Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً في النُّجُومِ﴾ ﴿فَقالَ إنِّي سَقِيمٌ﴾ ﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾ ﴿فَراغَ إلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ ألا تَأْكُلُونَ﴾ ﴿ما لَكم لا تَنْطِقُونَ﴾ ﴿فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِاليَمِينِ﴾ ﴿فَأقْبَلُوا إلَيْهِ يَزِفُّونَ﴾ ﴿قالَ أتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ﴾ ﴿واللَّهُ خَلَقَكم وما تَعْمَلُونَ﴾ مُفَرَّعٌ عَلى جُمْلَةِ ”﴿إذْ قالَ لِأبِيهِ وقَوْمِهِ﴾ [الصافات: ٨٥]“ تَفْرِيعُ قِصَصٍ بِعَطْفِ بَعْضِها عَلى بَعْضٍ.
والمَقْصُودُ مِن هَذِهِ الجُمَلِ المُتَعاطِفَةِ بِالفاءاتِ هو الإفْضاءُ إلى قَوْلِهِ ”﴿فَراغَ إلى آلِهَتِهِمْ﴾“ وأمّا ما قَبْلَها فَتَمْهِيدٌ لَها وبَيانُ كَيْفِيَّةِ تَمَكُّنِهِ مِن أصْنامِهِمْ وكَسْرِها لِيَظْهَرَ لِعَبَدَتِها عَجْزُها.
وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِهِ: ”قالَ قَتادَةُ: والعَرَبُ تَقُولُ لِمَن تَفَكَّرَ: نَظَرَ في النُّجُومِ، يَعْنِي قَتادَةُ: أنَّهُ نَظَرَ إلى السَّماءِ مُتَفَكِّرًا فِيما يُلْهِيهِمْ بِهِ“ اهـ. وفي تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ عَنِ الخَلِيلِ والمُبَرِّدِ يُقالُ: لِلرَّجُلِ إذا فَكَّرَ في شَيْءٍ يُدَبِّرُهُ: نَظَرَ في النُّجُومِ، أيْ أنَّهُ نَظَرَ في النُّجُومِ، مِمّا جَرى مَجْرى المَثَلِ في التَّعْبِيرِ عَنِ التَّفْكِيرِ لِأنَّ المُتَفَكِّرَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ إلى السَّماءِ لِئَلّا يَشْتَغِلَ بِالمَرْئِيّاتِ فَيَخْلُوَ بِفِكْرِهِ لِلتَّدَبُّرِ فَلا يَكُونُ المُرادُ أنَّهُ نَظَرَ في النُّجُومِ وهي طالِعَةٌ لَيْلًا بَلِ المُرادُ أنَّهُ نَظَرَ لِلسَّماءِ الَّتِي هي قَرارُ النُّجُومِ، وذِكْرُ النُّجُومِ جَرى عَلى المَعْرُوفِ مِن كَلامِهِمْ.
وجَنَحَ الحَسَنُ إلى تَأْوِيلِ مَعْنى النُّجُومِ بِالمَصَدَرِ أنَّهُ نَظَرَ فِيما نَجَمَ لَهُ مِنَ الرَّأْيِ، يَعْنِي أنَّ النُّجُومَ مَصْدَرُ نَجَمَ بِمَعْنى ظَهَرَ.
وعَنْ ثَعْلَبٍ: نَظَرَ هُنا تَفَكَّرَ فِيما نَجَمَ مِن كَلامِهِمْ لَمّا سَألُوهُ أنْ يَخْرُجَ مَعَهم إلى عِيدِهِمْ لِيُدَبِّرَ حُجَّةً.
صفحة ١٤٢
والمَعْنى: فَفَكَّرَ في حِيلَةٍ يَخْلُو لَهُ بِها بُدُّ أصْنامِهِمْ فَقالَ: إنِّي سَقِيمٌ، لِيَلْزَمَ مَكانَهُ ويُفارِقُوهُ فَلا يُرِيهِمْ بَقاءَهُ حَوْلَ بُدِّهِمْ ثُمَّ يَتَمَكَّنُ مِن إبْطالِ مَعْبُوداتِهِمْ بِالفِعْلِ. والوَجْهُ: أنَّ التَّعْقِيبَ الَّذِي أفادَتْهُ الفاءُ مِن قَوْلِهِ ”فَنَظَرَ“ تَعْقِيبٌ عُرْفِيٌّ، أيْ لِكُلِّ شَيْءٍ نَحْسَبُهُ فَيُفِيدُ كَلامًا مَطْوِيًّا يُشِيرُ إلى قِصَّةِ إبْراهِيمَ الَّتِي قالَ فِيها: ”﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾“ والَّتِي تَفَرَّعَ عَلَيْها قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَراغَ إلى أهْلِهِ﴾ [الذاريات: ٢٦] إلَخْ.وتَقْيِيدُ النَّظْرَةِ بِصِيغَةِ المَرَّةِ في قَوْلِهِ ”نَظْرَةً“ إيماءٌ إلى أنَّ اللَّهَ ألْهَمَهُ المَكِيدَةَ وأرْشَدَهُ إلى الحُجَّةِ كَما قالَ تَعالى: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا إبْراهِيمَ رُشْدَهُ﴾ [الأنبياء: ٥١] .
