صفحة ١١٠

﴿إلّا عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ﴾ ﴿أُولَئِكَ لَهم رِزْقٌ مَعْلُومٌ﴾ ﴿فَواكِهُ وهم مُكْرَمُونَ﴾ ﴿فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ﴾ ﴿عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ﴾ ﴿يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِن مَعِينٍ﴾ ﴿بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ﴾ ﴿لا فِيها غَوْلٌ ولا هم عَنْها يُنْزَفُونَ﴾ ﴿وعِنْدَهم قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ﴾ ﴿كَأنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾

اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ في مَعْنى الِاسْتِدْراكِ، والِاسْتِدْراكُ تَعْقِيبُ الكَلامِ بِما يُضادُّهُ، وهَذا الِاسْتِدْراكُ تَعْقِيبٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿فَإنَّهم يَوْمَئِذٍ في العَذابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ [الصافات: ٣٣] فَإنَّ حالَ عِبادِ اللَّهِ المُخْلَصِينَ تامُّ الضِّدَّيَّةِ لِحالِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، ولَيْسَ يَلْزَمُ في الِاسْتِدْراكِ أنْ يَكُونَ رَفْعَ تَوَهُّمٍ، وإنَّما ذَلِكَ غالِبٌ، فَقَوْلُ بَعْضِ العُلَماءِ في تَعْرِيفِهِ هو: تَعْقِيبُ الكَلامِ بِرَفْعِ ما يُتَوَهَّمُ ثُبُوتُهُ أوْ نَفْيُهُ، تَعْرِيفٌ أغْلَبِيٌّ، أوْ أُرِيدَ أدْنى التَّوَهُّمِ لِأنَّ الِاسْتِثْناءَ المُنْقَطِعَ أعَمُّ مِن ذَلِكَ، فَقَدْ يَكُونُ إخْراجًا مِن حُكْمٍ لا مِن مَحْكُومٍ عَلَيْهِ ضَرُورَةً أنَّهم صَرَّحُوا بِأنَّ حَرْفَ الِاسْتِثْناءِ في المُنْقَطِعِ قائِمٌ مَقامَ لَكِنْ؛ ولِذَلِكَ يَقْتَصِرُونَ عَلى ذِكْرِ حَرْفِ الِاسْتِثْناءِ والمُسْتَثْنى بَلْ يُرْدِفُونَهُ بِجُمْلَةٍ تُبَيِّنُ مَحَلَّ الِاسْتِدْراكِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَسَجَدُوا إلّا إبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ﴾ [الأعراف: ١١] وقَوْلِهِ ”﴿إلّا إبْلِيسَ أبى﴾ [البقرة: ٣٤]“، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ هُنا ﴿إلّا عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ أُولَئِكَ لَهم رِزْقٌ مَعْلُومٌ﴾ . ولَوْ كانَ المَعْنى عَلى الِاسْتِثْناءِ لَما أتْبَعَ المُسْتَثْنى بِإخْبارٍ عَنْهُ لِأنَّهُ حِينَئِذٍ يُثْبِتُ لَهُ نَقِيضَ حُكْمِ المُسْتَثْنى مِنهُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِثْناءِ، فَإنَّ ذَلِكَ مُفادُ (إلّا)، ونَظِيرُهُ مَعَ (لَكِنِ) قَوْلُهُ تَعالى ﴿أفَأنْتَ تُنْقِذُ مَن في النّارِ﴾ [الزمر: ١٩] ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهم لَهم غُرَفٌ﴾ [الزمر: ٢٠] الآيَةُ في سُورَةِ الزُّمَرِ.

