِقابِ في الآخِرَةِ بِطَرِيقِ الأوْلى ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ: ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى يَوْمَ القِيامَةِ، أيْ إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم جَمِيعًا ولا يُعَذِّبِ المُؤْمِنِينَ في الآخِرَةِ، وهَذا كَقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ «ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلى نِيّاتِهِمْ» .والوَجْهُ الأوَّلُ أعَمُّ وأحْسَنُ. وأيًّا ما كانَ فَإنَّ قَضِيَّةَ ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى كُلِّيَّةٌ عامَّةٌ فَكَيْفَ وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿ولَيَحْمِلُنَّ أثْقالَهم وأثْقالًا مَعَ أثْقالِهِمْ﴾ [العنكبوت: ١٣] في سُورَةِ العَنْكَبُوتِ، فالجَمْعُ بَيْنَ الآيَتَيْنِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَفَتْ أنْ يَحْمِلَ أحَدٌ وِزْرَ آخَرَ لا مُشارَكَةَ لَهُ لِلْحامِلِ عَلى اقْتِرافِ الوِزْرِ، وأمّا آيَةُ سُورَةِ العَنْكَبُوتِ فَمَوْرِدُها في زُعَماءِ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ مَوَّهُوا الضَّلالَةَ وثَبَتُوا عَلَيْها، فَإنَّ أوَّلَ تِلْكَ الآيَةِ ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا ولْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ﴾ [العنكبوت: ١٢]، وكانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِكُلِّ مَن يَسْتَرْوِحُونَ مِنهُ الإقْبالَ عَلى الإيمانِ بِالأحْرى.
وأصْلُ الوِزْرِ بِكَسْرِ الواوِ: هو الوِقْرُ بِوَزْنِهِ ومَعْناهُ. وهو الحِمْلُ بِكَسْرِ الحاءِ، أيْ ما يُحْمَلُ، ويُقالُ وزِرَ إذا حَمَلَ. فالمَعْنى: ولا تَحْمِلُ حامِلَةٌ حِمْلَ أُخْرى، أيْ لا يُحَمِّلُ اللَّهُ نَفْسًا حِمْلًا جَعَلَهُ لِنَفْسٍ أُخْرى عَدْلًا مِنهُ تَعالى لِأنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العَدْلَ وقَدْ نَفى عَنْ شَأْنِهِ الظُّلْمَ وإنْ كانَ تَصَرُّفُهُ إنَّما هو في مَخْلُوقاتِهِ.
وجَرى وصْفُ الوازِرَةِ عَلى التَّأْنِيثِ لِأنَّهُ أُرِيدَ بِهِ النَّفْسُ.
ووَجْهُ اخْتِيارِ الإسْنادِ إلى المُؤَنَّثِ بِتَأْوِيلِ النَّفْسِ دُونَ أنْ يَجْرِيَ الإضْمارُ عَلى التَّذْكِيرِ بِتَأْوِيلِ الشَّخْصِ، لِأنَّ مَعْنى النَّفْسِ هو المُتَبادَرُ لِلْأذْهانِ عِنْدَ ذِكْرِ الِاكْتِسابِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلّا عَلَيْها في سُورَةِ الأنْعامِ وقَوْلِهِ ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر: ٣٨] في سُورَةِ المُدَّثِّرِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ ثُمَّ نَبَّهَ عَلى أنَّ هَذا الحُكْمَ العادِلَ مُطَّرِدٌ مُسْتَمِرٌّ حَتّى لَوِ اسْتَغاثَتْ نَفْسٌ مُثْقَلَةٌ في الأوْزارِ مَن يُنْتَدَبُ لَحَمْلِ أوْزارِها أوْ بَعْضِها لَمْ تَجِدْ مَن يَحْمِلُ عَنْها شَيْئًا، لِئَلّا يَقِيسَ النّاسُ الَّذِينَ في الدُّنْيا أحْوالَ الآخِرَةِ عَلى ما تَعارَفُوهُ
صفحة ٢٨٩
فَإنَّ العَرَبَ تَعارَفُوا النَّجْدَةَ إذا اسْتُنْجِدُوا ولَوْ كانَ لِأمْرٍ يَضُرُّ بِالمُنْجِدِ. ومِن أمْثالِهِمْ ”لَوْ دُعِيَ الكَرِيمُ إلى حَتْفِهِ لَأجابَ“ وقالَ ودّاكُ ابْنُ ثُمَيْلٍ المازِنِيُّ:إذا اسْتُنْجِدُوا لَمْ يَسْألُوا مَن دَعاهُمُ لِأيَّةِ حَرْبٍ أمْ بِأِيِّ مَكانِ
ولِذَلِكَ سُمِّيَ طَلَبُ الحِمْلِ هُنا دُعاءً لِأنَّ في الدُّعاءِ مَعْنى الِاسْتِغاثَةِ.وحَذْفُ مَفْعُولِ ”تَدْعُ“ لِقَصْدِ العُمُومِ. والتَّقْدِيرُ: وإنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أيَّ مَدْعُوٍّ.
