Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
صفحة ٦٠
﴿فَلِذَلِكَ فادْعُ واسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ولا تَتَّبِعْ أهْواءَهم وقُلْ آمَنتُ بِما أنْزَلَ اللَّهُ مِن كِتابٍ وأُمِرْتُ لِأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا ورَبُّكم لَنا أعْمالُنا ولَكم أعْمالُكم لا حُجَّةَ بَيْنَنا وبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وإلَيْهِ المَصِيرُ﴾الفاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلى قَوْلِهِ: ﴿شَرَعَ لَكم مِنَ الدِّينِ ما وصّى بِهِ نُوحًا﴾ [الشورى: ١٣] إلى آخِرِهِ، المُفَسَّرِ بَقَوْلِهِ ﴿أنْ أقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: ١٣] المُخَلَّلِ بَعْضُهُ بِجُمَلٍ مُعْتَرِضَةٍ مِن قَوْلِهِ: كَبُرَ عَلى المُشْرِكِينَ إلى (مَن يُنِيبُ) .
واللّامُ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ وتَكُونَ الإشارَةُ بِـ (ذَلِكَ) إلى المَذْكُورِ، أيْ جَمِيعِ ما تَقَدَّمَ مِنَ الأمْرِ بِإقامَةِ الدِّينِ والنَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ فِيهِ وتَلَقِّي المُشْرِكِينَ لِلدَّعْوَةِ بِالتَّجَهُّمِ وتَلَقِّي المُؤْمِنِينَ لَها بِالقَبُولِ والإنابَةِ، وتَلَقِّي أهْلِ الكِتابِ لَها بِالشَّكِّ، أيْ فَلِأجَلِ جَمِيعِ ما ذُكِرَ فادْعُ واسْتَقِمْ، أيْ لِأجْلِ جَمِيعِ ما تَقَدَّمَ مِن حُصُولِ الِاهْتِداءِ لِمَن هَداهُمُ اللَّهُ ومِن تَبَرُّمِ المُشْرِكِينَ ومِن شَكِّ أهْلِ الكِتابِ فادْعُ.
ولَمْ يَذْكُرْ مَفْعُولَ (ادْعُ) لِدَلالَةِ ما تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، أيِ ادْعُ المُشْرِكِينَ والَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ والَّذِينَ اهْتَدَوْا وأنابُوا.
وتَقْدِيمُ (لِذَلِكَ) عَلى مُتَعَلِّقِهِ وهو فِعْلُ (ادْعُ) لِلِاهْتِمامِ بِما احْتَوى عَلَيْهِ اسْمُ الإشارَةِ إذْ هو مَجْمُوعُ أسْبابٍ لِلْأمْرِ بِالدَّوامِ عَلى الدَّعْوَةِ.
ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ اللّامُ في قَوْلِهِ فَلِذَلِكَ لامَ التَّقْوِيَةِ وتَكُونَ مَعَ مَجْرُورِها مَفْعُولَ (ادْعُ) والإشارَةُ إلى الدِّينِ مِن قَوْلِهِ: ﴿شَرَعَ لَكم مِنَ الدِّينِ﴾ [الشورى: ١٣] أيْ فادْعُ لِذَلِكَ الدِّينِ.
وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ عَلى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمامِ بِالدِّينِ.
وفِعْلُ الأمْرِ في قَوْلِهِ (فادْعُ) مُسْتَعْمَلٌ في الدَّوامِ عَلى الدَّعْوَةِ كَقَوْلِهِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [النساء: ١٣٦]، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: كَما أُمِرْتَ، وفي هَذا إبْطالٌ
صفحة ٦١
لِشُبْهَتِهِمْ في الجِهَةِ الثّالِثَةِ المُتَقَدِّمَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: كَبُرَ عَلى المُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهم إلَيْهِ.والفاءُ في قَوْلِهِ (فادْعُ) يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُؤَكِّدَةً لِفاءِ التَّفْرِيعِ الَّتِي قَبْلَها، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُضَمَّنَةً مَعْنى الجَزاءِ لِما في تَقْدِيمِ المَجْرُورِ مِن مُشابَهَةِ مَعْنى الشَّرْطِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا.
