﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ فاخْتُلِفَ فِيهِ﴾ .

اعْتِراضٌ بِتَسْلِيَةٍ لِلنَّبِيءِ ﷺ عَلى تَكْذِيبِ المُشْرِكِينَ وكُفْرِهِمْ بِالقُرْآنِ بِأنَّهُ لَيْسَ بِأوْحَدَ في ذَلِكَ فَقَدْ أُوتِيَ مُوسى التَّوْراةَ فاخْتَلَفَ الَّذِينَ دَعاهم في ذَلِكَ، فَمِنهم مَن آمَنَ بِهِ ومِنهم مَن كَفَرَ.

والمَقْصُودُ الِاعْتِبارُ بِالِاخْتِلافِ في التَّوْراةِ فَإنَّهُ أشَدُّ مِنَ الِاخْتِلافِ في القُرْآنِ فالِاخْتِلافُ في التَّوْراةِ كانَ عَلى نَوْعَيْنِ: اخْتِلافٌ فِيها بَيْنَ مُؤْمِنٍ بِها وكافِرٍ، فَقَدْ كَفَرَ بِدَعْوَةِ مُوسى فِرْعَوْنُ وقَوْمُهُ وبَعْضُ بَنِي إسْرائِيلَ مِثْلُ قارُونَ ومِثْلُ الَّذِينَ عَبَدُوا العِجْلَ في مَغِيبِ مُوسى لِلْمُناجاةِ، واخْتِلافٌ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ بِها اخْتِلافًا عَطَّلُوا بِهِ بَعْضَ أحْكامِها كَما قالَ تَعالى ﴿ولَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنهم مَن آمَنَ ومِنهم مَن كَفَرَ﴾ [البقرة: ٢٥٣]، وكِلا الِاخْتِلافَيْنِ مَوْضِعُ عِبْرَةٍ وأُسْوَةٍ لِاخْتِلافِ المُشْرِكِينَ في القُرْآنِ. وهَذا ما عَصَمَ اللَّهُ القُرْآنَ مِن مِثْلِهِ إذْ قالَ وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ فالتَّسْلِيَةُ لِلرَّسُولِ ﷺ بِهَذا أوْقَعُ، وهَذا ناظِرٌ إلى قَوْلِهِ آنِفًا ما يُقالُ لَكَ إلّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ عَلى الوَجْهِ الثّانِي مِن مَعْنَيَيْهِ بِذِكْرِ فَرْدٍ مِن أفْرادِ ذَلِكَ العُمُومِ وهو الأعْظَمُ الأهَمُّ.

* * *

﴿ولَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهم وإنَّهم لَفي شَكٍّ مِنهُ مُرِيبٍ﴾ .

هَذا مُتَعَلِّقٌ بِالَّذِينَ كَذَّبُوا بِالقُرْآنِ مِنَ العَرَبِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ (﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾) يَقْتَضِي

صفحة ٣١٨

أنَّ اللَّهَ أخَّرَ القَضاءَ بَيْنَهم وبَيْنَ المُؤْمِنِينَ إلى أجَلٍ اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ، فَأمّا قَوْمُ مُوسى فَقَدْ قَضى بَيْنَهم بِاسْتِئْصالِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وبِتَمْثِيلِ الآشُورِيِّينَ بِاليَهُودِ بَعْدَ مُوسى، وبِخَرابِ بَيْتِ المَقْدِسِ، وزَوالِ مُلْكِ إسْرائِيلَ آخِرًا. وهَذا الكَلامُ داخِلٌ في إتْمامِ التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ ﷺ والمُؤْمِنِينَ في اسْتِبْطاءِ النَّصْرِ.

والكَلِمَةُ هي كَلِمَةُ الإمْهالِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ المُكَذِّبِينَ، والإمْهالُ إلى يَوْمِ بَدْرٍ بِالنِّسْبَةِ لِمَن صُرِعُوا بِبَدْرٍ.

والتَّعْبِيرُ عَنِ الجَلالَةِ بِلَفْظِ رَبِّكَ لِما في مَعْنى الرَّبِّ مِنَ الرَّأْفَةِ بِهِ والِانْتِصارِ لَهُ، ولِما في الإضافَةِ إلى ضَمِيرِ الرَّسُولِ ﷺ مِنَ التَّشْرِيفِ. وكِلا الأمْرَيْنِ تَعْزِيزٌ لِلتَّسْلِيَةِ.

ولَكَ أنْ تَجْعَلَ كَلِمَةَ بَيْنَ دالَّةً عَلى أُخْرى مُقَدَّرَةً عَلى سَبِيلِ إيجازِ الحَذْفِ. والتَّقْدِيرُ: بَيْنَهم وبَيْنَ المُؤْمِنِينَ، أيْ بِما يُظْهِرُ بِهِ انْتِصارَ المُؤْمِنِينَ، فَإنَّهُ يَكْثُرُ أنْ يُقالَ: بَيْنَ كَذا وبَيْنَ كَذا، قالَ تَعالى ﴿وحِيلَ بَيْنَهم وبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ﴾ [سبإ: ٥٤] .

ومَعْنى سَبَقَتْ أيْ تَقَدَّمَتْ في عِلْمِهِ عَلى مُقْتَضى حِكْمَتِهِ وإرادَتِهِ.

والأجَلُ المُسَمّى: جِنْسٌ يَصْدُقُ بِكُلِّ ما أُجِّلَ بِهِ عِقابُهم في عِلْمِ اللَّهِ. وأمّا ضَمِيرُ ﴿وإنَّهم لَفي شَكٍّ مِنهُ مُرِيبٍ﴾ فَهو خاصٌّ بِالمُشْرِكِينَ الشّاكِّينَ في البَعْثِ والشّاكِّينَ في أنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ رَسُولَهُ والمُؤْمِنِينَ.

والرَّيْبُ: الشَّكُّ، فَوَصْفُ (شَكٍّ) بِـ (مُرِيبٍ) مِن قَبِيلِ الإسْنادِ المَجازِيِّ لِقَصْدِ المُبالَغَةِ بِأنِ اشْتُقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ وصْفٌ كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ ألْيَلُ وشِعْرٌ شاعِرٌ.