﴿إنّا زَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةِ الكَواكِبِ﴾ ﴿وحِفْظًا مِن كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ﴾“ هَذِهِ الجُمْلَةُ تَنْزِلُ مِن جُمْلَةِ رَبِّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما مَنزِلَةَ الدَّلِيلِ عَلى أنَّهُ رَبُّ السَّماواتِ. واقْتَصَرَ عَلى رُبُوبِيَّةِ السَّماواتِ لِأنَّ ثُبُوتَها يَقْتَضِي رُبُوبِيَّةَ الأرْضِ بِطَرِيقِ الأوْلى.

وأدْمَجَ فِيها مِنَّةً عَلى النّاسِ بِأنْ جَعَلَ لَهم في السَّماءِ زِينَةَ الكَواكِبِ تَرُوقُ أنْظارُهم، فَإنَّ مَحاسِنَ المَناظِرِ لَذَّةٌ لِلنّاظِرِينَ قالَ تَعالى ﴿ولَكم فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ [النحل: ٦]، ومِنَّةً عَلى المُسْلِمِينَ بِأنْ جَعْلَ في تِلْكَ الكَواكِبِ حِفْظًا مِن تَلَقِّي الشَّياطِينِ لِلسَّمْعِ فِيما قَضى اللَّهُ أمْرَهُ في العِلْمِ العُلْوِيِّ لِقَطْعِ سَبِيلِ اطِّلاعِ الكُهّانِ عَلى بَعْضِ ما سَيَحْدُثُ في الأرْضِ فَلا يَفْتِنُوا النّاسَ في الإسْلامِ كَما فَتَنُوهم في الجاهِلِيَّةِ، ولِيَكُونَ ذَلِكَ تَشْرِيفًا لِلنَّبِيءِ ﷺ بِأنْ قُطِعَتِ الكَهانَةُ عِنْدَ إرْسالِهِ، ولِلْإشارَةِ إلى أنَّ فِيها مَنفَعَةً عَظِيمَةً دِينِيَّةً وهي قَطْعُ دابِرِ الشَّكِّ في الوَحْيِ، كَما أنَّ فِيها مَنفَعَةً دُنْيَوِيَّةً وهي لِلزِّينَةِ والِاهْتِداءِ بِها في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ.

والكَواكِبُ: الكُرَيّاتُ السَّماوِيَّةُ الَّتِي تَلْمَعُ في اللَّيْلِ عَدا الشَّمْسَ والقَمَرَ. وتُسَمّى النُّجُومَ، وهي أقْسامٌ: مِنها العَظِيمُ، ومِنها دُونَهُ، فَمِنها الكَواكِبُ السَّيّارَةُ، ومِنها الثَّوابِتُ، ومِنها قِطَعٌ تَدُورُ حَوْلَ الشَّمْسِ. وفي الكَواكِبِ حِكَمٌ؛ مِنها أنَّها تَكُونُ زِينَةً لِلسَّماءِ في اللَّيْلِ، فالكَواكِبُ هي الَّتِي بِها زُيِّنَتِ السَّماءُ. فَإضافَةُ (زِينَةِ) إلى (الكَواكِبِ) إنْ جَعَلْتَ (زِينَةِ) مَصْدَرًا بِوَزْنِ فِعْلَةٍ مِثْلِ

صفحة ٨٨

نِسْبَةٍ كانَتْ مِن إضافَةِ المَصْدَرِ إلى فاعِلِهِ، أيْ زانَتْها الكَواكِبُ أوْ إلى المَفْعُولِ، أيْ بِزِينَةِ اللَّهِ الكَواكِبَ، أيْ جَعْلَها زَيْنًا.