وقَوْلُهُ ”﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾“ عُذْرٌ انْتَحَلَهُ لِيَتْرُكُوهُ فَيَخْلُو بِبَيْتِ الأصْنامِ لِيَخْلُصَ إلَيْها عَنْ كَثَبٍ فَلا يَجِدُ مَن يَدْفَعُهُ عَنِ الإيقاعِ بِها. ولَيْسَ في القُرْآنِ ولا في السُّنَّةِ بَيانٌ لِهَذا لِأنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ البَيانِ. وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ أنَّهُ اعْتَذَرَ عَنْ خُرُوجِهِ مَعَ قَوْمِهِ مِنَ المَدِينَةِ في يَوْمِ عِيدٍ يَخْرُجُونَ فِيهِ، فَزَعَمَ أنَّهُ مَرِيضٌ لا يَسْتَطِيعُ الخُرُوجَ، فافْتَرَضَ إبْراهِيمُ خُرُوجَهم لِيَخْلُوَ بِبُدِّ الأصْنامِ، وهو المُلائِمُ لِقَوْلِهِ ”﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾“ .
والسَّقِيمُ: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ وهو المَرِيضُ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ”﴿بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: ٨٤]“ . يُقالُ: سَقِمَ بِوَزْنِ مَرِضَ، ومَصْدَرُهُ السَّقَمُ بِالتَّحْرِيكِ، فَيُقالُ: سِقامٌ وسُقْمٌ بِوَزْنِ قُفْلٍ.
والتَّوَلِّي: الإعْراضُ والمُفارَقَةُ.
لَمْ يَنْطِقْ إبْراهِيمُ بِأنَّ النُّجُومَ دَلَّتْهُ عَلى أنَّهُ سَقِيمٌ ولَكِنَّهُ لَمّا جَعَلَ قَوْلَهُ ”﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾“ مُقارِنًا لِنَظَرِهِ في النُّجُومِ أوْهَمَ قَوْمَهَ أنَّهُ عَرَفَ ذَلِكَ مِن دَلالَةِ النُّجُومِ حَسَبَ أوْهامِهِمْ.
و”مُدْبِرِينَ“ حالٌ، أيْ ولَّوْهُ أدْبارَهم، أيْ ظُهُورَهم. والمَعْنى: ذَهَبُوا وخَلَّفُوهُ وراءَ ظُهُورِهِمْ بِحَيْثُ لا يَنْظُرُونَهُ. وقَدْ قِيلَ: إنَّ ”مُدْبِرِينَ“ حالٌ مُؤَكِّدَةٌ وهو مِنَ التَّوْكِيدِ المُلازِمِ لِفِعْلِ التَّوَلِّي غالِبًا لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أنَّهُ تَوَلِّي مُخالَفَةٍ وكَراهَةٍ دُونَ انْتِقالِ. وما وقَعَ في التَّفاسِيرِ في مَعْنى نَظَرِهِ في النُّجُومِ وفي تَعْيِينِ سُقْمِهِ المَزْعُومِ كَلامٌ لا يُمْتِعُ بَيْنَ مَوازِينِ المَفْهُومِ، ولَيْسَ في الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ لِلنُّجُومِ دَلالَةً عَلى حُدُوثِ شَيْءٍ مِن حَوادِثِ الأُمَمِ ولا الأشْخاصِ، ومَن يَزْعُمْ ذَلِكَ فَقَدْ ضَلَّ
صفحة ١٤٣
دِينًا، واخْتَلَّ نَظَرًا وتَخْمِينًا. وقَدْ دَوَّنُوا كَذِبًا كَثِيرًا في ذَلِكَ وسَمَّوْهُ عِلْمَ أحْكامِ الفَلَكِ أوِ النُّجُومِ.وقَدْ ظَهَرَ مِن نَظْمِ الآيَةِ أنَّ قَوْلَهُ ”﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾“ لَمْ يَكُنْ مَرَضًا؛ ولِذَلِكَ جاءَ الحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ «لَمْ يَكْذِبْ إبْراهِيمُ إلّا ثَلاثَ كَذِبابٍ اثْنَتَيْنِ مِنهُنَّ في ذاتِ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - قَوْلُهُ ”﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾“، وقَوْلُهُ ”﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهم هَذا﴾ [الأنبياء: ٦٣]“، وبَيْنا هو ذاتَ يَوْمٍ وسارَةُ إذْ أتى عَلى جَبّارٍ مِنَ الجَبابِرَةِ فَسَألَهُ عَنْ سارَةَ فَقالَ: هي أُخْتِي» الحَدِيثَ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ إشْكالٌ مِن نِسْبَةِ الكَذِبِ إلى نَبِيٍّ.
