صفحة ١٧٩

﴿وأرْسَلْناهُ إلى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ﴾ ﴿فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهم إلى حِينٍ﴾ ظاهِرُ تَرْتِيبِ ذِكْرِ الإرْسالِ بَعْدَ الإنْجاءِ مِنَ الحُوتِ أنَّهُ إعادَةٌ لِإرْسالِهِ.

وهَذا هو مُقْتَضى ما في كِتابِ يُونُسَ مِن كُتُبِ اليَهُودِ، إذْ وقَعَ في الإصْحاحِ الثّالِثِ ”ثُمَّ صارَ قَوْلُ الرَّبِّ إلى يُونُسَ ثانِيَةً: قُمِ اذْهَبْ إلى نِينَوى ونادِ لَها المُناداةَ الَّتِي أنا مُكَلِّمُكَ بِها.

والمُرْسَلُ إلَيْهِمْ: اليَهُودُ القاطِنُونَ في نِينَوى في أسْرِ الآشُورِيِّينَ كَما تَقَدَّمَ. والظّاهِرُ أنَّ الرَّسُولَ إذا بُعِثَ إلى قَوْمٍ مُخْتَلِطِينَ بِغَيْرِهِمْ أنْ تَعُمَّ رِسالَتُهُ جَمِيعَ الخَلْطِ لِأنَّ في تَمْيِيزِ البَعْضِ بِالدَّعْوَةِ تَقْرِيرًا لِكُفْرِ غَيْرِهِمْ. ولِهَذا لَمّا بَعَثَ اللَّهُ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - لِتَخْلِيصِ بَنِي إسْرائِيلَ دَعا فِرْعَوْنَ وقَوْمَهُ إلى نَبْذِ عِبادَةِ الأصْنامِ، فَيُحْتَمَلُ أنَّ المُقَدَّرَيْنِ بِمِائَةِ ألْفٍ هُمُ اليَهُودُ وأنَّ المَعْطُوفَيْنِ بِقَوْلِهِ“ أوْ يَزِيدُونَ ”هم بَقِيَّةُ سُكّانِ نِينَوى، وذُكِرَ في كِتابِ يُونُسَ أنَّ دَعْوَةَ يُونُسَ لَمّا بَلَغَتْ مَلِكَ نِينَوى قامَ عَنْ كُرْسِيِّهِ وخَلَعَ رِداءَهُ ولَبِسَ مَسْحًا وأمَرَ أهْلَ مَدِينَتِهِ بِالتَّوْبَةِ والإيمانِ، إلَخْ. ولَمْ يُذْكَرْ أنَّ يُونُسَ دَعا غَيْرَ أهْلِ نِينَوى مِن بِلادِ أشُورَ مَعَ سَعَتِها.

ورَوى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قالَ: «سَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعالى“ ﴿وأرْسَلْناهُ إلى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ﴾ ”قالَ:“ عِشْرُونَ ألْفًا» ”. قالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

فَحَرْفُ (أوْ) في قَوْلِهِ“ أوْ يَزِيدُونَ ”بِمَعْنى (بَلْ) عَلى قَوْلِ الكُوفِيِّينَ واخْتِيارِ الفَرّاءِ وأبِي عَلِيٍّ الفارِسِيِّ وابْنِ جِنِّيِّ وابْنِ بُرْهانَ. واسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِ جَرِيرٍ:

ماذا تَرى في عِيالٍ قَدْ بَرَمْتَ بِهِمْ لَمْ أُحْصِ عِدَّتَهم إلّا بّعَدّادِ

كانُوا ثَمانِينَ أوْ زادُوا ثَمانِيَةً ∗∗∗ لَوْلا رَجاؤُكَ قَدْ قَتَّلْتَ أوْلادِي

والبَصْرِيُّونَ لا يُجِيزُونَ ذَلِكَ إلّا بِشَرْطَيْنِ أنْ يَتَقَدَّمَها نَفْيٌ أوْ نَهْيٌ وأنْ يُعادَ

صفحة ١٨٠

العامِلُ، وتَأوَّلُوا هَذِهِ الآيَةَ بِأنَّ (أوْ) لِلتَّخْيِيرِ، والمَعْنى إذا رَآهُمُ الرّائِي تَخَيَّرَ بَيْنَ أنْ يَقُولَ: هم مِائَةُ ألْفٍ، أوْ يَقُولَ: يَزِيدُونَ.

ويُرَجِّحُهُ أنَّ المَعْطُوفَ بِ (أوْ) غَيْرُ مُفْرَدٍ بَلْ هو كَلامٌ مُبِينٌ ناسَبَ أنْ يَكُونَ الحَرْفُ لِلْإضْرابِ.

والفاءُ في“ فَآمَنُوا " لِلتَّعْقِيبِ العُرْفِيِّ لِأنَّ يُونُسَ لَمّا أُرْسِلَ إلَيْهِمْ ودَعاهُمُ امْتَنَعُوا في أوَّلِ الأمْرِ فَأخْبَرَهم بِوَعِيدٍ بِهَلاكِهِمْ بَعْدَ أرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ خافُوا فَآمَنُوا، كَما أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمانُها إلّا قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهم عَذابَ الخِزْيِ في الحَياةِ الدُّنْيا ومَتَّعْناهم إلى حِينٍ﴾ [يونس: ٩٨] .