﴿إنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا﴾ .

اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ قُصِدَ بِهِ تَهْدِيدُ الَّذِينَ أهْمَلُوا الِاسْتِدْلالَ بِآياتِ اللَّهِ عَلى تَوْحِيدِهِ.

صفحة ٣٠٤

وقَوْلُهُ ﴿لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا﴾ مُرادٌ بِهِ الكِنايَةُ عَنِ الوَعِيدِ تَذْكِيرًا لَهم بِإحاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِكُلِّ كائِنٍ، وهو مُتَّصِلُ المَعْنى بِقَوْلِهِ آنِفًا ﴿وما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكم سَمْعُكم ولا أبْصارُكُمْ﴾ [فصلت: ٢٢] الآيَةَ.

والإلْحادُ حَقِيقَتُهُ: المَيْلُ عَنِ الِاسْتِقامَةِ، والآياتُ تَشْمَلُ الدَّلائِلَ الكَوْنِيَّةَ المُتَقَدِّمَةَ في قَوْلِهِ ﴿قُلْ أإنَّكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ﴾ [فصلت: ٩] وقَوْلِهِ ﴿ومِن آياتِهِ اللَّيْلُ والنَّهارُ﴾ [فصلت: ٣٧] إلَخْ. وتَشْمَلُ الآياتِ القَوْلِيَّةَ المُتَقَدِّمَةَ في قَوْلِهِ ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرْآنِ والغَوْا فِيهِ﴾ [فصلت: ٢٦] .

فالإلْحادُ في الآياتِ مُسْتَعارٌ لِلْعُدُولِ والِانْصِرافِ عَنْ دَلالَةِ الآياتِ الكَوْنِيَّةِ عَلى ما دَلَّتْ عَلَيْهِ. والإلْحادُ في الآياتِ القَوْلِيَّةِ مُسْتَعارٌ لِلْعُدُولِ عَنْ سَماعِها ولِلطَّعْنِ في صِحَّتِها وصَرْفِ النّاسِ عَنْ سَماعِها.

وحَرْفُ في مِن قَوْلِهِ تَعالى في آيَتِنا لِلظَّرْفِيَّةِ المَجازِيَّةِ لِإفادَةِ تَمَكُّنِ إلْحادِهِمْ حَتّى كَأنَّهُ مَظْرُوفٌ في آياتِ اللَّهِ حَيْثُما كانَتْ أوْ كُلَّما سَمِعُوها.

ومَعْنى نَفْيِ خَفائِهِمْ: نَفِيُ خَفاءِ إلْحادِهِمْ لا خَفاءِ ذَواتِهِمْ إذْ لا غَرَضَ في العِلْمِ بِذَواتِهِمْ.

* * *

﴿أفَمَن يُلْقى في النّارِ خَيْرٌ أمْ مَن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ القِيامَةِ﴾ .

تَفْرِيعٌ عَلى الوَعِيدِ في قَوْلِهِ ﴿لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا﴾ لِبَيانِ أنَّ الوَعِيدَ بِنارِ جَهَنَّمَ تَعْرِيضٌ بِالمُشْرِكِينَ بِأنَّهم صائِرُونَ إلى النّارِ، وبِالمُؤْمِنِينَ بِأنَّهم آمِنُونَ مِن ذَلِكَ.

والِاسْتِفْهامُ تَفْرِيعٌ مُسْتَعْمَلٌ في التَّنْبِيهِ عَلى تَفاوُتِ المَرْتَبَتَيْنِ.

وكُنِّيَ بِقَوْلِهِ ﴿يَأْتِي آمِنًا﴾ أنَّ ذَلِكَ الفَرِيقَ مَصِيرُهُ الجَنَّةُ إذْ لا غايَةَ لِلْآمِنِ إلّا أنَّهُ في نَعِيمٍ. وهَذِهِ كِنايَةٌ تَعْرِيضِيَّةٌ بِالَّذِينَ يُلْحِدُونَ في آياتِ اللَّهِ.

وفِي الآيَةِ مُحَسِّنُ الِاحْتِباكِ، إذْ حُذِفَ مُقابِلُ مَن يُلْقى في النّارِ وهو: مَن

صفحة ٣٠٥

يَدْخُلُ الجَنَّةَ، وحُذِفَ مُقابِلُ ﴿مَن يَأْتِي آمِنًا﴾ وهو: مَن يَأْتِي خائِفًا، وهم أهْلُ النّارِ.

* * *

﴿اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ .

الجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ ﴿إنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في آياتِنا﴾ إلَخْ، كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمّا جاءَهُمْ﴾ [فصلت: ٤١] الآيَةَ، أيْ لا يَخْفى عَلَيْنا إلْحادُهم، ولا غَيْرُهُ مِن سَيِّئِ أعْمالِهِمْ. وإنَّما خَصَّ الإلْحادَ بِالذِّكْرِ ابْتِداءً لِأنَّهُ أشْنَعُ أعْمالِهِمْ ومَصْدَرُ أسْوائِها.

والأمْرُ في قَوْلِهِ ﴿اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ﴾ مُسْتَعْمَلٌ في التَّهْدِيدِ، أوْ في الإغْراءِ المُكَنّى بِهِ عَنِ التَّهْدِيدِ.

وجُمْلَةُ ﴿إنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ وعِيدٌ بِالعِقابِ عَلى أعْمالِهِمْ عَلى وجْهِ الكِنايَةِ.

وتَوْكِيدُهُ بِـ (إنَّ) لِتَحْقِيقِ مَعْنَيَيْهِ الكِنائِيِّ والصَّرِيحِ، وهو تَحْقِيقُ إحاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِأعْمالِهِمْ؛ لِأنَّهم كانُوا شاكِّينَ في ذَلِكَ كَما تَقَدَّمَ في قِصَّةِ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكم سَمْعُكُمْ﴾ [فصلت: ٢٢] الآيَةَ.

والبَصِيرُ: العَلِيمُ بِالمُبْصَراتِ.