ودَفْعُ الإشْكالِ: أنَّ تَسْمِيَةَ هَذا الكَلامِ كَذِبًا مَنظُورٌ فِيهِ إلى ما يُفْهِمُهُ أوْ يُعْطِيهِ ظاهِرُ الكَلامِ، وما هو بِالكَذِبِ الصُّراحِ بَلْ هو مِنَ المَعارِيضِ، أيْ أنِّي مِثْلُ السَّقِيمِ في التَّخَلُّفِ عَنِ الخُرُوجِ، أوْ في التَّألُّمِ مِن كُفْرِهِمْ، وأنَّ قَوْلَهُ ”هي أُخْتِي“ أرادَ أُخُوَّةَ الإيمانِ، وأنَّهُ أرادَ التَّهَكُّمَ في قَوْلِهِ ”﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهم هَذا﴾ [الأنبياء: ٦٣]“ لِظُهُورِ قَرِينَةِ أنَّ مُرادَهُ التَّغْلِيطُ.
وهَذِهِ الأجْوِبَةُ لا تَدْفَعُ إشْكالًا يَتَوَجَّهُ عَلى تَسْمِيَةِ النَّبِيءِ ﷺ هَذا الكَلامَ بِأنَّهُ كِذْباتٌ. وجَوابُهُ عِنْدِي: أنَّهُ لَمْ يَكُنْ في لُغَةِ قَوْمِ إبْراهِيمَ التَّشْبِيهُ البَلِيغُ، ولا المَجازُ، ولا التَّهَكُّمُ، فَكانَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْمِهِ كَذِبًا، وأنَّ اللَّهَ أذِنَ لَهُ فِعْلَ ذَلِكَ وأعْلَمَهُ بِتَأْوِيلِهِ، كَما أذِنَ لِأيُّوبَ أنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا مِن عِصِيٍّ فَيَضْرِبَ بِهِ ضَرْبَةً واحِدَةً لِيُبِرَّ قَسَمَهُ، إذْ لَمْ تَكُنِ الكَفّارَةُ مَشْرُوعَةً في دِينِ أيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - .
وفِعْلُ ”راغَ“ مَعْناهُ: حادَ عَنِ الشَّيْءِ، ومَصْدَرُهُ الرَّوْغُ والرَّوَغانُ، وقَدْ أُطْلِقَ هُنا عَلى الذَّهابِ إلى أصْنامِهِمْ مُخاتَلَةً لَهم ولِأجْلِ الإشارَةِ إلى تَضْمِينِهِ مَعْنى الذَّهابِ عُدِّيَ بِ (إلى) .
وإطْلاقُ الآلِهَةِ عَلى الأصْنامِ مُراعًى فِيهِ اعْتِقادُ عَبَدَتِها بِقَرِينَةِ إضافَتِها إلى ضَمِيرِهِمْ، أيْ إلى الآلِهَةِ المَزْعُومَةِ لَهم.
ومُخاطَبَةُ إبْراهِيمَ تِلْكَ الأصْنامَ بِقَوْلِهِ: ﴿ألا تَأْكُلُونَ ما لَكَمَ لا تَنْطِقُونَ﴾ وهو في حالِ خَلْوَةٍ بِها وعَلى غَيْرِ مَسْمَعٍ مِن عَبَدَتِها قُصِدَ بِهِ أنْ يُثِيرَ في نَفْسِهِ غَضَبًا
صفحة ١٤٤
عَلَيْها إذْ زَعَمُوا لَها الإلَهِيَّةَ لِيَزْدادَ قُوَّةَ عَزْمٍ عَلى كَسْرِها.فَلَيْسَ خِطابُ إبْراهِيمَ لِلْأصْنامِ مُسْتَعْمَلًا في حَقِيقَتِهِ ولَكِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ في لازِمِهُ، وهو تَذْكُرُ كَذِبِ الَّذِينَ ألَّهُوها والَّذِينَ سَدَنُوا لَها وزَعَمُوا أنَّها تَأْكُلُ الطَّعامَ الَّذِي يَضَعُونَهُ بَيْنَ يَدَيْها ويَزْعُمُونَ أنَّها تُكَلِّمُهم وتُخْبِرُهم.