وإنْ جَعَلْتَ (زِينَةِ) اسْمًا لِما يُتَزَيَّنُ بِهِ مِثْلَ قَوْلِنا: لِيقَةٍ لِما تُلاقُ بِهِ الدَّواةُ، فالإضافَةُ حَقِيقِيَّةٌ عَلى مَعْنى مِنَ الِابْتِدائِيَّةِ، أيْ زِينَةٍ حاصِلَةٍ مِنَ الكَواكِبِ. وأيًّا ما كانَ فاقْتِحامُ لَفْظِ (زِينَةِ) تَأْكِيدٌ، والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أيْ زَيَّنّا السَّماءَ بِسَبَبِ زِينَةِ الكَواكِبِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: إنّا زَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِالكَواكِبِ تَزْيِينًا فَكانَ بِزِينَةِ الكَواكِبِ في قُوَّةِ: بِالكَواكِبِ تَزْيِينًا، فَقَوْلُهُ ”بِزِينَةِ“ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلِ ”زَيَّنّا“ في المَعْنى ولَكِنْ حَوْلَ التَّعْلِيقِ فَجَعْلَ زِينَةً هو المُتَعَلِّقُ بِـ (زَيَّنّا) لِيُفِيدَ مَعْنى التَّعْلِيلِ ومَعْنى الإضافَةِ في تَرْكِيبٍ واحِدٍ عَلى طَرِيقَةِ الإيجازِ، لِأنَّهُ قَدْ عَلِمَ أنَّ الكَواكِبَ زِينَةٌ مِن تَعْلِيقِهِ بِفِعْلِ زَيَّنّا مِن غَيْرِ حاجَةٍ إلى إعادَةِ زِينَةٍ لَوْلا ما قُصِدَ مِن مَعْنى التَّعْلِيلِ والتَّوْكِيدِ.

والدُّنْيا: أصْلُهُ وصْفٌ هو مُؤَنَّثُ الأدْنى، أيِ القُرْبى. والمُرادُ: قُرْبُها مِنَ الأرْضِ، أيْ السَّماءُ الأُولى مِنَ السَّماواتِ السَّبْعِ.

ووَصَفَها بِالدُّنْيا: إمّا لِأنَّها أدْنى إلى الأرْضِ مِن بَقِيَّةِ السَّماواتِ. والسَّماءُ الدُّنْيا عَلى هَذا هي الكُرَةُ الَّتِي تُحِيطُ بِكُرَةِ الهَواءِ الأرْضِيَّةِ وهي ذاتُ أبْعادٍ عَظِيمَةٍ. ومَعْنى تَزْيِينِها بِالكَواكِبِ والشُّهُبِ عَلى هَذا أنَّ اللَّهَ جَعَلَ الكَواكِبَ والشُّهُبَ سابِحَةً في مُقَعَّرِ تِلْكَ الكُرَةِ عَلى أبْعادٍ مُخْتَلِفَةٍ، ووَراءَ تِلْكَ الكُرَةِ السَّماواتُ السَّبْعُ مُحِيطٌ بَعْضُها بِبَعْضٍ في أبْعادٍ لا يَعْلَمُ مِقْدارَ سَعَتِها إلّا اللَّهُ تَعالى. ونِظامُ الكَواكِبِ المُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنِّظامِ الشَّمْسِيِّ عَلى هَذا مِن أحْوالِ السَّماءِ الدُّنْيا، ولا مانِعَ مِن هَذا لِأنَّ هَذِهِ اصْطِلاحاتٌ، والقُرْآنُ صالِحٌ لَها، ولَمْ يَأْتِ لِتَدْقِيقِها ولَكِنَّهُ لا يُنافِيها. والسَّماءُ الدُّنْيا عَلى هَذا هي الَّتِي وُصِفَتْ في حَدِيثِ الإسْراءِ بِالأُولى.

وإمّا لِأنَّ المُرادَ بِالسَّماءِ الدُّنْيا الكُرَةُ الهَوائِيَّةُ المُحِيطَةُ بِالأرْضِ ولَيْسَ فِيها شَيْءٌ مِنَ الكَواكِبِ ولا مِنَ الشُّهُبِ وأنَّ الكَواكِبَ والشُّهُبَ في أفْلاكِها وهي السَّماواتُ السِّتُّ والعَرْشُ، فَعَلى هَذا يَكُونُ النِّظامُ الشَّمْسِيُّ كُلُّهُ لَيْسَ مِن أحْوالِ السَّماءِ