والِاسْتِقامَةُ: الِاعْتِدالُ، والسِّينُ والتّاءُ فِيها لِلْمُبالَغَةِ مِثْلَ: أجابَ واسْتَجابَ. والمُرادُ هُنا الِاعْتِدالُ المَجازِيُّ وهو اعْتِدالُ الأُمُورِ النَّفْسانِيَّةِ مِنَ التَّقْوى ومَكارِمِ الأخْلاقِ، وإنَّما أُمِرَ بِالِاسْتِقامَةِ، أيِ الدَّوامِ عَلَيْها، لِلْإشارَةِ إلى أنَّ كَمالَ الدَّعْوَةِ إلى الحَقِّ لا يَحْصُلُ إلّا إذا كانَ الدّاعِي مُسْتَقِيمًا في نَفْسِهِ.
والكافُ في كَما أُمِرْتَ لِتَشْبِيهِ مَعْنى المُماثَلَةِ، أيْ دَعْوَةٌ واسْتِقامَةٌ مِثْلَ الَّذِي أُمِرْتَ بِهِ، أيْ عَلى وِفاقِهِ، أيْ وافِيَةٌ بِما أُمِرْتَ بِهِ. وهَذِهِ الكافُ مِمّا يُسَمّى كافَ التَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٨]، ولَيْسَ التَّعْلِيلُ مِن مَعانِي الكافِ في التَّحْقِيقِ ولَكِنَّهُ حاصِلُ مَعْنًى يَعْرِضُ في اسْتِعْمالِ الكافِ إذا أُرِيدَ تَشْبِيهُ عامِلِها بِمَدْخُولِها عَلى مَعْنى المُطابَقَةِ والمُوافَقَةِ.
والِاتِّباعُ يُطْلَقُ مَجازًا عَلى المُجاراةِ والمُوافَقَةِ، وعَلى المُحاكاةِ والمُماثَلَةِ في العَمَلِ، والمُرادُ هُنا كِلا الإطْلاقَيْنِ لِيَرْجِعَ النَّهْيُ إلى النَّهْيِ عَنْ مُخالَفَةِ الأمْرَيْنِ المَأْمُورِ بِهِما في قَوْلِهِ: فادْعُ واسْتَقِمْ.
وضَمِيرُ (أهْواءَهم) لِلَّذِينِ ذُكِرُوا مِن قَبْلُ مِنَ المُشْرِكِينَ والَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ، والمَقْصُودُ: نَهْيُ المُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ مِن بابِ لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿فاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ومَن تابَ مَعَكَ﴾ [هود: ١١٢] في سُورَةِ هُودٍ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْنى ولا تَتَّبِعْ أهْواءَهم تُجارِهِمْ في مُعامَلَتِهِمْ، أيْ لا يَحْمِلْكَ طَعْنُهم في دَعْوَتِكَ عَلى عَدَمِ ذِكْرِ فَضائِلِ رُسُلِهِمْ وهَدْيِ كُتُبِهِمْ عَدا ما بَدَّلُوهُ مِنها فَأعْلِنْ بِأنَّكَ مُؤْمِنٌ بِكُتُبِهِمْ، ولِذَلِكَ عُطِفَ عَلى قَوْلِهِ: ولا تَتَّبِعْ أهْواءَهم قَوْلُهُ: ﴿وقُلْ آمَنتُ بِما أنْزَلَ اللَّهُ مِن كِتابٍ﴾ الآيَةَ، فَمَوْقِعُ واوِ العَطْفِ
صفحة ٦٢
فِيهِ بِمَنزِلَةِ مَوْقِعِ فاءِ التَّفْرِيعِ. ويَكُونُ المَعْنى كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يَجْرِمَنَّكم شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أنْ لا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هو أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾ [المائدة: ٨] في سُورَةِ المائِدَةِ.والأهْواءُ: جَمْعُ هَوًى وهو المَحَبَّةُ، وغَلَبَ عَلى مَحَبَّةِ ما لا نَفْعَ فِيهِ، أيِ ادْعُهم إلى الحَقِّ وإنْ كَرِهُوهُ، واسْتَقِمْ أنْتَ ومَن مَعَكَ وإنْ عاداكم أهْلُ الكِتابِ فَهم يُحِبُّونَ أنْ تَتَّبِعُوا مِلَّتَهم، وهَذا مِن مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿ولَنْ تَرْضى عَنْكَ اليَهُودُ ولا النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهم قُلْ إنَّ هُدى اللَّهِ هو الهُدى ولَئِنِ اتَّبَعْتَ أهْواءَهم بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ العِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾ [البقرة: ١٢٠] .