ولِذَلِكَ عَقَّبَ هَذا الخِطابَ بِقَوْلِهِ ﴿فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِاليَمِينِ﴾ . وقَدِ اسْتُعْمِلَ فِعْلُ (راغَ) هُنا مُضَمَّنًا مَعْنى (أقْبَلَ) مِن جِهَةٍ مائِلَةٍ عَنِ الأصْنامِ لِأنَّهُ كانَ مُسْتَقْبِلَها ثُمَّ أخَذَ يَضْرِبُها ذاتَ اليَمِينِ وذاتَ الشِّمالِ، نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ١٠٢] .
وانْتَصَبَ ”ضَرَبًا بِاليَمِينِ“ عَلى الحالِ مِن ضَمِيرِ ”فَراغَ“ أيْ: ضارِبًا. وتَقْيِيدُ الضَّرْبِ بِاليَمِينِ لِتَأْكِيدِ ”ضَرْبًا“ أيْ: ضَرْبًا قَوِيًّا، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿لَأخَذْنا مِنهُ بِاليَمِينِ﴾ [الحاقة: ٤٥] وقَوْلُ الشَّمّاخِ:
إذا ما رايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ تَلَقّاها عَرابَةُ بِاليَمِينِ
فَلَمّا عَلِمُوا بِما فَعَلَ إبْراهِيمُ بِأصْنامِهِمْ أرْسَلُوا إلَيْهِ مَن يُحْضِرُهُ في مَلَئِهِمْ حَوْلَ أصْنامِهِمْ كَما هو مُفَصَّلٌ في سُورَةِ الأنْبِياءِ وأُجْمِلَ هُنا.فالتَّعْقِيبُ في قَوْلِهِ ”﴿فَأقْبَلُوا إلَيْهِ﴾“ تَعْقِيبٌ نِسْبِيٌّ، وجاءَهُ المُرْسَلُونَ إلَيْهِ مُسْرِعِينَ ”﴿يَزِفُّونَ﴾“ أيْ يَعْدُونَ، والزَّفُّ: الإسْراعُ في الجَرْيِ، ومِنهُ زَفِيفُ النَّعامَةِ وزَفُّها وهو عَدْوُها الأوَّلُ حِينَ تَنْطَلِقُ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ ”يَزِفُّونَ“ بِفَتْحِ الياءِ وكَسْرِ الزّايِ، عَلى أنَّهُ مُضارِعُ زَفَّ. وقَرَأهُ حَمْزَةُ وخَلَفٌ بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الزّايِ، عَلى أنَّهُ مُضارِعُ أزَفَّ، أيْ شَرَعُوا في الزَّفِيفِ، فالهَمْزَةُ لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ بَلْ لِلدُّخُولِ في الفِعْلِ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ أدْنَفَ، أيْ صارَ في حالِ الدَّنَفِ، وهو راجِعٌ إلى كَوْنِ الهَمْزَةِ لِلصَّيْرُورَةِ.
وجُمْلَةُ ﴿قالَ أتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ﴾ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ؛ لِأنَّ إقْبالَ القَوْمِ إلى إبْراهِيمَ بِحالَةٍ تُنْذِرُ بِحِنْقِهِمْ وإرادَةِ البَطْشِ بِهِ، يُثِيرُ في نَفْسِ السّامِعِ تَساؤُلًا عَنْ حالِ إبْراهِيمَ في تَلَقِّيهِ بِأُولَئِكَ وهو فاقِدٌ لِلنَّصِيرِ مُعَرَّضٌ لِلنَّكالِ فَيَكُونُ ﴿قالَ أتَعْبُدُونَ ما  صفحة ١٤٥
والنَّحْتُ: بَرْيُ العُودِ لِيَصِيرَ في شَكْلٍ يُرادُ، فَإنْ كانَتِ الأصْنامُ مِنَ الخَشَبِ فَإطْلاقُ النَّحْتِ حَقِيقَةٌ، وإنْ كانَتْ مِن حِجارَةٍ كَما قِيلَ، فَإطْلاقُ النَّحْتِ عَلى نَقْشِها وتَصْوِيرِها مَجازٌ.