صفحة ٨٩

الدُّنْيا. ومَعْنى تَزْيِينِ السَّماءِ الدُّنْيا بِالكَواكِبِ والشُّهُبِ عَلى هَذا الِاحْتِمالِ أنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ أدِيمَ السَّماءِ الدُّنْيا قابِلًا لِاخْتِراقِ أنْوارِ الكَواكِبِ في نِصْفِ الكُرَةِ السَّماوِيَّةِ الَّذِي يَغْشاهُ الظَّلامُ مِن تَباعُدِ نُورِ الشَّمْسِ عَنْهُ فَتَلُوحُ أنْوارُ الكَواكِبِ مُتَلَأْلِئَةً في اللَّيْلِ فَتَكُونُ تِلْكَ الأضْواءُ زِينَةً لِلسَّماءِ الدُّنْيا تَزْدانُ بِها.

والآيَةُ صالِحَةٌ لِلِاحْتِمالَيْنِ لِأنَّها لَمْ يَثْبُتْ فِيها إلّا أنَّ السَّماءَ الدُّنْيا تَزْدانُ بِزِينَةِ الكَواكِبِ، وذَلِكَ لا يَقْتَضِي كَوْنَ الكَواكِبِ سابِحَةً في السَّماءِ الدُّنْيا. فالزِّينَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالنّاسِ، والأشْياءُ الَّتِي يَزْدانُ بِها النّاسُ مُغايِرَةٌ لَهم مُنْفَصِلَةٌ عَنْهم، ومِثْلُهُ قَوْلُنا: ازْدانَ البَحْرُ بِأضْواءِ القَمَرِ.

وقَرَأ الجُمْهُورُ ”﴿بِزِينَةِ الكَواكِبِ﴾“ بِإضافَةِ ”زِينَةِ“ إلى ”الكَواكِبِ“، وقَرَأ حَمْزَةُ ”﴿بِزِينَةٍ الكَواكِبِ﴾“ بِتَنْوِينِ ”زِينَةٍ“ وجَرِّ ”الكَواكِبِ“ عَلى أنَّ ”الكَواكِبِ“ بَدَلٌ مِن ”زِينَةٍ“، وقَرَأهُ أبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ بِتَنْوِينِ ”زِينَةٍ“ ونَصْبِ ”الكَواكِبَ“ عَلى الِاخْتِصاصِ بِتَقْدِيرِ: أعْنِي.

وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى زِينَةِ السَّماءِ بِالكَواكِبِ وكَوْنِها حِفْظًا مِنَ الشَّياطِينِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَقَدْ جَعَلْنا في السَّماءِ بُرُوجًا وزَيَّنّاها لِلنّاظِرِينَ﴾ [الحجر: ١٦] ﴿وحَفِظْناها مِن كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ﴾ [الحجر: ١٧] في سُورَةِ الحِجْرِ. وتَقَدَّمَ ذِكْرُ الكَواكِبِ في قَوْلِهِ (رَأى كَوْكَبًا) في سُورَةِ الأنْعامِ.

وانْتَصَبَ (حِفْظًا) بِالعَطْفِ عَلى (بِزِينَةِ الكَواكِبِ) عَطْفًا عَلى المَعْنى كَما ذَهَبَ إلَيْهِ في الكَشّافِ وبَيَّنَهُ ما بَيَّناهُ آنِفًا مِن أنَّ قَوْلَهُ (﴿بِزِينَةِ الكَواكِبِ﴾) في قُوَّةِ أنْ يُقالَ: بِالكَواكِبِ زِينَةً، وعامِلُهُ زَيَّنا.

والحِفْظُ مِنَ الشَّياطِينِ حِكْمَةٌ مِن حِكَمِ خَلْقِ الكَواكِبِ في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى لِأنَّ الكَواكِبَ خُلِقَتْ قَبْلَ اسْتِحْقاقِ الشَّياطِينِ الرَّجْمَ فَإنَّ ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ إلّا بَعْدَ أنْ أُطْرِدَ إبْلِيسُ مِن عالَمِ المَلائِكَةِ فَلَمْ يَحْصُلْ شَرْطُ اتِّحادِ المَفْعُولِ لِأجْلِهِ مَعَ عامِلِهِ في الوَقْتِ، وأبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ لا يَرى اشْتِراطُ ذَلِكَ. ولَعَلَّ الزَّمَخْشَرِيَّ يُتابِعُهُ عَلى ذَلِكَ حَيْثُ جَعَلَهُ مَفْعُولًا لِأجْلِهِ وهو الحَقُّ لِأنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَلى اعْتِبارِهِ عِلَّةً مُقَدَّرَةً كَما جَوَّزَ في الحالِ أنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً.

