﴿رَبَّنا وأدْخِلْهم جَنّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وعَدْتَهم ومَن صَلَحَ مِن آبائِهِمْ وأزْواجِهِمْ وذُرِّيّاتِهِمْ إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿وقِهِمُ السَّيِّئاتِ ومَن تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ .

إعادَةُ النِّداءِ في خِلالِ جُمَلِ الدُّعاءِ اعْتِراضٌ لِلتَّأْكِيدِ بِزِيادَةِ التَّضَرُّعِ، وهَذا ارْتِقاءٌ مِن طَلَبِ وِقايَتِهِمُ العَذابَ إلى طَلَبِ إدْخالِهِمْ مَكانَ النَّعِيمِ.

والعَدْنُ: الإقامَةُ، أيِ الخُلُودُ.

والدُّعاءُ لَهم بِذَلِكَ مَعَ تَحَقُّقِهِمْ أنَّهم مَوْعُودُونَ بِهِ تَأدُّبٌ مَعَ اللَّهِ تَعالى لِأنَّهُ لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ، كَما تَقَدَّمَ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ قَوْلُهُ ﴿رَبَّنا وآتِنا ما وعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ﴾ [آل عمران: ١٩٤] .

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِقَوْلِهِمْ (وأدْخِلْهم) عَجِّلْ لَهم بِالدُّخُولِ.

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِمْ ﴿ومَن صَلَحَ مِن آبائِهِمْ وأزْواجِهِمْ وذُرِّيّاتِهِمْ﴾ فَإنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مَوْعُودِينَ بِهِ صَرِيحًا. و(مَن صَلَحَ) عَطْفٌ عَلى الضَّمِيرِ المَنصُوبِ في (أدْخِلْهم) .

صفحة ٩٣

والمَعْنى دُعاءٌ بِأنْ يَجْعَلَهُمُ اللَّهُ مَعَهم في مَساكِنَ مُتَقارِبَةٍ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿هم وأزْواجُهم في ظِلالٍ﴾ [يس: ٥٦] في سُورَةِ يس وقَوْلِهِ ”﴿ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الطور: ٢١]“ في سُورَةِ الطُّورِ.

ورُتِّبَتِ القَراباتُ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى تَرْتِيبِها الطَّبِيعِيِّ فَإنَّ الآباءَ أسْبَقُ عَلاقَةً بِالأبْناءِ ثُمَّ الأزْواجَ ثُمَّ الذُّرِّيّاتِ.

وجُمْلَةُ ﴿إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ اعْتِراضٌ بَيْنَ الدَّعَواتِ اسْتِقْصاءً لِلرَّغْبَةِ في الإجابَةِ بِداعِي مَحَبَّةِ المَلائِكَةِ لِأهْلِ الصَّلاحِ لِما بَيْنَ نُفُوسِهِمْ والنُّفُوسِ المَلَكِيَّةِ مِنَ التَّناسُبِ.

واقْتِرانُ هَذِهِ الجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمامِ بِها. و(إنَّ) في مِثْلِ هَذا المَقامِ تُغْنِي غِناءَ فاءِ السَّبَبِيَّةِ، أيْ فَعِزَّتُكَ وحِكْمَتُكَ هُما اللَّتانِ جَرَّأتانا عَلى سُؤالِ ذَلِكَ مِن جَلالِكَ، فالعِزَّةُ تَقْتَضِي الِاسْتِغْناءَ عَنْ الِانْتِفاعِ بِالأشْياءِ النَّفِيسَةِ فَلَمّا وعَدَ الصّالِحِينَ الجَنَّةَ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ ما يَضِنُّهُ بِذَلِكَ فَلا يَصْدُرُ مِنهُ مَطْلٌ، والحِكْمَةُ تَقْتَضِي مُعامَلَةَ المُحْسِنِ بِالإحْسانِ.

