صفحة ٨٩

﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ ومَن حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ويُؤْمِنُونَ بِهِ ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وعِلْمًا فاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا واتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وقِهِمْ عَذابَ الجَحِيمِ﴾ .

اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ اقْتَضاهُ الِانْتِقالُ مِن ذِكْرِ الوَعِيدِ المُؤْذِنِ بِذَمِّ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى الثَّناءِ عَلى المُؤْمِنِينَ، فَإنَّ الكَلامَ الجارِيَ عَلى ألْسِنَةِ المَلائِكَةِ مِثْلُ الكَلامِ الجارِي عَلى ألْسِنَةِ الرُّسُلِ إذِ الجَمِيعُ مِن وحْيِ اللَّهِ، والمُناسَبَةُ المُضادَّةُ بَيْنَ الحالَيْنِ والمَقالَيْنِ.

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا ناشِئًا عَنْ وعِيدِ المُجادِلِينَ في آياتِ اللَّهِ أنْ يَسْألَ سائِلٌ عَنْ حالِ الَّذِينَ لا يُجادِلُونَ في آياتِ اللَّهِ فَآمَنُوا بِها.

وخَصَّ في هَذِهِ الآيَةِ طائِفَةً مِنَ المَلائِكَةِ مَوْصُوفَةً بِأوْصافٍ تَقْتَضِي رِفْعَةَ شَأْنِهِمْ تَذَرُّعًا مِن ذَلِكَ إلى التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَسْتَغْفِرُ لَهم هَذِهِ الطّائِفَةُ الشَّرِيفَةُ مِنَ المَلائِكَةِ، وإلّا فَإنَّ اللَّهَ قَدْ أسْنَدَ مِثْلَ هَذا الِاسْتِغْفارِ لِعُمُومِ المَلائِكَةِ في قَوْلِهِ في سُورَةِ الشُّورى ﴿والمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ويَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرْضِ﴾ [الشورى: ٥] أيْ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فِيها بَعْدَهُ ﴿والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أولِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ﴾ [الشورى: ٦] .

و﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ﴾ هُمُ المُوَكَّلُونَ بِرَفْعِ العَرْشِ المُحِيطِ بِالسَّماواتِ وهو أعْظَمُ السَّماواتِ ولِذَلِكَ أُضِيفَ إلى اللَّهِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ويَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهم يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ﴾ [الحاقة: ١٧] .

و(مَن حَوْلَهُ) طائِفَةٌ مِنَ المَلائِكَةِ تَحُفُّ بِالعَرْشِ تَحْقِيقًا لِعَظَمَتِهِ قالَ تَعالى ﴿وتَرى المَلائِكَةَ حافِّينَ مِن حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [الزمر: ٧٥]، ولا حاجَةَ إلى الخَوْضِ في عَدَدِهِمْ ﴿وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلّا هُوَ﴾ [المدثر: ٣١] .

والإخْبارُ عَنْ صِنْفَيِ المَلائِكَةِ بِأنَّهم يُسَبِّحُونَ ويُؤْمِنُونَ بِهِ تَوْطِئَةٌ وتَمْهِيدٌ لِلْإخْبارِ عَنْهم بِأنَّهم يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينِ آمَنُوا فَذَلِكَ هو المَقْصُودُ مِنَ الخَبَرِ، فَقَدَّمَ لَهُ ما فِيهِ

صفحة ٩٠

تَحْقِيقُ اسْتِجابَةِ اسْتِغْفارِهِمْ لِصُدُورِهِ مِمَّنْ دَأْبُهُمُ التَّسْبِيحُ وصِفَتُهُمُ الإيمانُ.

وصِيغَةُ المُضارِعِ في ”يُسَبِّحُونَ، ويُؤْمِنُونَ، ويَسْتَغْفِرُونَ“ مُفِيدَةٌ لِتَجَدُّدِ ذَلِكَ وتَكَرُّرِهِ، وذَلِكَ مُشْعِرٌ بِأنَّ المُرادَ أنَّهم يَفْعَلُونَ ذَلِكَ في الدُّنْيا كَما هو المُلائِمُ لِقَوْلِهِ ﴿فاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا﴾ وقَوْلِهِ (﴿وأدْخِلْهم جَنّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وعَدْتَهُمْ﴾ [غافر: ٨]) وقَوْلِهِ ﴿ومَن تَقِ السَّيِّئاتِ﴾ [غافر: ٩] إلَخْ، وقَدْ قالَ في الآيَةِ الأُخْرى ﴿ويَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرْضِ﴾ [الشورى: ٥] أيْ مِنَ المُؤْمِنِينَ كَما تَقَدَّمَ.

