﴿وكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وصَدَّ عَنِ السَّبِيلِ وما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلّا في تَبابٍ﴾ .

جُمْلَةُ ﴿وكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ﴾ عَطَفٌ عَلى جُمْلَةِ (﴿وقالَ فِرْعَوْنُ﴾ [غافر: ٢٦]) لِبَيانِ حالِ اعْتِقادِهِ وعَمَلِهِ بَعْدَ أنْ بَيَّنَ حالَ أقْوالِهِ، والمَعْنى: أنَّهُ قالَ قَوْلًا مُنْبَعِثًا عَنْ ضَلالِ اعْتِقادِ ومُغْرِيًا فَسادَ الأعْمالِ. ولِهَذا الِاعْتِبارِ اعْتِبارُ جَمِيعِ أحْوالِ فِرْعَوْنَ لَمْ تُفْصَلْ هَذِهِ الجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَها إذْ لَمْ يُقْصَدْ بِها ابْتِداءُ قِصَّةٍ أُخْرى، وهَذا مِمّا سَمَّوْهُ بِالتَّوَسُّطِ بَيْنَ كَمالِيِّ الِاتِّصالِ والِانْقِطاعِ في بابِ الفَصْلِ والوَصْلِ مِن عِلْمِ المَعانِي.

وافْتِتاحُها بِ (كَذَلِكَ) كافْتِتاحِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣] في سُورَةِ البَقَرَةِ، أيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّزْيِينِ أيْ عَمَلِ فِرْعَوْنَ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ مُبالَغَةً في أنَّ تَزْيِينَ عَمَلِهِ لَهُ بَلَغَ مِنَ القُوَّةِ في نَوْعِهِ ما لا يُوجَدُ لَهُ شِبْهٌ يُشَبَّهُ بِهِ فَمَن أرادَ تَشْبِيهَهُ فَلْيُشَبِّهْهُ بِعَيْنِهِ.

وبُنِيَ فِعْلُ (زُيِّنَ) إلى المَجْهُولِ لِأنَّ المَقْصُودَ مَعْرِفَةُ مَفْعُولِ التَّزْيِينِ لا مَعْرِفَةُ فاعِلِهِ، أيْ حَصَلَ لَهُ تَزْيِينُ سُوءِ عَمَلِهِ في نَفْسِهِ فَحَسِبُ الباطِلَ حَقًّا والضَّلالَ اهْتِداءً.

وقَرَأ الجُمْهُورُ ”وصَدَّ“ بِفَتْحِ الصّادِ وهو يَجُوزُ اعْتِبارُهُ قاصِرًا الَّذِي مُضارِعُهُ يَصِدُّ بِكَسْرِ الصّادِ، ويَجُوزُ اعْتِبارُهُ مُتَعَدِّيًا الَّذِي مُضارِعُهُ يَصُدُّ بِضَمِّ الصّادِ، أيْ

صفحة ١٤٨

أعْرَضَ عَنِ السَّبِيلِ ومَنَعَ قَوْمَهَ اتِّباعَ السَّبِيلِ. وقَرَأهُ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وعاصِمٌ بِضَمِّ الصّادِ.

والقَوْلُ فِيهِ كالقَوْلِ في ﴿زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ﴾ .

وتَعْرِيفُ السَّبِيلِ لِلْعَهْدِ، أيْ سَبِيلُ اللَّهِ، أوْ سَبِيلُ الخَيْرِ، أوْ سَبِيلُ الهُدى، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ لِلدَّلالَةِ عَلى الكَمالِ في النَّوْعِ، أيْ صَدٌّ عَنِ السَّبِيلِ الكامِلِ الصّالِحِ.

وجُمْلَةُ ﴿وما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلّا في تَبابٍ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿وكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ﴾، والمُرادُ بِكَيْدِهِ ما أمَرَ بِهِ مِن بِناءِ الصَّرْحِ والغايَةِ مِنهُ، وسُمِّيَ كَيْدًا لِأنَّهُ عَمَلٌ لَيْسَ المُرادُ بِهِ ظاهِرُهُ بَلْ أُرِيدُ بِهِ الإفْضاءُ إلى إيهامِ قَوْمِهِ كَذِبَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ.

والتِّبابُ: الخُسْرانُ والهَلاكُ، ومِنهُ ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ وتَبَّ﴾ [المسد: ١]، وحَرَّفُ الظَّرْفِيَّةِ اسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ لِمَعْنى شِدَّةِ المُلابَسَةِ كَأنَّهُ قِيلَ: وما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلّا في تِبابٍ شَدِيدٍ. والِاسْتِثْناءُ مِن أحْوالٍ مُقَدَّرَةٍ.