وذِكْرُ المُؤْمِنِينَ بِوَصْفِ العُبُودِيَّةِ المُضافَةِ لِلَّهِ تَعالى تَنْوِيهٌ بِهِمْ وتَقْرِيبٌ، وذَلِكَ اصْطِلاحٌ غالِبٌ في القُرْآنِ في إطْلاقِ العَبْدِ والعِبادِ مُضافًا إلى ضَمِيرِهِ تَعالى كَقَوْلِهِ ﴿واذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذا الأيْدِ﴾ [ص: ١٧] . . ﴿واذْكُرْ عِبادَنا إبْراهِيمَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ﴾ [ص: ٤٥] . . ﴿يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ ولا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ [الزخرف: ٦٨]، ورُبَّما أُطْلِقَ العَبْدُ غَيْرَ مُضافٍ مُرادًا بِهِ التَّقْرِيبَ أيْضًا كَقَوْلِهِ ﴿ووَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ العَبْدُ﴾ [ص: ٣٠]، أيِ العَبْدُ لِلَّهِ، ألا تَرى أنَّهُ لَمّا أُرِيدَ ذِكْرُ قَوْمٍ مِن عِبادِ اللَّهِ مِنَ المُشْرِكِينَ لَمْ يُؤْتَ بِلَفْظِ العِبادِ مُضافًا كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿بَعَثْنا عَلَيْكم عِبادًا لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ [الإسراء: ٥] إلّا

صفحة ١١١

بِقَرِينَةِ مَقامِ التَّوْبِيخِ في قَوْلِهِ ﴿أأنْتُمْ أضْلَلْتُمْ عِبادِي هَؤُلاءِ﴾ [الفرقان: ١٧] لِأنَّ صِفَةَ الإضْلالِ قَرِينَةٌ عَلى أنَّ الإضافَةَ لَيْسَتْ لِلتَّقْرِيبِ، وقَوْلِهِ ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغاوِينَ﴾ [الحجر: ٤٢] فَقَرِينَةُ التَّغْلِيبِ هي مَناطُ اسْتِثْناءِ الغاوِينَ مِن قَوْلِهِ ”عِبادِي“ . ويُنْسَبُ إلى الشّافِعِيِّ:

ومِمّا زادَنِي شَرَفًا وفَخْرًا وكِدْتُ بِأخْمُصِي أطَأُ الثُّرَيّا

دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ (﴿يا عِبادِيَ﴾ [العنكبوت: ٥٦]) ∗∗∗ وأنْ أرْسَلْتَ أحْمَدَ لِي نَبِيّا

والمُرادُ بِهِمْ هُنا الَّذِينَ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ ﷺ فَإنَّهُمُ الَّذِينَ يَخْطُرُونَ بِالبالِ عِنْدَ ذِكْرِ أحْوالِ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ وقالُوا فِيهِ ما هو مِنهُ بَرِيءٌ خُطُورَ الضِّدِّ بِذِكْرِ ضِدِّهِ.

و”المُخْلَصِينَ“ صِفَةُ عِبادِ اللَّهِ، وهو بِفَتْحِ اللّامِ إذا أُرِيدَ الَّذِينَ أخْلَصَهُمُ اللَّهُ لِوِلايَتِهِ، وبِكَسْرِها أيِ الَّذِينَ أخْلَصُوا دِينَهم لِلَّهِ. فَقَرَأهُ نافِعٌ وعاصِمٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ وأبُو جَعْفَرٍ وخَلَفٌ بِفَتْحِ اللّامِ. وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ وابْنُ عامِرٍ وأبُو عَمْرٍو ويَعْقُوبُ بِكَسْرِ اللّامِ.

و”أُولَئِكَ“ إشارَةٌ إلى ”عِبادَ اللَّهِ“ قَصَدَ مِنهُ التَّنْبِيهَ عَلى أنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا ما بَعْدَ اسْمِ الإشارَةِ لِأجْلِ مِمّا أُثْبِتَ لَهم مِن صِفَةِ الإخْلاصِ كَما ذَلِكَ مِن مُقْتَضَياتِ تَعْرِيفِ المُسْنَدِ إلَيْهِ بِالإشارَةِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥] بَعْدَ قَوْلِهِ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ [البقرة: ٣] الآيَةُ في سُورَةِ البَقَرَةِ.

والرِّزْقُ: الطَّعامُ، قالَ تَعالى ﴿وجَدَ عِنْدَها رِزْقًا﴾ [آل عمران: ٣٧]، وقالَ ﴿لا يَأْتِيَكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ﴾ [يوسف: ٣٧] . والمَعْلُومُ: الَّذِي لا يَتَخَلَّفُ عَنْ مِيعادِهِ ولا يَنْتَظِرُهُ أهْلُهُ.