وقَوْلُهُ: وقُلْ آمَنتُ بِما أنْزَلَ اللَّهُ مِن كِتابٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: (فادْعُ) أمْرٌ بِمُخالَفَةِ اليَهُودِ؛ إذْ قالُوا: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ يَعْنُونَ التَّوْراةَ، ونَكْفُرُ بِبَعْضٍ يَعْنُونَ الإنْجِيلَ والقُرْآنَ، فَأُمِرَ الرَّسُولُ ﷺ والمُسْلِمُونَ بِالإيمانِ بِالكُتُبِ الثَّلاثَةِ المُوحى بِها مِنَ اللَّهِ كَما قالَ تَعالى: ﴿وتُؤْمِنُونَ بِالكِتابِ كُلِّهِ﴾ [آل عمران: ١١٩] . فالمَعْنى: وقُلْ لِمَن يُهِمُّهُ هَذا القَوْلُ وهُمُ اليَهُودُ. وإنَّما أُمِرَ بِأنْ يَقُولَ ذَلِكَ إعْلانًا بِهِ وإبْلاغًا لِأسْماعِ اليَهُودِ، فَلا يُقابِلُ إنْكارَهم حَقِّيَّةَ كِتابِهِ بِإنْكارِهِ حَقِّيَّةَ كِتابِهِمْ وفي هَذا إظْهارٌ لِما تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ دَعْوَتُهُ مِنَ الإنْصافِ.
و(مِن كِتابٍ) بَيانٌ لِما أنْزَلَ اللَّهُ، فالتَّنْكِيرُ في (كِتابٍ) لِلنَّوْعِيَّةِ، أيْ بِأيِّ كِتابٍ أنْزَلَهُ اللَّهُ ولَيْسَ يَوْمَئِذٍ كِتابٌ مَعْرُوفٌ غَيْرَ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ والقُرْآنِ.
وضَمِيرُ (بَيْنَكم) خِطابٌ لِلَّذِينِ أُمِرَ بِأنْ يُوَجِّهَ هَذا القَوْلَ إلَيْهِمْ وهُمُ اليَهُودُ، أيْ أُمِرْتُ أنْ أُقِيمَ بَيْنَكُمُ العَدْلَ بِأنْ أدْعُوَكم إلى الحَقِّ ولا أظْلِمَكم لِأجْلِ عَداواتِكم ولَكِنِّي أُنَفِّذُ أمْرَ اللَّهِ فِيكم ولا أنْتَمِي إلى اليَهُودِ ولا إلى النَّصارى.
ومَعْنى (بَيْنَكم) أنَّنِي أُقِيمُ العَدْلَ بَيْنَكم فَلا تَرَوْنَ بَيْنَكم جَوْرًا مِنِّي، فَـ (بَيْنَ) هُنا ظَرْفٌ مُتَّحِدٌ غَيْرُ مُوَزَّعٍ فَهو بِمَعْنى وسَطَ الجَمْعِ وخِلالَهُ، بِخِلافِ (بَيْنَ) في قَوْلِ القائِلِ: قَضى بَيْنَ الخَصْمَيْنِ أوْ قَسَّمَ المالَ بَيْنَ العُفاةِ. فَلَيْسَ المَعْنى: لِأعْدِلَ بَيْنَ فِرَقِكم؛ إذْ لا يَقْتَضِيهِ السِّياقُ.
وفِي هَذِهِ الآيَةِ مَعَ كَوْنِها نازِلَةً في مَكَّةَ في زَمَنِ ضَعْفِ المُسْلِمِينَ إعْجازٌ بِالغَيْبِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الرَّسُولَ ﷺ سَيَكُونُ لَهُ الحُكْمُ عَلى يَهُودِ بِلادِ العَرَبِ مِثْلِ أهْلِ خَيْبَرَ
صفحة ٦٣
٧٢ وتَيْماءَ وقُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ وبَنِي قَيْنُقاعَ، وقَدْ عَدَلَ فِيهِمْ وأقَرَّهم عَلى أمْرِهِمْ حَتّى ظاهَرُوا عَلَيْهِ الأحْزابَ كَما تَقَدَّمَ في سُورَةِ الأحْزابِ.واللّامُ في قَوْلِهِ (لِأعْدِلَ) لامٌ يَكْثُرُ وُقُوعُها بَعْدَ أفْعالِ مادَّتَيِ الأمْرِ والإرادَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكم، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْها. وبَعْضُهم يَجْعَلُها زائِدَةً.