وقَوْلُهُ ”إلى حِمْلِها“ مُتَعَلِّقٌ بِـ ”تَدْعُ“، وجُعِلَ الدُّعاءُ إلى الحِمْلِ لِأنَّ الحِمْلَ سَبَبُ الدُّعاءِ وعِلَّتُهُ. فالتَّقْدِيرُ: وإنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أحَدًا إلَيْها لِأجْلِ أنْ يَحْمِلَ عَنْها حِمْلَها، فَحُذِفَ أحَدُ مُتَعَلِّقَيِ الفِعْلِ المَجْرُورِ بِاللّامِ لِدَلالَةِ الفِعْلِ ومُتَعَلِّقِهِ المَذْكُورِ عَلى المَحْذُوفِ.
وهَذا إشارَةٌ إلى ما سَيَكُونُ في الآخِرَةِ، أيْ لَوِ اسْتُصْرِخَتْ نَفْسٌ مَن يَحْمِلُ عَنْها شَيْئًا مِن أوْزارِها، كَما كانُوا يَزْعُمُونَ أنَّ أصْنامَهم تَشْفَعُ لَهم أوْ غَيْرِهِمْ، لا تَجِدُ مَن يُجِيبُها لِذَلِكَ.
وقَوْلُهُ ولَوْ كانَ ذا قُرْبى في مَوْضِعِ الحالِ مِن ”مُثْقَلَةٌ“، و”لَوْ“ وصْلِيَّةٌ كالَّتِي في قَوْلِهِ تَعالى فَلَنْ يُقْبَلَ مِن أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا ولَوِ افْتَدى بِهِ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.
والضَّمِيرُ المُسْتَتِرُ في ”كانَ“ عائِدٌ إلى مَفْعُولِ ”تَدْعُ“ المَحْذُوفِ، إذْ تَقْدِيرُهُ: وإنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أحَدًا إلى حِمْلِها كَما ذَكَرْنا، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: ولَوْ كانَ المَدْعُوُّ ذا قُرْبى، فَإنَّ العُمُومَ الشُّمُولِيَّ الَّذِي اقْتَضَتْهُ النَّكِرَةُ في سِياقِ الشَّرْطِ يَصِيرُ في سِياقِ الإثْباتِ عُمُومًا بَدَلِيًّا.
ووَجْهُ ما اقْتَضَتْهُ المُبالَغَةُ مِن ”لَوِ“ الوَصْلِيَّةِ أنَّ ذا القُرْبى أرَقُّ وأشْفَقُ عَلى قَرِيبِهِ، فَقَدْ يَظُنُّ أنَّهُ يُغْنِي عَنْهُ في الآخِرَةِ بِأنْ يُقاسِمَهُ الثِّقَلَ الَّذِي يُؤَدِّي بِهِ إلى العَذابِ فَيَخِفُّ عَنْهُ العَذابُ بِالِاقْتِسامِ.
صفحة ٢٩٠
والإطْلاقُ في القُرْبى يَشْمَلُ قَرِيبَ القَرابَةِ كالأبَوَيْنِ والزَّوْجَيْنِ كَما قالَ تَعالى ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِن أخِيهِ﴾ [عبس: ٣٤] ﴿وأُمِّهِ وأبِيهِ﴾ [عبس: ٣٥] .وهَذا إبْطالٌ لِاعْتِقادِ الغَناءِ الذّاتِيِّ بِالتَّضامُنِ والتَّحامُلِ فَقَدْ كانَ المُشْرِكُونَ يَقِيسُونَ أُمُورَ الآخِرَةِ عَلى أمْرِ الدُّنْيا فَيُعَلِّلُونَ أنْفُسَهم إذا هُدِّدُوا بِالبَعْثِ بِأنَّهُ إنْ صَحَّ فَإنَّ لَهم يَوْمَئِذٍ شُفَعاءَ وأنْصارًا، فَهَذا سِياقُ تَوْجِيهِ هَذا إلى المُشْرِكِينَ ثُمَّ هو بِعُمُومِهِ يَنْسَحِبُ حُكْمُهُ عَلى جَمِيعِ أهْلِ المَحْشَرِ، فَلا يَحْمِلُ أحَدٌ عَنْ أحَدٍ إثْمَهُ. وهَذا لا يُنافِي الشَّفاعَةَ الوارِدَةَ في الحَدِيثِ، كَما تَقَدَّمَ في سُورَةِ سَبَأٍ، فَإنَّها إنَّما تَكُونُ بِإذْنِ اللَّهِ تَعالى إظْهارًا لِكَرامَةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ولا يُنافِي ما جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِن مُكَفِّراتِ الذُّنُوبِ كَما ورَدَ أنَّ أفْراطَ المُؤْمِنِينَ يَشْفَعُونَ لِأُمَّهاتِهِمْ، فَتِلْكَ شَفاعَةٌ جَعْلِيَّةٌ جَعَلَها اللَّهُ كَرامَةً لِلْأُمَّهاتِ المُصابَةِ مِنَ المُؤْمِناتِ.