و”فَواكِهُ“ عَطْفُ بَيانٍ مِن ”رِزْقٌ“، والمَعْنى: أنَّ طَعامَهم كُلَّهُ مِنَ الأطْعِمَةِ الَّتِي يُتَفَكَّهُ بِها لا مِمّا يُؤْكَلُ لِأجْلِ الشِّبَعِ. والفَواكِهُ: الثِّمارُ والبُقُولُ اللَّذِيذَةُ.

و”هم مُكْرَمُونَ“ عَطْفٌ عَلى ﴿لَهم رِزْقٌ مَعْلُومٌ﴾، أيْ يُعامَلُونَ بِالحَفاوَةِ والبَهْجَةِ، فَإنَّهُ وسَّطَ في أثْناءِ وصْفِ ما أُعِدَّ لَهم مِنَ النَّعِيمِ الجِسْمانِيِّ أنَّ لَهم نَعِيمَ الكَرامَةِ وهو أهَمُّ لِأنَّ بِهِ انْتِعاشَ النَّفْسِ مَعَ ما في ذَلِكَ مِن خُلُوصِ النِّعْمَةِ مِمَّنْ يُكَدِّرُها

صفحة ١١٢

وذَلِكَ لِأنَّ الإحْسانَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِمَدْحٍ وتَعْظِيمٍ ولا بِأذًى وهو الغالِبُ، وقَدْ يَكُونُ مُقْتَرِنًا بِأذًى وذَلِكَ يُكَدِّرُ مِن صَفْوِهُ، قالَ تَعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكم بِالمَنِّ والأذى﴾ [البقرة: ٢٦٤] فَإذا كانَ الإحْسانُ مَعَ عِباراتِ الكَرامَةِ وحُسْنِ التَّلَقِّي فَذَلِكَ الثَّوابُ.

وسُرُرٌ: جَمْعُ سَرِيرٍ وهو كَكُرْسِيٍّ واسِعٍ يُمْكِنُ الِاضْطِجاعُ عَلَيْهِ، وكانَ الجُلُوسُ عَلى السَّرِيرِ مِن شِعارِ المُلُوكِ وأضْرابِهِمْ، وذَلِكَ جُلُوسُ أهْلِ النَّعِيمِ لِأنَّ الجالِسَ عَلى السَّرِيرِ لا يَجِدُ مَلَلًا لِأنَّهُ يُغَيِّرُ جِلْسَتَهُ كَيْفَ تَتَيَسَّرُ لَهُ.

و”مُتَقابِلِينَ“ كُلُّ واحِدٍ قُبالَةَ الآخَرِ. وهَذا أتَمُّ لِلْأُنْسِ لِأنَّ فِيهِ أُنْسَ الِاجْتِماعِ وأُنْسَ نَظَرِ بَعْضِهِمْ إلى بَعْضٍ، فَإنَّ رُؤْيَةَ الحَبِيبِ والصَّدِيقِ تُؤْنِسُ النَّفْسَ.

والظّاهِرُ: أنَّ مَعْنى كَوْنِهِمْ مُتَقابِلِينَ تَقابُلَ أفْرادٍ، كُلُّ جَماعَةٍ مَعَ أصْحابِهِمْ، وأنَّهم جَماعاتٌ عَلى حَسَبِ تَراتِيبِهِمْ في طَبَقاتِ الجَنَّةِ، وأنَّ أهْلَ كُلِّ طَبَقَةٍ يُقَسَّمُونَ جَماعاتٍ عَلى حَسَبِ قَرابَتِهِمْ في الجَنَّةِ، كَما قالَ تَعالى ﴿هم وأزْواجُهم في ظِلالٍ﴾ [يس: ٥٦] وكَثْرَةُ كُلِّ جَماعَةٍ لا تُنافِي تَقابُلَهم عَلى السُّرُرِ والأرائِكِ وتَحادُثَهم لِأنَّ شُئُونَ ذَلِكَ العالَمِ غَيْرُ جارِيَةٍ عَلى المُتَعارَفِ في الدُّنْيا.

