﴿كَذَلِكَ يُوحِي إلَيْكَ وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ .

مُوقِعُ الإشارَةِ في قَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إلَيْكَ﴾ كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣] في سُورَةِ البَقَرَةِ. والمَعْنى: مِثْلَ هَذا الوَحْيِ يُوحِي اللَّهُ إلَيْكَ، فالمُشارُ إلَيْهِ: الإيحاءُ المَأْخُوذُ مِن فِعْلِ (يُوحِي) .

وأمّا وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ فَإدْماجٌ. والتَّشْبِيهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَلى أصْلِهِ، أيْ مِثْلَ وحْيِهِ إلَيْكَ وحْيُهُ إلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ، فالتَّشْبِيهُ مُسْتَعْمَلٌ في كِلْتا طَرِيقَتَيْهِ كَما يُسْتَعْمَلُ المُشْتَرَكُ في مَعْنَيَيْهِ. والغَرَضُ مِنَ التَّشْبِيهِ إثْباتُ التَّسْوِيَةِ، أيْ لَيْسَ وحْيُ اللَّهِ إلَيْكَ إلّا عَلى سُنَّةِ وحْيِهِ إلى الرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ، فَلَيْسَ وحْيُهُ إلى الرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ بِأوْضَحَ مِن وحْيِهِ إلَيْكَ. وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا أوْحَيْنا إلَيْكَ كَما أوْحَيْنا إلى نُوحٍ والنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ﴾ [النساء: ١٦٣]، أيْ ما جاءَ بِهِ مِنَ الوَحْيِ إنْ هو إلّا مِثْلُ ما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ السّابِقُونَ، فَما إعْراضُ قَوْمِهِ عَنْهُ إلّا كَإعْراضِ الأُمَمِ السّالِفَةِ عَمّا جاءَتْ بِهِ

صفحة ٢٧

رُسُلُهم. فَحَصَلَ هَذا المَعْنى الثّانِي بِغايَةِ الإيجازِ مَعَ حُسْنِ مَوْقِعِ الِاسْتِطْرادِ.

وإجْراءُ وصْفَيِ (العَزِيزِ الحَكِيمِ) عَلى اسْمِ الجَلالَةِ دُونَ غَيْرِهِما لِأنَّ لِهاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ مَزِيدًا مِنِ اخْتِصاصٍ بِالغَرَضِ المَقْصُودِ مِن أنَّ اللَّهَ يَصْطَفِي مَن يَشاءُ لِرِسالَتِهِ.

فَـالعَزِيزُ المُتَصَرِّفُ بِما يُرِيدُ لا يَصُدُّهُ أحَدٌ. و(الحَكِيمُ) يُحَمِّلُ كَلامَهُ مَعانِيَ لا يَبْلُغُ إلى مِثْلِها غَيْرُهُ، وهَذا مِن مُتَمِّماتِ الغَرَضِ الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ وهو الإشارَةُ إلى تَحَدِّي المُعانِدِينَ بِأنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِ سُوَرِ القُرْآنِ.

وجُمْلَةُ ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إلَيْكَ﴾ إلى آخِرِها ابْتِدائِيَّةٌ، وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ مِن قَوْلِهِ (كَذَلِكَ) عَلى (﴿يُوحِي إلَيْكَ﴾) لِلِاهْتِمامِ بِالمُشارِ إلَيْهِ والتَّشْوِيقِ بِتَنْبِيهِ الأذْهانِ إلَيْهِ، وإذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ في الكَلامِ ما يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُشارًا إلَيْهِ بِـ (كَذَلِكَ) عُلِمَ أنَّ المُشارَ إلَيْهِ مُقَدَّرٌ مَعْلُومٌ مِنَ الفِعْلِ الَّذِي بَعْدَ اسْمِ الإشارَةِ وهو المَصْدَرُ المَأْخُوذُ مِنَ الفِعْلِ، أيْ كَذَلِكَ الإيحاءِ يُوحِي إلَيْكَ اللَّهُ. وهَذا اسْتِعْمالٌ مُتَّبَعٌ في نَظائِرِ هَذا التَّرْكِيبِ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣] في سُورَةِ البَقَرَةِ. وأحْسَبُ أنَّهُ مِن مُبْتَكَراتِ القُرْآنِ؛ إذْ لَمْ أقِفْ عَلى مِثْلِهِ في كَلامِ العَرَبِ قَبْلَ القُرْآنِ.

