﴿إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشاءُ وما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَن في القُبُورِ﴾ ﴿إنْ أنْتَ إلّا نَذِيرٌ﴾ لَمّا كانَ أعْظَمُ حِرْمانٍ نَشَأ عَنِ الكُفْرِ هو حِرْمانُ الِانْتِفاعِ بِأبْلَغِ كَلامٍ وأصْدَقِهِ وهو القُرْآنُ كانَ حالُ الكافِرِ الشَّبِيهِ بِالمَوْتِ أوْضَحَ شَبَهًا بِهِ في عَدَمِ انْتِفاعِهِ بِالقُرْآنِ وإعْراضِهِ عَنْ سَماعِهِ ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرْآنِ والغَوْا فِيهِ لَعَلَّكم تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت: ٢٦]، وكانَ حالُ المُؤْمِنِينَ بِعَكْسِ ذَلِكَ إذْ تَلَقَّوُا القُرْآنَ ودَرَسُوهُ وتَفَقَّهُوا فِيهِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ، وأُعْقِبَ تَمْثِيلُ حالِ المُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ بِحالِ الأحْياءِ والأمْواتِ بِتَوْجِيهِ الخِطابِ إلى النَّبِيءِ ﷺ مَعْذِرَةً لَهُ في التَّبْلِيغِ لِلْفَرِيقَيْنِ، وفي عَدَمِ قَبُولِ تَبْلِيغِهِ لَدى أحَدِ الفَرِيقَيْنِ، وتَسْلِيَةً لَهُ عَنْ ضَياعِ وابِلِ نُصْحِهِ في سِباخِ قُلُوبِ الكافِرِينَ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ قَبُولَ الَّذِينَ قَبِلُوا الهُدى واسْتَمَعُوا إلَيْهِ كانَ بِتَهْيِئَةِ اللَّهِ تَعالى نُفُوسَهم لِقَبُولِ الذِّكْرِ والعِلْمِ، وأنَّ عَدَمَ انْتِفاعِ المُعْرِضِينَ بِذَلِكَ هو بِسَبَبِ مَوْتِ قُلُوبِهِمْ فَكَأنَّهُمُ الأمْواتُ في القُبُورِ وأنْتَ لا تَسْتَطِيعُ أنْ تُسْمِعَ الأمْواتَ، فَجاءَ قَوْلُهُ إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشاءُ وما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَن في القُبُورِ عَلى مُقابَلَةِ قَوْلِهِ وما يَسْتَوِي الأحْياءُ ولا الأمْواتُ مُقابَلَةَ اللَّفِّ بِالنَّشْرِ المُرَتَّبِ.

فَجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشاءُ﴾ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ إنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهم بِالغَيْبِ، لِأنَّ مَعْنى القَصْرِ يَنْحَلُّ إلى إثْباتٍ ونَفْيٍ فَكانَ مُفِيدًا فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا انْتَفَعَ بِالإنْذارِ، وفَرِيقًا لَمْ يَنْتَفِعْ، فَعُلِّلَ ذَلِكَ بِـ ”﴿إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشاءُ﴾“ .

وقَوْلُهُ ﴿وما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَن في القُبُورِ﴾ إشارَةٌ إلى الَّذِينَ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ أنْ يُسْمِعَهم إنْذارَكَ.

واسْتُعِيرَ مَن في القُبُورِ لِلَّذِينِ لَمْ تَنْفَعْ فِيهِمُ النُّذُرُ، وعَبَّرَ عَنِ الأمْواتِ بِـ ”مَن في القُبُورِ“ لِأنَّ مَن في القُبُورِ أعْرَقُ في الِابْتِعادِ عَنْ بُلُوغِ الأصْواتِ لِأنَّ

صفحة ٢٩٦

بَيْنَهم وبَيْنَ المُنادِي حاجِزُ الأرْضِ. فَهَذا إطْنابٌ أفادَ مَعْنًى لا يُفِيدُهُ الإيجازُ بِأنْ يُقالَ: وما أنْتَ بِمُسْمِعٍ المَوْتى.

وجِيءَ بِصِيغَةِ الجَمْعِ ”الأحْياءُ“ و”الأمْواتُ“ تَفَنُّنًا في الكَلامِ بَعْدَ أنْ أُورِدَ الأعْمى والبَصِيرُ بِالإفْرادِ لِأنَّ المُفْرَدَ والجَمْعَ في المُعَرَّفِ بِلامِ الجِنْسِ سَواءٌ إذا كانَ اسْمًا لَهُ أفْرادٌ بِخِلافِ النُّورِ والظِّلِّ والحَرُورِ، وأمّا جَمْعُ الظُّلُماتِ فَقَدْ عَلِمْتَ وجْهَهُ آنِفًا.

وجُمْلَةُ إنْ أنْتَ إلّا نَذِيرٌ أفادَتْ قَصْرًا إضافِيًّا بِالنِّسْبَةِ إلى مُعالَجَةِ تَسْمِيعِهِمُ الحَقَّ، أيْ أنْتَ نَذِيرٌ لِلْمُشابِهِينَ مَن في القُبُورِ ولَسْتَ بِمُدْخِلٍ الإيمانَ إلى قُلُوبِهِمْ، وهَذا مَسُوقٌ مَساقَ المَعْذِرَةِ لِلنَّبِيءِ ﷺ وتَسْلِيَتِهِ إذْ كانَ مُهْتَمًّا مِن عَدَمِ إيمانِهِمْ.

والنَّذِيرُ: المُنْبِئُ عَنْ تَوَقُّعِ حُدُوثِ مَكْرُوهٍ أوْ مُؤْلِمٍ.

والِاقْتِصارُ عَلى وصْفِهِ بِالنَّذِيرِ لِأنَّ مَساقَ الكَلامِ عَلى المُصَمِّمِينَ عَلى الكُفْرِ.