ومَعْنى ”يُطافُ“ يُدارُ عَلَيْهِمْ وهم في مَجالِسِهِمْ. والكَأْسُ (بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الكافِ): إناءُ الخَمْرِ، مُؤَنَّثٌ، وهي إناءٌ بِلا عُرْوَةٍ ولا أُنْبُوبٍ واسِعَةُ الفَمِ، أيْ مَحَلُّ الصَّبِّ مِنها، تَكُونُ مِن فِضَّةٍ ومِن ذَهَبٍ ومِن خَزَفٍ ومِن زُجاجٍ، وتُسَمّى قَدَحًا وهو مُذَكَّرٌ. وجَمْعُ كَأْسٍ: كاساتٌ وكُئُوسٌ وأكْؤُسٌ. وكانَتْ خاصَّةً بِسَقْيِ الخَمْرِ حَتّى كانَتِ الكَأْسُ مِن أسْماءِ الخَمْرِ تَسْمِيَةً بِاسْمِ المَحَلِّ، وجَعَلُوا مِنهُ قَوْلَ الأعْشى:

وكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلى لَذَّةٍ ∗∗∗ وأُخْرى تَداوَيْتُ مِنها بِها

وقَدْ قِيلَ لا يُسَمّى ذَلِكَ الإناءُ كَأْسًا إلّا إذا كانَتْ فِيهِ الخَمْرُ وإلّا فَهو قَدَحٌ.

والمَعْنِيُّ بِها في الآيَةِ الخَمْرُ لِأنَّهُ أفْرَدَ الكَأْسَ مَعَ أنَّ المَطُوفَ عَلَيْهِمْ كَثِيرُونَ، ولِأنَّها وُصِفَتْ بِأنَّها مِن مَعِينٍ. ورَوى ابْنُ أبِي شَيْبَةَ والطَّبَرِيُّ عَنِ الضَّحّاكِ أنَّهُ قالَ: كُلُّ كَأْسٍ في القُرْآنِ إنَّما عُنِيَ بِها الخَمْرُ. ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وقالَ بِهِ الأخْفَشُ.

صفحة ١١٣

و”مَعِينٍ“ بِفَتْحِ المِيمِ، قِيلَ أصْلُهُ: مَعْيُونٍ. فَقِيلَ: مِيمُهُ أصْلِيَّةٌ، وهو مُشْتَقٌّ مِن مَعْنٍ يُقالُ: ماءُ مَعْنٍ، فَيَكُونُ ”مَعِينٍ“ بِوَزْنِ فَعِيلٍ مِثالُ مُبالَغَةٍ مِنَ المَعْنِ وهو الإبْعادُ في الفِعْلِ، شَبَّهَ جَرْيَهُ بِالإبْعادِ في المَشْيِ، وهَذا أظْهَرُ في الِاشْتِقاقِ. وقِيلَ: مِيمُهُ زائِدَةٌ، وهو مُشْتَقٌّ مِن عانَهُ، إذا أبْصَرَهُ لِأنَّهُ يَظْهَرُ عَلى وجْهِ الأرْضِ في سَيَلانِهِ فَوَزْنُهُ مَفْعُولٌ، وأصْلُهُ مَعْيُونٌ فَهو مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمٍ جامِدٍ وهو اسْمُ العَيْنِ، ولَيْسَ فِعْلُ عانَ مُسْتَعْمَلًا، اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِفِعْلِ عايَنَ.

و”بَيْضاءَ“ صِفَةٌ لِـ ”كَأْسٍ“ . وإذْ قَدْ أُرِيدَ بِالكَأْسِ الخَمْرُ الَّذِي فِيها كانَ وصْفُ ”بَيْضاءَ“ لِلْخَمْرِ. وإنَّما جَرى تَأْنِيثُ الوَصْفِ تَبَعًا لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الخَمْرِ بِكَلِمَةِ كَأْسٍ، عَلى أنَّ اسْمَ الخَمْرِ يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ، وتَأْنِيثُها أكْثَرُ. رَوى مالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ: لَوْنُها مُشْرِقٌ حَسَنٌ فَهي لا كَخَمْرِ الدُّنْيا في مَنظَرِها الرَّدِيءِ مِن حُمْرَةٍ أوْ سَوادٍ.