وما ذَكَرَهُ الخَفاجِيُّ في سُورَةِ البَقَرَةِ مِن تَنْظِيرِهِ بِقَوْلِ زُهَيْرٍ:

كَذَلِكَ خَيْمُهم ولِكُلِّ قَوْمٍ إذا مَسَّتْهُمُ الضَّرّاءُ خَيْمُ

لا يَصِحُّ؛ لِأنَّ بَيْتَ زُهَيْرٍ مَسْبُوقٌ بِما يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ مُشارًا إلَيْهِ، وقَدْ فاتَنِي التَّنْبِيهُ عَلى ذَلِكَ فِيما تَقَدَّمَ مِنَ الآياتِ فَعَلَيْكَ بِضَمِّ ما هُنا إلى ما هُنالِكَ.

والجارُّ والمَجْرُورُ صِفَةٌ لِمَفْعُولٍ مُطْلَقٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ (يُوحِي) أيْ إيحاءً كَذَلِكَ الإيحاءِ العَجِيبِ.

والعُدُولُ عَنْ صِيغَةِ الماضِي إلى صِيغَةِ المُضارِعِ في قَوْلِهِ (يُوحِي) لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ إيحاءَهُ إلَيْهِ مُتَجَدِّدٌ لا يَنْقَطِعُ في مُدَّةِ حَياتِهِ الشَّرِيفَةِ لِيَيْأسَ المُشْرِكُونَ مِن إقْلاعِهِ بِخِلافِ قَوْلِهِ: ﴿وكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا﴾ [الشورى: ٥٢] وقَوْلِهِ: ﴿وكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الشورى: ٧] إذْ لا غَرَضَ في إفادَةِ مَعْنى التَّجَدُّدِ هُناكَ. وأمّا مُراعاةُ التَّجَدُّدِ هُنا

صفحة ٢٨

فَلِأنَّ المَقْصُودَ مِنَ الآيَةِ هو ما أُوحِيَ بِهِ إلى مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ القُرْآنِ، وأنَّ قَوْلَهُ: إلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ إدْماجٌ.

ولَكَ أنْ تَعْتَبِرَ صِيغَةَ المُضارِعِ مَنظُورًا فِيها إلى مُتَعَلِّقَيِ الإيحاءِ وهو إلَيْكَ وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ، فَتَجْعَلَ المُضارِعَ لِاسْتِحْضارِ الصُّورَةِ مِنَ الإيحاءِ إلى الرُّسُلِ حَيْثُ اسْتَبْعَدَ المُشْرِكُونَ وُقُوعَهُ فَجُعِلَ كَأنَّهُ مُشاهَدٌ عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعالى: اللَّهُ الَّذِي أرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا وقَوْلِهِ: ﴿ويَصْنَعُ الفُلْكَ﴾ [هود: ٣٨] .

وقَرَأ الجُمْهُورُ (يُوحِي) بِصِيغَةِ المُضارِعِ المَبْنِيِّ لِلْفاعِلِ واسْمُ الجَلالَةِ فاعِلٌ. وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ (يُوحى) بِالبِناءِ لِلْمَفْعُولِ عَلى أنَّ (إلَيْكَ) نائِبُ فاعِلٍ، فَيَكُونُ اسْمُ الجَلالَةِ مَرْفُوعًا عَلى الِابْتِداءِ بِجُمْلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا كَأنَّهُ لَمّا قالَ: يُوحى إلَيْكَ، قِيلَ: ومَن يُوحِيهِ، فَقِيلَ: اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ، أيْ يُوحِيهِ اللَّهُ عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِ ضِرارِ بْنِ نَهْشَلٍ أوِ الحارِثِ بْنِ نَهِيكٍ:

لَيُبْكَ يَزِيدُ ضارِعٌ لِخُصُومَةٍ ومُخْتَبِطٌ مِمّا تُطِيحُ الطَّوائِحُ

إذْ كانَتْ رِوايَةُ البَيْتِ بِالبِناءِ لِلنّائِبِ.