﴿أمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلِياءَ فاللَّهُ هو الوَلِيُّ وهْوَ يُحْيِي المَوْتى وهْوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

(أمْ) لِلْإضْرابِ الِانْتِقالِيِّ كَما يُقالُ: دَعِ الِاهْتِمامَ بِشَأْنِهِمْ وإنْذارِهِمْ ولْنَعُدْ إلى فَظاعَةِ حالِهِمْ في اتِّخاذِهِمْ مِن دُونِ اللَّهِ أوْلِياءَ.

وتُقَدَّرُ بَعْدَ (أمْ) هَمْزَةُ اسْتِفْهامٍ إنْكارِيٍّ. فالمَعْنى: بَلِ اتَّخَذُوا مَن دُونِهِ أوْلِياءَ، أيْ أتَوْا مُنْكَرًا لَمّا اتَّخَذُوا مَن دُونِهِ أوْلِياءَ.

فَضَمِيرُ (اتَّخَذُوا) عائِدٌ إلى ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَن دُونِهِ أوْلِياءَ﴾ في الجُمْلَةِ السّابِقَةِ.

صفحة ٤٠

والفاءُ في قَوْلِهِ: ﴿فاللَّهُ هو الوَلِيُّ﴾ فاءُ جَوابٍ لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَقامُ إنْكارِ اتِّخاذِهِمْ أوْلِياءَ مِن دُونِ اللَّهِ، لِأنَّ إنْكارَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أنَّ أوْلِياءَهم لَيْسَتْ جَدِيرَةً بِالوِلايَةِ، وأنَّهم ضَلُّوا في وِلايَتِهِمْ إيّاها، فَنَشَأ تَقْدِيرُ شَرْطٍ مَعْناهُ: إنْ أرادُوا ولِيًّا بِحَقٍّ فاللَّهُ هو الوَلِيُّ.

قالَ السَّكّاكِيُّ في المِفْتاحِ: (وتَقْدِيرُ الشَّرْطِ لِقَرائِنِ الأحْوالِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، قالَ تَعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهم ولَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ [الأنفال: ١٧] عَلى تَقْدِيرِ إنِ افْتَخَرْتُمْ بِقَتْلِهِمْ فَلَمْ تَقْتُلُوهم، وقالَ: ﴿فاللَّهُ هو الوَلِيُّ﴾ عَلى تَقْدِيرِ: إنْ أرادُوا ولِيًّا بِحَقٍّ فاللَّهُ هو الوَلِيُّ بِالحَقِّ لا ولِيَّ سِواهُ) .

والمُرادُ بِالوَلايَةِ في قَوْلِهِ: ﴿أمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلِياءَ فاللَّهُ هو الوَلِيُّ﴾ ولايَةُ المَعْبُودِيَّةِ، فَأفادَ تَعْرِيفَ المُسْنَدِ في قَوْلِهِ: ﴿فاللَّهُ هو الوَلِيُّ﴾ قَصْرَ جِنْسِ الوَلِيِّ بِهَذا الوَصْفِ عَلى اللَّهِ، وإذْ قَدْ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ تَعَيَّنَ أنَّ المُرادَ قَصْرُ الوَلايَةِ الحَقِّ عَلَيْهِ تَعالى.

وأفادَ ضَمِيرُ الفَصْلِ في قَوْلِهِ: ﴿فاللَّهُ هو الوَلِيُّ﴾ تَأْكِيدَ القَصْرِ وتَحْقِيقَهُ وأنَّهُ لا مُبالَغَةَ فِيهِ تَذْكِيرًا بِأنَّ الوَلايَةَ الحَقَّ في هَذا الشَّأْنِ مُخْتَصَّةٌ بِاللَّهِ تَعالى.

وهَذا كُلُّهُ مَسُوقٌ إلى النَّبِيءِ ﷺ والمُؤْمِنِينَ تَسْلِيَةً وتَثْبِيتًا وتَعْرِيضًا بِالمُشْرِكِينَ فَإنَّهم لا يَخْلُونَ مِن أنْ يَسْمَعُوهُ.

وعَطْفُ ﴿وهُوَ يُحْيِي المَوْتى﴾ عَلى جُمْلَةِ ﴿فاللَّهُ هو الوَلِيُّ﴾ إدْماجٌ لِإعادَةِ إثْباتِ البَعْثِ تَرْسِيخًا لِعِلْمِ المُسْلِمِينَ وإبْلاغًا لِمَسامِعِ المُنْكِرِينَ لِأنَّهم أنْكَرُوا ذَلِكَ في ضِمْنِ اتِّخاذِهِمْ أوْلِياءَ مِن دُونِ اللَّهِ، فَلَمّا أبْطَلَ مُعْتَقَدَهم إلَهِيَّةَ غَيْرِ اللَّهِ أرْدَفَ بِإبْطالِ ما هو مِن عَلائِقِ شِرْكِهِمْ وهو نَفْيُ البَعْثِ، ولَيْسَ ذَلِكَ اسْتِدْلالًا عَلَيْهِمْ لِإبْطالِ إلَهِيَّةِ آلِهَتِهِمْ لِأنَّ وُقُوعَ البَعْثِ مَجْحُودٌ عِنْدَهم.

فَأمّا عَطْفُ جُمْلَةِ ﴿وهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فَهو لِإثْباتِ هَذِهِ الصِّفَةِ لِلَّهِ تَعالى تَذْكِيرًا بِانْفِرادِهِ بِتَمامِ القُدْرَةِ، ويُفِيدُ الِاسْتِدْلالَ عَلى إمْكانِ البَعْثِ. قالَ تَعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهو أهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم: ٢٧]، ويُفِيدُ الِاسْتِدْلالَ عَلى نَفْيِ الإلَهِيَّةِ عَنْ أصْنامِهِمْ لِأنَّ مَن لا يَقْدِرُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ لا يَصْلُحُ لِلْإلَهِيَّةِ: قالَ تَعالى

صفحة ٤١

﴿أفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ﴾ [النحل: ١٧] وقالَ: ﴿لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وهم يُخْلَقُونَ﴾ [النحل: ٢٠] وقالَ: وإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنهُ. والغَرَضُ مِن هَذا تَعْرِيضٌ بِإبْلاغِهِ إلى مَسامِعِ المُشْرِكِينَ.

ولَمّا كانَ المَقْصُودُ إثْباتَ القُدْرَةِ لِلَّهِ تَعالى عُطِفَتِ الجُمْلَةُ عَلى الَّتِي قَبْلَها لِأنَّها مِثْلُها في إفادَةِ الحُكْمِ، وكانَتْ إفادَةُ التَّعْلِيلِ بِها حاصِلَةً مِن مَوْقِعِها عَقِبَها، ولَوْ أُرِيدَ التَّعْلِيلُ ابْتِداءً لَفُصِلَتِ الجُمْلَةُ ولَمْ تُعْطَفْ.