وجُمْلَةُ اللَّهُ رَبُّنا ورَبُّكم مِنَ المَأْمُورِ بِأنْ يَقُولَهُ. فَهي كُلُّها جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ عَنْ جُمْلَةِ آمَنتُ بِما أنْزَلَ اللَّهُ مِن كِتابٍ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِها؛ لِأنَّ المَقْصُودَ مِن جُمْلَةِ اللَّهُ رَبُّنا ورَبُّكم بِحَذافِرِها هو قَوْلُهُ: لا ﴿حُجَّةَ بَيْنَنا وبَيْنَكُمُ﴾ فَهي مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ آمَنتُ بِما أنْزَلَ اللَّهُ مِن كِتابٍ، وإنَّما ابْتُدِئَتْ بِجُمْلَتَيِ اللَّهُ رَبُّنا ورَبُّكم لَنا أعْمالُنا ولَكم أعْمالُكم تَمْهِيدًا لِلْغَرَضِ المَقْصُودِ؛ وهو: لا حُجَّةَ بَيْنَنا وبَيْنَكم، فَلِذَلِكَ كانَتِ الجُمَلُ كُلُّها مَفْصُولَةً عَنْ جُمْلَةِ آمَنتُ بِما أنْزَلَ اللَّهُ مِن كِتابٍ وأُمِرْتُ لِأعْدِلَ بَيْنَكُمُ.
والمَقْصُودُ مِن قَوْلِهِ: اللَّهُ رَبُّنا ورَبُّكم أنَّنا مُتَّفِقُونَ عَلى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعالى كَقَوْلِهِ تَعالى: قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكم أنْ لا نَعْبُدَ إلّا اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا الآيَةَ، أيْ فاللَّهُ الشَّهِيدُ عَلَيْنا وعَلَيْكم إذْ كَذَّبْتُمْ كِتابًا أُنْزِلَ مِن عِنْدِهِ، فالخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ في التَّسْجِيلِ والإلْزامِ.
وجُمْلَةُ لَنا أعْمالُنا ولَكم أعْمالُكم دَعْوَةُ إنْصافٍ، أيْ أنَّ اللَّهَ يُجازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ. وهَذا خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ في التَّهْدِيدِ والتَّنْبِيهِ عَلى الخَطَأِ.
وجُمْلَةُ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وبَيْنَكُمُ هي الغَرَضُ المَقْصُودُ بَعْدَ قَوْلِهِ: وأُمِرْتُ لِأعْدِلَ بَيْنَكم أيْ أعْدِلَ بَيْنَكم ولا أُخاصِمَكم عَلى إنْكارِكم صِدْقِي.
والحُجَّةُ: الدَّلِيلُ الَّذِي يَدُلُّ المَسُوقَ إلَيْهِ عَلى صِدْقِ دَعْوى القائِمِ بِهِ وإنَّما تَكُونُ الحُجَّةُ بَيْنَ مُخْتَلِفِينَ في دَعْوى. ونَفْيُ الحُجَّةِ نَفْيُ جِنْسٍ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ كِنايَةً عَنْ نَفْيِ المُجادَلَةِ الَّتِي مِن شَأْنِها وُقُوعُ الِاحْتِجاجِ كِنايَةً عَنْ عَدَمِ التَّصَدِّي لِخُصُومَتِهِمْ فَيَكُونَ المَعْنى الإمْساكَ عَنْ مُجادَلَتِهِمْ لِأنَّ الحَقَّ ظَهَرَ وهم مُكابِرُونَ فِيهِ وهَذا تَعْرِيضٌ بِأنَّ الجِدالَ مَعَهم لَيْسَ بِذِي جَدْوى.