* * *
﴿إنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهم بِالغَيْبِ وأقامُوا الصَّلاةَ ومَن تَزَكّى فَإنَّما يَتَزَكّى لِنَفْسِهِ وإلى اللَّهِ المَصِيرُ﴾ اسْتِئْنافٌ كَلامِيٌّ بِأنَّ الرَّسُولَ ﷺ يَخْطُرُ في نَفْسِهِ التَّعَجُّبُ مِن عَدَمِ تَأثُّرِ أكْثَرِ المُشْرِكِينَ بِإنْذارِهِ فَأُجِيبَ بِأنَّ إنْذارَهُ يَنْتَفِعُ بِهِ المُؤْمِنُونَ ومَن تَهَيَّأُوا لِلْإيمانِ.وإيرادُ هَذِهِ الآيَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَها يُؤَكِّدُ أنَّ المَقْصِدَ الأوَّلَ مِنَ الَّتِي قَبْلَها مَوْعِظَةُ المُشْرِكِينَ وتَخْوِيفُهم، وإبْلاغُ الحَقِيقَةِ إلَيْهِمْ لِاقْتِلاعِ مَزاعِمِهِمْ وأوْهامِهِمْ في أمْرِ البَعْثِ والحِسابِ والجَزاءِ. فَأقْبَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ ﷺ بِالخِطابِ لِيَشْعُرَ بِأنَّ تِلْكَ المَواعِظَ فِيهِ وأنَّها إنَّما يَنْتَفِعُ بِها المُسْلِمُونَ، وهو أيْضًا يُؤَكِّدُ ما في الآيَةِ الأُولى مِنَ التَّعْرِيضِ بِتَأْمِينِ المُسْلِمِينَ بِما اقْتَضاهُ عُمُومُ الإنْذارِ والوَعِيدِ.
وأُطْلِقَ الإنْذارُ هُنا عَلى حُصُولِ أثَرِهِ، وهو الِانْكِفافُ أوِ التَّصْدِيقُ بِهِ، ولَيْسَ المُرادُ حَقِيقَةَ الإنْذارِ، وهو الإخْبارُ عَنْ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ لِأنَّ القَرِينَةَ صادِقَةٌ عَنِ المَعْنى الحَقِيقِيِّ وهي قَرِينَةُ تَكَرُّرِ الإنْذارِ لِلْمُشْرِكِينَ الفَيْنَةَ بَعْدَ الفَيْنَةِ وما هو بِبَعِيدٍ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ، فَإنَّ النَّبِيءَ ﷺ أنْذَرَ المُشْرِكِينَ طُولَ مُدَّةِ دَعْوَتِهِ، فَتَعَيَّنَ أنَّ تَعَلُّقَ الفِعْلِ المَقْصُورِ عَلَيْهِ بِـ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهم بِالغَيْبِ تَعَلُّقٌ عَلى مَعْنى حُصُولِ أثَرِ الفِعْلِ.
صفحة ٢٩١
فالمَقْصُودُ مِنَ القَصْرِ أنَّهُ قَصْرُ قَلْبٍ لِأنَّ المَقْصُودَ التَّنْبِيهُ عَلى أنْ لا يَظُنَّ النَّبِيءُ ﷺ انْتِفاعَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِنِذارَتِهِ، وإنْ كانَتْ صِيغَةُ القَصْرِ صالِحَةً لِمَعْنى القَصْرِ الحَقِيقِيِّ لَكِنَّ اعْتِبارَ المَقامِ يُعَيِّنُ اعْتِبارَ القَصْرِ الإضافِيِّ. ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ في سُورَةِ (يس) إنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ وقَوْلُهُ فَذَكِّرْ بِالقُرْآنِ مَن يَخافُ وعِيدِ في سُورَةِ (ق)، مَعَ أنَّ التَّذْكِيرَ بِالقُرْآنِ يَعُمُّ النّاسَ كُلَّهم.والغَيْبُ: ما غابَ عَنْكَ، أيِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهم في خَلْواتِهِمْ وعِنْدَ غَيْبَتِهِمْ عَنِ العِيانِ، أيِ الَّذِينَ آمَنُوا حَقًّا غَيْرَ مُرائِينَ أحَدًا.
