صفحة ٣٦٠

﴿قُلْ إنَّ الخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم وأهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ ألا ذَلِكَ هو الخُسْرانُ المُبِينُ﴾ أعْقَبَ أمْرَ التَّسْوِيَةِ في شَأْنِهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ المَوْعِظَةِ حِرْصًا عَلى إصْلاحِهِمْ عَلى عادَةِ القُرْآنِ، ولُوحِظَ في إبْلاغِهِمْ هَذِهِ المَوْعِظَةَ مَقامُ ما سَبَقَ مِنَ التَّخْلِيَةِ بَيْنَهم وبَيْنَ شَأْنِهِمْ، جَمْعًا بَيْنَ الإرْشادِ وبَيْنَ التَّوْبِيخِ؛ فَجِيءَ بِالمَوْعِظَةِ عَلى طَرِيقِ التَّعْرِيضِ والحَدِيثِ عَنِ الغائِبِ؛ والمُرادُ المُخاطَبُونَ.

وافْتُتِحَ المَقُولُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ واقِعٌ وتَعْرِيفُ الخاسِرِينَ تَعْرِيفُ الجِنْسِ، أيْ أنَّ الجِنْسَ الَّذِينَ عُرِفُوا بِالخُسْرانِ هُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم وأهْلِيهِمْ.

وتَعْرِيفُ المُسْنَدِ والمُسْنَدِ إلَيْهِ مِن طَرِيقِ القَصْرِ، فَيُفِيدُ هَذا التَّرْكِيبُ قَصْرَ جِنْسِ الخاسِرِينَ عَلى الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم وأهْلِيهِمْ، وهو قَصْرُ مُبالَغَةٍ لِكَمالِ جِنْسِ الخُسْرانِ في الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم وأهْلِيهِمْ فَخُسْرانُ غَيْرِهِمْ كَلا خُسْرانٍ، ولِهَذا يُقالُ في لامِ التَّعْرِيفِ في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ إنَّها دالَّةٌ عَلى مَعْنى الكَمالِ فَلَيْسُوا يُرِيدُونَ أنَّ مَعْنى الكَمالِ مِن مَعانِي لامِ التَّعْرِيفِ.

ولَمّا كانَ الكَلامُ مَسُوقًا بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ بِالَّذِينَ دارَ الجِدالُ مَعَهم مِن قَوْلِهِ ﴿إنْ تَكْفُرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ﴾ [الزمر: ٧] إلى قَوْلِهِ ﴿فاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِن دُونِهِ﴾ عُلِمَ أنَّ المُرادَ بِالَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم وأهْلِيهِمْ هُمُ الَّذِينَ جَرى الجِدالُ مَعَهم، فَأفادَ مَعْنى: إنَّ الخاسِرِينَ أنْتُمْ، إلّا أنَّ وجْهَ العُدُولِ عَنِ الضَّمِيرِ إلى المَوْصُولِيَّةِ في قَوْلِهِ ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ﴾ لِإدْماجِ وعِيدِهِمْ بِأنَّهم يَخْسَرُونَ أنْفُسَهم وأهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ.

ومَعْنى خُسْرانِهِمْ أنْفُسَهم: أنَّهم تَسَبَّبُوا لِأنْفُسِهِمْ في العَذابِ في حِينِ حَسِبُوا أنَّهم سَعَوْا لَها في النَّعِيمِ والنَّجاحِ، وهو تَمْثِيلٌ لِحالِهِمْ في إيقاعِ أنْفُسِهِمْ في العَذابِ وهم يَحْسَبُونَ أنَّهم يُلْقُونَها في النَّعِيمِ، بِحالِ التّاجِرِ الَّذِي عَرَّضَ مالَهُ لِلنَّماءِ والرِّبْحِ فَأُصِيبَ بِالتَّلَفِ، فَأُطْلِقَ عَلى هَذِهِ الهَيْئَةِ تَرْكِيبُ ﴿خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ﴾ وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ومَن خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: ٩] في أوَّلِ سُورَةِ الأعْرافِ.

صفحة ٣٦١

وأمّا خُسْرانُهم أهْلِيهِمْ فَهو مِثْلُ خُسْرانِهِمْ أنْفُسَهم وذَلِكَ أنَّهم أغْرَوْا أهْلِيهِمْ مِن أزْواجِهِمْ وأوْلادِهِمْ بِالكُفْرِ كَما أوْقَعُوا أنْفُسَهم فِيهِ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِأهْلِيهِمْ في الآخِرَةِ ولَمْ يَنْفَعُوهم ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنهم يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس: ٣٧] وهَذا قَرِيبٌ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أنْفُسَكم وأهْلِيكم نارًا﴾ [التحريم: ٦] فَكانَ خُسْرانُهم خُسْرانًا عَظِيمًا.

فَقَوْلُهُ ﴿ألا ذَلِكَ هو الخُسْرانُ المُبِينُ﴾ اسْتِئْنافٌ هو بِمَنزِلَةِ الفَذْلَكَةِ والنَّتِيجَةِ مِنَ الكَلامِ السّابِقِ لِأنَّ وصْفَ الَّذِينَ خَسِرُوا بِأنَّهم خَسِرُوا أحَبَّ ما عِنْدَهم وبِأنَّهُمُ الَّذِينَ انْحَصَرَ فِيهِمْ جِنْسُ الخاسِرِينَ، يُسْتَخْلَصُ مِنهُ أنَّ خَسارَتَهم أعْظَمُ خَسارَةٍ وأوْضَحُها لِلْعَيانِ، ولِذَلِكَ أُوثِرَتْ خَسارَتُهم بِاسْمِ الخُسْرانِ الَّذِي هو اسْمُ مَصْدَرِ الخَسارَةِ دالٌّ عَلى قُوَّةِ المَصْدَرِ والمُبالَغَةِ فِيهِ.

وأُشِيرَ إلى العِنايَةِ والِاهْتِمامِ بِوَصْفِ خَسارَتِهِمْ، بِأنِ افْتَتَحَ الكَلامَ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ داخِلًا عَلى اسْمِ الإشارَةِ المُفِيدِ تَمْيِيزَ المُشارِ إلَيْهِ أكْمَلَ تَمْيِيزٍ، وبِتَوَسُّطِ ضَمِيرِ الفَصْلِ المُفِيدِ لِلْقَصْرِ وهو قَصْرٌ ادِّعائِيٌّ، والقَوْلُ فِيهِ كالقَوْلِ في الحَصْرِ في قَوْلِهِ ﴿إنَّ الخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم وأهْلِيهِمْ﴾ .