واللَّذَّةُ: اسْمٌ مَعْناهُ إدْراكٌ مَلائِمٌ نَفْسَ المُدْرِكِ، يُقالُ: لَذَّهُ ولَذَّ بِهِ، والمَصْدَرُ: اللَّذَّةُ واللَّذاذَةُ. وفِعْلُهُ مِن بابِ فَرِحَ، تَقُولُ: لَذَّذْتُ بِالشَّيْءِ، ويُقالُ: شَيْءٌ لَذٌّ، أيْ لَذِيذٍ، فَهو وصْفٌ بِالمَصْدَرِ، فَإذا جاءَ بِهاءِ التَّأْنِيثِ كَما في الآيَةِ فَهو الِاسْمُ لا مَحالَةَ لِأنَّ المَصْدَرَ الوَصْفَ لا يُؤَنَّثُ بِتَأْنِيثِ مَوْصُوفِهِ، يُقالُ: امْرَأةٌ عَدْلٌ ولا يُقالُ: امْرَأةٌ عَدْلَةٌ. ووَصْفُ الكَأْسِ بِها كالوَصْفِ بِالمَصْدَرِ يُفِيدُ المُبالِغَةَ في تَمَكُّنِ الوَصْفِ، فَقَوْلُهُ تَعالى ”لَذَّةٍ“ هو أقْصى مِمّا يُؤَدِّي شِدَّةَ الِالتِذاذِ بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ؛ لِأنَّهُ عَدَلَ بِهِ عَنِ الوَصْفِ الأصْلِيِّ لِقَصْدِ المُبالَغَةِ، وعَدَلَ عَنِ المَصْدَرِ إلى الِاسْمِ لِما في المَصْدَرِ مِن مَعْنى الِاشْتِقاقِ.

وجُمْلَةُ ﴿لا فِيها غَوْلٌ﴾ صِفَةٌ رابِعَةٌ لِكَأْسٍ بِاعْتِبارِ إطْلاقِهِ عَلى الخَمْرِ.

والغَوْلُ، بِفَتْحِ الغَيْنِ: ما يَعْتَرِي شارِبَ الخَمْرِ مِنَ الصُّداعِ والألَمِ، اشْتُقَّ مِنَ الغَوْلِ مَصْدَرِ غالَهُ، إذا أهْلَكَهُ. وهَذا في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى ﴿لا يُصَدَّعُونَ عَنْها﴾ [الواقعة: ١٩] .

وتَقْدِيمُ الظَّرْفِ المُسْنَدِ عَلى المُسْنَدِ إلَيْهِ لِإفادَةِ التَّخْصِيصِ، أيْ هو مُنْتَفٍ عَنْ خَمْرِ الجَنَّةِ فَقَطْ دُونَ ما يُعْرَفُ مِن خَمْرِ الدُّنْيا، فَهو قَصْرُ قَلْبٍ. ووُقُوعُ ”غَوْلٌ“

صفحة ١١٤

وهُوَ نَكِرَةٌ بَعْدَ ”لا“ النّافِيَةِ أفادَ انْتِفاءَ هَذا الجِنْسِ مِن أصْلِهِ، ووَجَبَ رَفْعُهُ لِوُقُوعِ الفَصْلِ بَيْنَهُ وبَيْنَ حَرْفِ النَّفْيِ بِالخَبَرِ.

وجُمْلَةُ ﴿ولا هم عَنْها يُنْزَفُونَ﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿لا فِيها غَوْلٌ﴾ .

وقَدَّمَ المُسْنَدَ عَلَيْهِ عَلى المُسْنَدِ، والمُسْنَدُ فِعْلٌ، لِيُفِيدَ التَّقْدِيمُ تَخْصِيصَ المُسْنَدِ إلَيْهِ بِالخَبَرِ الفِعْلِيِّ، أيْ بِخِلافِ شارِبِي الخَمْرِ مِن أهْلِ الدُّنْيا.