ومَعْنى تُجَدُّدِ الإيمانِ المُسْتَفادِ مِن (ويُؤْمِنُونَ) تَجَدُّدُ مُلاحَظَتِهِ في نُفُوسِ المَلائِكَةِ وإلّا فَإنَّ الإيمانَ عَقْدٌ ثابِتٌ في النُّفُوسِ وإنَّما تُجَدُّدُهُ بِتَجَدُّدِ دَلائِلِهِ وآثارِهِ.

وفائِدَةُ الإخْبارِ عَنْهم بِأنَّهم يُؤْمِنُونَ مَعَ كَوْنِهِ مَعْلُومًا في جانِبِ المَلائِكَةِ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الإيمانِ بِأنَّهُ حالُ المَلائِكَةِ، والتَّعْرِيضُ بِالمُشْرِكِينَ أنْ لَمْ يَكُونُوا مِثْلَ أشْرَفِ أجْناسِ المَخْلُوقاتِ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى في حَقِّ إبْراهِيمَ ﴿وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [البقرة: ١٣٥]، وجُمْلَةُ ﴿رَبَّنا وسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وعِلْمًا﴾ مُبَيِّنَةٌ لِ (يَسْتَغْفِرُونَ)، وفِيها قَوْلٌ مَحْذُوفٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ طَرِيقَةُ التَّكَلُّمِ في قَوْلِهِمْ (رَبَّنا) . والباءُ في (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) لِلْمُلابَسَةِ، أيْ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ تَسْبِيحًا مُصاحِبًا لِلْحَمْدِ، فَحَذَفَ مَفْعُولَ (يُسَبِّحُونَ) لِدَلالَةِ المُتَعَلِّقِ بِهِ عَلَيْهِ.

والمُرادُ بِ (الَّذِينَ آمَنُوا) المُؤْمِنُونَ المَعْهُودُونَ وهُمُ المُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ - ﷺ لِأنَّهُمُ المَقْصُودُ في هَذا المَقامِ وإنْ كانَ صالِحًا لِكُلِّ المُؤْمِنِينَ.

وافْتُتِحَ دُعاءُ المَلائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنِّداءِ. لِأنَّهُ أدْخَلُ في التَّضَرُّعِ وأرْجى لِلْإجابَةِ، وتَوَجَّهُوا إلى اللَّهِ بِالثَّناءِ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ وعِلْمِهِ لِأنَّ سَعَةَ الرَّحْمَةِ مِمّا يُطْمِعُ بِاسْتِجابَةِ الغُفْرانِ، وسَعَةَ العِلْمِ تَتَعَلَّقُ بِثُبُوتِ إيمانِ الَّذِينَ آمَنُوا.

ومَعْنى السَّعَةِ في الصِّفَتَيْنِ كَثْرَةُ تَعَلُّقاتِهِما، وذِكْرُ سَعَةِ العِلْمِ كِنايَةٌ عَنْ يَقِينِهِمْ بِصِدْقِ إيمانِ المُؤْمِنِينَ فَهو بِمَنزِلَةِ قَوْلِ القائِلِ، أنْتَ تَعْلَمُ أنَّهم آمَنُوا بِكَ - ووَحَّدُوكَ.

صفحة ٩١

وجِيءَ في وصْفِهِ تَعالى بِالرَّحْمَةِ الواسِعَةِ والعِلْمِ الواسِعِ بِأُسْلُوبِ التَّمْيِيزِ المُحَوَّلِ عَنِ النِّسْبَةِ لِما في تَرْكِيبِهِ مِنَ المُبالَغَةِ بِإسْنادِ السَّعَةِ إلى الذّاتِ ظاهِرًا حَتّى كَأنَّ ذاتَهُ هي الَّتِي وسِعَتْ، فَذَلِكَ إجْمالٌ يَسْتَشْرِفُ بِهِ السّامِعُ إلى ما يَرِدُ بَعْدَهُ فَيَجِيءُ بَعْدَهُ التَّمْيِيزُ المُبَيِّنُ لِنِسْبَةِ السَّعَةِ أنَّها مِن جانِبِ الرَّحْمَةِ وجانِبِ العِلْمِ، وهي فائِدَةُ تَمْيِيزِ النِّسْبَةِ في كَلامِ العَرَبِ، لِأنَّ لِلتَّفْصِيلِ بَعْدَ الإجْمالِ تَمْكِينًا لِلصِّفَةِ في النَّفْسِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ [مريم: ٤] .