والِاسْتِفْهامُ إنْكارِيٌّ، والإتْيانُ بِالمَوْصُولِ والصِّلَةِ لِما تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الصِّلَةُ مِن تَسَلُّطِ فِعْلِهِمْ عَلى مَعْبُوداتِهِمْ، أيْ أنَّ شَأْنَ المَعْبُودِ أنْ يَكُونَ فاعِلًا لا مُنْفَعِلًا، فَمِنَ المُنْكَرِ أنْ تَعْبُدُوا أصْنامًا أنْتُمْ نَحَتُّمُوها وكانَ الشَّأْنُ أنْ تَكُونَ أقَلَّ مِنكم.
والواوُ في ﴿واللَّهُ خَلَقَكم وما تَعْمَلُونَ﴾ واوُ الحالِ، أيْ أتَيْتُمْ مُنْكَرًا إذْ عَبَدْتُمْ ما تَصْنَعُونَهُ بِأيْدِيكم، والحالُ أنَّ اللَّهَ خَلَقَكم وما تَعْمَلُونَ وأنْتُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ عِبادَتِهِ، أوْ وأنْتُمْ مُشْرِكُونَ مَعَهُ في العِبادَةِ مَخْلُوقاتٍ دُونَكم. والحالُ مُسْتَعْمَلَةٌ في التَّعْجِيبِ لِأنَّ في الكَلامِ حَذْفًا بَعْدَ واوِ الحالِ، إذِ التَّقْدِيرُ: ولا تَعْبُدُونَ اللَّهَ وهو خَلَقَكم وخَلَقَ ما نَحَتُّمُوهُ.
و(ما) مَوْصُولَةٌ و”تَعْمَلُونَ“ صِلَةُ المَوْصُولِ، والرّابِطُ مَحْذُوفٌ عَلى الطَّرِيقَةِ الكَثِيرَةِ، أيْ وما تَعْمَلُونَها. ومَعْنى ”تَعْمَلُونَ“ تَنْحِتُونَ. وإنَّما عَدَلَ عَنْ إعادَةِ فِعْلِ (تَنْحِتُونَ) لِكَراهِيَةِ تَكْرِيرِ الكَلِمَةِ، فَلَمّا تَقَدَّمَ لَفْظُ ”تَنْحِتُونَ“ عَلِمَ أنَّ المُرادَ بِ ”ما تَعْمَلُونَ“ ذَلِكَ المَعْمُولُ الخاصُّ وهو المَعْمُولُ لِلنَّحْتِ لِأنَّ العَمَلَ أعَمُّ. يُقالُ: عَمِلَتُ قَمِيصًا وعَمِلَتُ خاتَمًا. وفي حَدِيثِ صُنْعِ المِنبَرِ «أرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِامْرَأةٍ مِنَ الأنْصارِ أنْ مُرِي غُلامَكِ النَّجّارَ يَعْمَلُ لِي أعْوادًا أُكَلِّمُ عَلَيْها النّاسَ» .
وخَلْقُ اللَّهِ إيّاها ظاهِرٌ، وخُلْقُهُ ما يَعْمَلُونَها: هو خَلْقُ المادَّةِ الَّتِي تُصْنَعُ مِنها
صفحة ١٤٦
مِن حَجَرٍ أوْ خَشَبٍ، ولِذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ إسْنادِ الخَلْقِ إلى اللَّهِ بِواوِ العَطْفِ، وإسْنادِ العَمَلِ إلَيْهِمْ بِإسْنادِ فِعْلِ ”تَعْمَلُونَ“ .وقَدِ احْتَجَّ الأشاعِرَةُ عَلى أنَّ أفْعالَ العِبادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعالى بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنْ تَكُونَ (ما) مَصْدَرِيَّةً أوْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، عَلى أنَّ المُرادَ: ما تَعْمَلُونَهُ مِنَ الأعْمالِ. وهو تَمَسُّكٌ ضَعِيفٌ لِما في الآيَةِ مِنَ الِاحْتِمالَيْنِ، ولِأنَّ المَقامَ يُرَجِّحُ المَعْنى الَّذِي ذَكَرْناهُ، إذْ هو في مَقامِ المُحاجَّةِ بِأنَّ الأصْنامَ أنْفُسَها مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ، فالأوْلى المَصِيرُ إلى أدِلَّةٍ أُخْرى.