و”يُنْزَفُونَ“ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ في قِراءَةِ الجُمْهُورِ، يُقالُ: نُزِفَ الشّارِبُ، بِالبِناءِ لِلْمَجْهُولِ إذا كانَ مُجَرَّدًا (ولا يُبْنى لِلْمَعْلُومِ) فَهو مَنزُوفٌ ونَزِيفٌ، شَبَّهُوا عَقْلَ الشّارِبِ بِالدَّمِ، يُقالُ: نُزِفَ دَمُ الجَرِيحِ، أيْ أُفْرِغَ. وأصْلُهُ مِن: نَزَفَ الرَّجُلُ ماءَ البِئْرِ مُتَعَدِّيًا، إذا نَزَحَهُ ولَمْ يَبْقَ مِنهُ شَيْءٌ.

وقَرَأهُ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وخَلَفٌ ”يُنْزِفُونَ“ بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الزّايِ مِن أُنْزِفَ الشّارِبُ، إذا ذَهَبَ عَقْلُهُ، أيْ صارَ ذا نَزْفٍ، فالهَمْزَةُ لِلصَّيْرُورَةِ لا لِلتَّعْدِيَةِ.

و﴿قاصِراتُ الطَّرْفِ﴾ أيْ حابِساتُ أنْظارِهِنَّ حَياءً وغُنْجًا. والطَّرَفُ: العَيْنُ، وهو مُفْرَدٌ لا جَمْعَ لَهُ مِن لَفْظِهِ لِأنَّ أصْلَ الطَّرَفِ مَصْدَرُ: طَرَفَ بِعَيْنِهِ مِن بابِ ضَرَبَ، إذا حَرَّكَ جَفْنَيْهِ، فَسُمِّيَتِ العَيْنُ طَرْفًا، فالطَّرْفُ هُنا الأعْيُنُ، أيْ قاصِراتُ الأعْيُنِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿لا يَرْتَدُّ إلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ﴾ [إبراهيم: ٤٣] في سُورَةِ إبْراهِيمَ، وقَوْلِهِ ﴿قَبْلَ أنْ يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل: ٤٠] في سُورَةِ النَّمْلِ.

وذُكِرَ (عِنْدَ) لِإفادَةِ أنَّهُنَّ مُلابِساتٌ لَهم في مَجالِسِهِمُ الَّتِي تُدارُ عَلَيْهِمْ فِيها كَأْسُ الجَنَّةِ، وكانَ حُضُورُ الجَوارِي مَجالِسَ الشَّرابِ مِن مُكَمِّلاتِ الأُنْسِ والطَّرَبِ عِنْدَ سادَةِ العَرَبِ، قالَ طَرْفَةُ:

نَدامايَ بِيضٌ كالنُّجُومِ وقَيْنَةٌ ∗∗∗ تَرُوحُ عَلَيْنا بَيْنَ بَرْدٍ ومِجْسَدِ

و”عِينٌ“ جَمْعُ عَيْناءَ، وهي المَرْأةُ الواسِعَةُ العَيْنِ النَّجْلاوَتُها.

والبَيْضُ المَكْنُونُ: هو بَيْضُ النَّعامِ، والنَّعامُ يُكِنُّ بَيْضَهُ في حُفَرٍ في الرَّمْلِ ويَفْرِشُ لَها مِن دَقِيقِ رِيشِهِ، وتُسَمّى تِلْكَ الحُفَرُ: الأُداحِيَّ، واحِدَتُها أُدْحِيَّةٌ بِوَزْنِ أُثْفِيَّةٍ. فَيَكُونُ البَيْضُ شَدِيدَ لَمَعانِ اللَّوْنِ وهو أبْيَضُ مَشُوبٌ بَياضُهُ بِصُفْرَةٍ

صفحة ١١٥

وذَلِكَ اللَّوْنُ أحْسَنُ ألْوانِ النِّساءِ، وقَدِيمًا شَبَّهُوا الحِسانَ بِبَيْضِ النَّعامِ، قالَ امْرُؤُ القَيْسِ:

وبَيْضَةِ خِدْرٍ لا يُرامُ خِباؤُها ∗∗∗ تَمَتَّعَتْ مِن لَهْوٍ بِها غَيْرَ مُعْجَلِ