وأعْقَبُوا بِسُؤالِ النَّجاةِ مِنَ العَذابِ والنَّعِيمَ بِدارِ الثَّوابِ بِدُعاءٍ بِالسَّلامَةِ مِن عُمُومِ كُلِّ ما يَسُوءُهم يَوْمَ القِيامَةِ بِقَوْلِهِمْ ﴿وقِهِمُ السَّيِّئاتِ﴾ وهو دُعاءٌ جامِعٌ إذِ السَّيِّئاتُ هُنا جَمْعُ سَيِّئَةٍ وهي الحالَةُ أوْ الفِعْلَةُ الَّتِي تَسُوءُ مَن تَعَلَّقَتْ بِهِ مِثْلَ ما في قَوْلِهِ ﴿فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا﴾ [غافر: ٤٥] وقَوْلِهِ تَعالى ﴿وإنْ تُصِبْهم سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى ومَن مَعَهُ﴾ [الأعراف: ١٣١] صِيغَتْ عَلى وزْنِ فَيْعَلَةٍ لِلْمُبالَغَةِ في قِيامِ الوَصْفِ بِالمَوْصُوفِ مِثْلَ قَيِّمٍ وسَيِّدٍ وصَيْقَلٍ، فالمَعْنى: وقِهِمْ مِن كُلِّ ما يَسُوءُهم.

فالتَّعْرِيفُ في السَّيِّئاتِ لِلْجِنْسِ وهو صالِحٌ لِإفادَةِ الِاسْتِغْراقِ، فَوُقُوعُهُ في سِياقِ ما هو كالنَّفْيِ وهو فِعْلُ الوِقايَةِ يُفِيدُ عُمُومَ الجِنْسِ، عَلى أنَّ بِساطَ الدُّعاءِ يَقْتَضِي عُمُومَ الجِنْسِ ولَوْ بِدُونِ لامِ نَفْيٍ كَقَوْلِ الحَرِيرِيُّ:

يا أهْلَ ذا المَغْنى وُقِيتُمْ ضُرًّا

صفحة ٩٤

وفِي الحَدِيثِ «اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ومُمْسِكًا تَلَفًا» أيْ كُلَّ مُنْفِقٍ ومُمْسِكٍ.

والمُرادُ إبْلاغُ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ أعْلى دَرَجاتِ الرِّضى والقَبُولِ يَوْمَ الجَزاءِ بِحَيْثُ لا يَنالُهُمُ العَذابُ ويَكُونُونَ في بُحْبُوحَةِ النَّعِيمِ ولا يَعْتَرِيهِمْ ما يُكَدِّرُهم مِن نَحْوِ التَّوْبِيخِ والفَضِيحَةِ.

وقَدْ جاءَ هَذا المَعْنى في آياتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ ﴿فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اليَوْمِ﴾ [الإنسان: ١١] .

وجُمْلَةُ ﴿ومَن تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾ تَذْيِيلٌ، أيْ وكُلُّ مَن وُقِيَ السَّيِّئاتِ يَوْمَ القِيامَةِ فَقَدْ نالَتْهُ رَحْمَةُ اللَّهِ، أيْ نالَتْهُ الرَّحْمَةُ كامِلَةً فَفِعْلُ رَحْمَتِهِ مُرادٌ بِهِ تَعْظِيمُ مَصْدَرِهِ.

وقَدْ دَلَّ عَلى هَذا المُرادِ في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ ﴿وذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ [النساء: ١٣] إذْ أُشِيرَ إلى المَذْكُورِ مِن وِقايَةِ السَّيِّئاتِ إشارَةً لِلتَّنْوِيهِ والتَّعْظِيمِ. ووُصِفَ الفَوْزُ بِالعَظِيمِ لِأنَّهُ فَوْزٌ بِالنَّعِيمِ خالِصًا مِنَ الكُدْراتِ الَّتِي تُنْقِصُ حَلاوَةَ النِّعْمَةِ.

‌‌ وتَنْوِينُ (يَوْمَئِذٍ) عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ، أيْ يَوْمَ إذْ تُدْخِلُهم جَنّاتِ عَدْنٍ.