صفحة ٩٠

ولَكَ أنْ تَجْعَلَ (حِفْظًا) مَنصُوبًا عَلى المَفْعُولِ المُطْلَقِ الآتِي بَدَلًا مِن فِعْلِهِ فَيَكُونُ في تَقْدِيرِ: وحَفِظْنا، عَطْفًا عَلى (زَيَّنّا)، أيْ حَفِظْنا بِالكَواكِبِ مِن كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. وهَذا قَوْلُ المُبَرِّدِ. والمَحْفُوظُ هو السَّماءُ، أيْ وحَفِظْناها بِالكَواكِبِ مِن كُلِّ شَيْطانٍ.

ولَيْسَ الَّذِي بِهِ الحِفْظُ هو جَمِيعُ الَّذِي بِهِ التَّزْيِينُ بَلِ العِلَّةُ مُوَزَّعَةٌ، فالَّذِي هو زِينَةٌ مُشاهَدٌ بِالأبْصارِ، والَّذِي هو حِفْظٌ هو المُبَيَّنُ بِقَوْلِهِ (﴿فَأتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ﴾ [الصافات: ١٠]) .

ومَعْنى كَوْنِ الكَواكِبِ حِفْظًا مِنَ الشَّياطِينِ أنَّ مِن جُمْلَةِ الكَواكِبِ الشُّهُبَ الَّتِي تُرْجَمُ بِها الشَّياطِينُ عِنْدَ مُحاوَلَتِها اسْتِراقَ السَّمْعِ فَتَفِرُّ الشَّياطِينُ خَشْيَةَ أنْ تُصِيبَها؛ لِأنَّها إذا أصابَتْ أشْكالَها اخْتَرَقَتْها فَتَفَكَّكَتْ، فَلَعَلَّها تَزُولُ أشْكالُها بِذَلِكَ التَّفَكُّكِ فَتَنْعَدِمُ بِذَلِكَ قِوامُ ماهِيَّتِها أوْ تَتَفَرَّقُ لَحْظَةً لَمْ تَلْتَئِمْ بَعْدُ، فَتَتَألَّمُ مِن ذَلِكَ الخَرْقِ والِالتِئامِ، فَإنَّ تِلْكَ الشُّهُبَ الَّتِي تَلُوحُ لِلنّاظِرِ قِطَعًا لامِعَةً مِثْلَ النُّجُومِ جارِيَةً في السَّماءِ إنَّما هي أجْسامٌ مَعْدِنِيَّةٌ تَدُورُ حَوْلَ الشَّمْسِ وعِنْدَما تَقْرُبُ إلى الأرْضِ تَتَغَلَّبُ عَلَيْها جاذِبِيَّةُ الأرْضِ فَتَنْزِعُها مِن جاذِبِيَّةِ الشَّمْسِ فَتَنْقَضُّ بِسُرْعَةٍ نَحْوَ مَرْكَزِ الأرْضِ ولِشِدَّةِ سُرْعَةِ انْقِضاضِها تُولَدُ في الجَوِّ الكُرَوِيِّ حَرارَةٌ كافِيَةٌ لِإحْراقِ الصِّغارِ مِنها وتَحْمى الكِبارُ مِنها إلى دَرَجَةٍ مِنَ الحَرارَةِ تُوجِبُ لَمَعانَها، وتَسْقُطُ حَتّى تَقَعَ عَلى الأرْضِ في البَحْرِ غالِبًا، ورُبَّما وقَعَتْ عَلى البَرِّ، وقَدْ يَعْثُرُ عَلَيْها بَعْضُ النّاسِ إذْ يَجِدُونَها واقِعَةً عَلى الأرْضِ قِطَعًا مَعْدِنِيَّةً مُتَفاوِتَةً، ورُبَّما أحْرَقَتْ ما تُصِيبُهُ مِن شَجَرٍ أوْ مَنازِلَ. وقَدْ أُرِّخَ نُزُولُ بَعْضِها سَنَةَ ٦١٦ قَبْلَ مِيلادِ المَسِيحِ بِبِلادِ الصِّينِ فَكَسَرَ عِدَّةَ مَرْكَباتٍ وقَتَلَ رِجالًا، وقَدْ ذَكَرَها العَرَبُ في شِعْرِهِمْ قَبْلَ الإسْلامِ قالَ دَوْسُ بْنُ حَجَرٍ يَصِفُ ثَوْرًا وحْشِيًّا:

فانْقَضَّ كالدُّرِّيِّ يَتْبَعُهُ نَقْعٌ يَثُورُ تَخالُهُ طُنُبا

وقالَ بِشْرِ بْنِ خازِمٍ أنْشَدَهُ الجاحِظُ في الحَيَوانِ:

والعَيْرُ يُرْهِقُها الخَبارَ وجَحْشُها ∗∗∗ يَنْقَضُّ خَلْفَهُما انْقاضَ الكَوْكِبِ

وفِي سَنَةِ ٩٤٤ سُجِّلَ مُرُورُ كُرَيّاتٍ نارِيَّةٍ في الجَوِّ أحْرَقَتْ بُيُوتًا عِدَّةً.

صفحة ٩١

وسَقَطَتْ بِالقُطْرِ التُّونِسِيِّ مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاثَ مَرّاتٍ، مِنها قِطْعَةٌ سَقَطَتْ في أوائِلِ هَذا القَرْنِ وسَطَ المَمْلَكَةِ أحْسَبُ أنَّها بِجِهاتِ تالَةٍ، ورَأيْتُ شَظِيَّةً مِنها تُشْبِهُ الحَدِيدَ، والعامَّةُ يَحْسَبُونَها صاعِقَةً ويُسَمُّونَ ذَلِكَ حَجَرَ الصّاعِقَةِ. وتَساقُطُها يَقَعُ في اللَّيْلِ والنَّهارِ، ولَكِنّا لا نُشاهِدُ مُرُورَها في النَّهارِ لِأنَّ شُعاعَ الشَّمْسِ يَحْجُبُها عَنِ الأنْظارِ.

ومِمّا عَلِمْتَ مِن تَدَحْرُجِ هَذِهِ الشُّهُبِ مِن فَلَكِ الشَّمْسِ إلى فَلَكِ الأرْضِ تَبَيَّنَ لَكَ سَبَبُ كَوْنِها مِنَ السَّماءِ الدُّنْيا وسَبَبُ اتِّصالِها بِالأجْرامِ الشَّيْطانِيَّةِ الصّاعِدَةِ مِنَ الأرْضِ تَتَطَلَّبُ الِاتِّصالَ بِالسَّماواتِ.

وقَدْ سُمِّيَتْ شُهُبًا عَلى التَّشْبِيهِ بِقَبَسِ النّارِ وهو الجَمْرُ، وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿أوْ آتِيكم بِشِهابٍ قَبَسٍ﴾ [النمل: ٧] في سُورَةِ النَّمْلِ.

والمارِدُ: الخارِجُ عَنِ الطّاعَةِ الَّذِي لا يُلابِسُ الطّاعَةَ ساعَةً قالَ تَعالى ﴿ومِن أهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلى النِّفاقِ﴾ [التوبة: ١٠١]، وفي وصْفِهِ بِالمارِدِ إشارَةٌ إلى أنَّ ما يُصِيبُ إخْوانَهُ مِنَ الضُّرِّ بِالشُّهُبِ لا يَعِظُهُ عَنْ تَجْدِيدِ مُحاوَلَةِ الِاسْتِراقِ لِما جُبِلَ عَلَيْهِ طَبْعُهُ الشَّيْطانِيُّ مِنَ المُداوَمَةِ عَلى تِلْكَ السَّجايا الخَبِيثَةِ كَما لا يَنْزَجِرُ الفِراشُ عَنِ التَّهافُتِ حَوْلَ المِصْباحِ بِما يُصِيبُ أطْرافَ أجْنِحَتِهِ مِن مَسِّ النّارِ.