صفحة ٦٤
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَنفِيُّ جِنْسَ الحُجَّةِ المُفِيدَةِ، بِمَعُونَةِ القَرِينَةِ مِثْلَ: «لا صَلاةَ لِمَن لَمْ يَقْرَأْ بِفاتِحَةِ الكِتابِ» . والمَعْنى: أنَّ الِاسْتِمْرارَ عَلى الِاحْتِجاجِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ما أظْهَرَ لَهم مِنَ الأدِلَّةِ يَكُونُ مِنَ العَبَثِ، وهَذا تَعْرِيضٌ بِأنَّهم مُكابِرُونَ.وأيًّا ما كانَ فَلَيْسَ هَذا النَّفْيُ مُسْتَعْمَلًا في النَّهْيِ عَنِ التَّصَدِّي لِلِاحْتِجاجِ عَلَيْهِمْ فَقَدْ حاجَّهُمُ القُرْآنُ في آياتٍ كَثِيرَةٍ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ وحاجَّهُمُ النَّبِيءُ ﷺ في قَضِيَّةِ الرَّجْمِ وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ولا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ إلّا بِالَّتِي هي أحْسَنُ فالِاسْتِثْناءُ صَرِيحٌ في مَشْرُوعِيَّةِ مُجادَلَتِهِمْ.
و(بَيْنَ) المُكَرَّرَةُ في قَوْلِهِ: بَيْنَنا وبَيْنَكم ظَرْفٌ مُوَزَّعٌ عَلى جَماعاتِ أوْ أفْرادِ ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ المُشارِكِ. وضَمِيرِ المُخاطَبِينَ، كَما يُقالُ: قَسَّمَ بَيْنَهم، وهَذا مُخالَفٌ بِـ (بَيْنَ) المُتَقَدِّمِ آنِفًا.
والمُرادُ بِالجَمْعِ في قَوْلِهِ: اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا الحَشْرُ لِفَصْلِ القَضاءِ، فَيَوْمَئِذٍ يَتَبَيَّنُ المُحِقُّ مِنَ المُبْطِلِ، وهَذا كَلامٌ مُنْصِفٌ. ولَمّا كانَ مِثْلُ هَذا الكَلامِ لا يَصْدُرُ إلّا مِنَ الواثِقِ بِحَقِّهِ كانَ خِطابُهم بِهِ مُسْتَعْمَلًا في المُتارَكَةِ والمُحاجَزَةِ، أيْ سَأتْرُكُ جِدالَكم ومُحاجَّتَكم لِقِلَّةِ جَدْواها فِيكم وأُفَوِّضُ أمْرِي إلى اللَّهِ يَقْضِي بَيْنَنا يَوْمَ يَجْمَعُنا، فَهَذا تَعْرِيضٌ بِأنَّ القَضاءَ سَيَكُونُ لَهُ عَلَيْهِمْ.
وتَقْدِيمُ المُسْنَدِ إلَيْهِ عَلى الخَبَرِ الفِعْلِيِّ في قَوْلِهِ: اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا لِلتَّقَوِّي، أيْ تَحْقِيقِ وُقُوعِ هَذا الجَمْعِ وإلّا فَإنَّ المُخاطَبِينَ وهُمُ اليَهُودُ يُثْبِتُونَ البَعْثَ. و(بَيْنَ) هُنا ظَرْفٌ مُوَزَّعٌ مِثْلَ الَّذِي في قَوْلِهِ: لا حُجَّةَ بَيْنَنا وبَيْنَكُمُ.
وجُمْلَةُ وإلَيْهِ المَصِيرُ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ يَجْمَعُ بَيْنَنا. والتَّعْرِيفُ في المَصِيرِ لِلِاسْتِغْراقِ، أيْ مَصِيرُ النّاسِ كُلِّهِمْ، فَبِذَلِكَ كانَتِ الجُمْلَةُ تَذْيِيلًا بِما فِيها مِنَ العُمُومِ، أيْ مَصِيرُنا ومَصِيرُكم ومَصِيرُ الخَلْقِ كُلِّهِمْ.
وهَذِهِ الجُمَلُ الأرْبَعُ تَقْتَضِي المُحاجَزَةَ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وبَيْنَ اليَهُودِ وهي مُحاجَزَةٌ في المُقاوَلَةِ ومُتارَكَةٌ في المُقاتَلَةِ في ذَلِكَ الوَقْتِ حَتّى أذِنَ اللَّهُ في قِتالِهِمْ لَمّا ظاهَرُوا الأحْزابَ.
صفحة ٦٥
ولَيْسَ في صِيَغِ هَذِهِ الجُمَلِ ما يَقْتَضِي دَوامَ المُتارَكَةِ؛ إذْ لَيْسَ فِيها ما يَقْتَضِي عُمُومَ الأزْمِنَةِ فَلَيْسَ الأمْرُ بِقِتالِ بَعْضِهِمْ بَعْدَ يَوْمِ الأحْزابِ ناسِخًا لِهَذِهِ الآيَةِ.