و”أقامُوا الصَّلاةَ“ أيْ لَمْ يُفَرِّطُوا في صَلاةٍ كَما يُؤْذِنُ بِهِ فِعْلُ الإقامَةِ كَما تَقَدَّمَ في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ.
ولَمّا كانَتْ هاتانِ الصِّفَتانِ مِن خَصائِصِ المُسْلِمِينَ صارَ المَعْنى: إنَّما تُنْذِرُ المُؤْمِنِينَ، فَعَدَلَ عَنِ اسْتِحْضارِهِمْ بِأشْهَرِ ألْقابِهِمْ مَعَ ما فِيهِ مِنَ الإيجازِ إلى اسْتِحْضارِهِمْ بِصِلَتَيْنِ مَعَ ما فِيهِما مِنَ الإطْنابِ، تَذَرُّعًا بِذِكْرِ هاتَيْنِ الصِّلَتَيْنِ إلى الثَّناءِ عَلَيْهِمْ بِإخْلاصِ الإيمانِ في الِاعْتِقادِ والعَمَلِ.
وجُمْلَةُ ﴿ومَن تَزَكّى فَإنَّما يَتَزَكّى لِنَفْسِهِ﴾ تَذْيِيلٌ جارٍ مَجْرى المَثَلِ. وذِكْرُ التَّذْيِيلِ عَقِبَ المُذَيَّلِ يُؤْذِنُ بِأنَّ ما تَضَمَّنَهُ المُذَيَّلُ داخِلٌ في التَّذْيِيلِ بادِئَ ذِي بَدْءٍ، مِثْلَ دُخُولِ سَبَبِ العامِّ في عُمُومِهِ مِن أوَّلِ وهْلَةٍ دُونَ أنْ يُخَصَّ العامُّ بِهِ، فالمَعْنى: إنَّ الَّذِينَ خَشَوْا رَبَّهم بِالغَيْبِ وأقامُوا الصَّلاةَ هم مِمَّنْ تَزَكّى فانْتَفَعُوا بِتَزْكِيَتِهِمْ، فالمَعْنى: إنَّما يَنْتَفِعُ بِالنِّذارَةِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهم بِالغَيْبِ فَأُولَئِكَ تَزَكَّوْا بِها ومَن تَزَكّى فَإنَّما يَتَزَكّى لِنَفْسِهِ.
والمَقْصُودُ مِنَ القَصْرِ في قَوْلِهِ ”﴿فَإنَّما يَتَزَكّى لِنَفْسِهِ﴾“ أنَّ قَبُولَهُمُ النِّذارَةَ كانَ لِفائِدَةِ أنْفُسِهِمْ، فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأنَّ الَّذِينَ لَمْ يَعْبَأُوا بِنِذارَتِهِ تَرَكُوا تَزْكِيَةَ أنْفُسِهِمْ بِها فَكانَ تَرْكُهم ضُرًّا عَلى أنْفُسِهِمْ.
وجُمْلَةُ ”﴿وإلى اللَّهِ المَصِيرُ﴾“ تَكْمِيلٌ لِلتَّذْيِيلِ، والتَّعْرِيفُ في ”المَصِيرُ“
صفحة ٢٩٢
لِلْجِنْسِ، أيِ المَصِيرُ كُلُّهُ إلى اللَّهِ سَواءً فِيهِ مَصِيرُ المُتَزَكِّي ومَصِيرُ غَيْرِ المُتَزَكِّي، أيْ وكُلٌّ يُجازى بِما يُناسِبُهُ.وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ في قَوْلِهِ ”وإلى اللَّهِ المَصِيرُ“ لِلِاهْتِمامِ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّهُ مَصِيرٌ إلى مَنِ اقْتَضى اسْمُهُ الجَلِيلُ الصِّفاتِ المُناسِبَةَ لِإقامَةِ العَدْلِ وإفاضَةِ الفَضْلِ مَعَ الرِّعايَةِ عَلى الفاصِلَةِ.