والمُرادُ أنَّ الرَّحْمَةَ والعِلْمَ وسِعا كُلَّ مَوْجُودٍ، الآنَ، أيْ في الدُّنْيا وذَلِكَ هو سِياقُ الدُّعاءِ كَما تَقَدَّمَ آنِفًا، فَما مِن مَوْجُودٍ في الدُّنْيا إلّا وقَدْ نالَتْهُ قِسْمَةٌ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ سَواءٌ في ذَلِكَ المُؤْمِنُ والكافِرُ والإنْسانُ والحَيَوانُ.

و(كُلَّ شَيْءٍ) كُلَّ مَوْجُودٍ، وهو عامٌّ مَخْصُوصٌ بِالعَقْلِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّحْمَةِ، أيْ كُلُّ شَيْءٍ مُحْتاجٌ إلى الرَّحْمَةِ، وتِلْكَ هي المَوْجُوداتُ الَّتِي لَها إدْراكٌ تُدْرِكُ بِهِ المُلائِمَ والمُنافِرَ والنّافِعَ والضّارَّ، مِنَ الإنْسانِ والحَيَوانِ، إذْ لا فائِدَةَ في تَعَلُّقِ الرَّحْمَةِ بِالحَجَرِ والشَّجَرِ ونَحْوِهِما.

وأمّا بِالنِّسْبَةِ إلى العِلْمِ فالعُمُومُ عَلى بابِهِ قالَ تَعالى ﴿ألا يَعْلَمُ مَن خَلَقَ﴾ [الملك: ١٤] .

ولَمّا كانَ سِياقُ هَذا الدُّعاءِ أنَّهُ واقِعٌ في الدُّنْيا كَما تَقَدَّمَ انْدَفَعَ ما عَسى أنْ يُقالَ إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ لا تَسَعُ المُشْرِكِينَ يَوْمَ القِيامَةِ إذْ هم في عَذابٍ خالِدٍ فَلا حاجَةَ إلى تَخْصِيصِ عُمُومِ كُلِّ شَيْءٍ بِالنِّسْبَةِ إلى سَعَةِ الرَّحْمَةِ بِمُخَصَّصاتِ الأدِلَّةِ المُنْفَصِلَةِ القاضِيَةِ بِعَدَمِ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ لِلْمُشْرِكِينَ بَعْدَ الحِسابِ.

وتَفَرَّعَ عَلى هَذِهِ التَّوْطِئَةِ بِمُناجاةِ اللَّهِ تَعالى ما هو المُتَوَسَّلُ إلَيْهِ مِنها وهو طَلَبُ المَغْفِرَةِ لِلَّذِينِ تابُوا لِأنَّهُ إذا كانَ قَدْ عَلِمَ صِدْقَ تَوْبَةِ مَن تابَ مِنهم وكانَتْ رَحْمَتُهُ وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدِ اسْتَحَقُّوا أنْ تَشْمَلَهم رَحْمَتُهُ لِأنَّهم أحْرِياءُ بِها.

ومَفْعُولُ (فاغْفِرْ) مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ، أيِ اغْفِرْ لَهم ما تابُوا مِنهُ، أيْ ذُنُوبَ الَّذِينَ تابُوا.

والمُرادُ بِالتَّوْبَةِ: الإقْلاعُ عَنِ المَعاصِي، وأعْظَمُها الإشْراكُ بِاللَّهِ.

صفحة ٩٢

واتِّباعُ سَبِيلِ اللَّهِ هو العَمَلُ بِما أمَرَهم واجْتِنابُ ما نَهاهم عَنْهُ، فالإرْشادُ يُشْبِهُ الطَّرِيقَ الَّذِي رَسَمَهُ اللَّهُ لَهم ودَلَّهم عَلَيْهِ فَإذا عَمِلُوا بِهِ فَكَأنَّهُمُ اتَّبَعُوا السَّبِيلَ فَمَشَوْا فِيهِ فَوَصَلُوا إلى المَقْصُودِ.

﴿وقِهِمْ عَذابَ الجَحِيمِ﴾ عَطْفٌ عَلى (فاغْفِرْ) فَهو مِن جُمْلَةِ التَّفْرِيعِ فَإنَّ الغُفْرانَ يَقْتَضِي هَذِهِ الوِقايَةَ لِأنَّ غُفْرانَ الذَّنْبِ هو عَدَمُ المُؤاخَذَةِ بِهِ. وعَذابُ الجَحِيمِ جَعَلَهُ اللَّهُ لِجَزاءِ المُذْنِبِينَ، إلّا أنَّهم عَضَّدُوا دَلالَةَ الِالتِزامِ بِدَلالَةِ المُطابَقَةِ إظْهارًا لِلْحِرْصِ عَلى المَطْلُوبِ.

والجَحِيمُ: شِدَّةُ الِالتِهابِ، وسُمِّيَتْ جَهَنَّمُ دارَ الجَزاءِ عَلى الذُّنُوبِ.