﴿وما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ بِما كَسَبَتْ أيْدِيكم ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾

لَمّا تَضَمَّنَتِ المِنَّةُ بِإنْزالِ الغَيْثِ بَعْدَ القُنُوطِ أنَّ القَوْمَ أصابَهم جُهْدٌ مِنَ القَحْطِ بَلَغَ بِهِمْ مَبْلَغَ القُنُوطِ مِنَ الغَيْثِ أعْقَبَتْ ذَلِكَ بِتَنْبِيهِهِمْ إلى أنَّ ما أصابَهم مِن ذَلِكَ البُؤْسِ هو جَزاءٌ عَلى ما اقْتَرَفُوهُ مِنَ الشِّرْكِ تَنْبِيهًا يَبْعَثُهم ويَبْعَثُ الأُمَّةَ عَلى أنْ

صفحة ٩٩

يُلاحِظُوا أحْوالَهم نَحْوَ امْتِثالِ رِضا خالِقِهِمْ ومُحاسِبَةِ أنْفُسِهِمْ حَتّى لا يَحْسَبُوا أنَّ الجَزاءَ الَّذِي أُوعِدُوا بِهِ مَقْصُورٌ عَلى الجَزاءِ في الآخِرَةِ بَلْ يَعْلَمُوا أنَّهُ قَدْ يُصِيبُهُمُ اللَّهُ بِما هو جَزاءٌ لَهم في الدُّنْيا، ولَمّا كانَ ما أصابَ قُرَيْشًا مِنَ القَحْطِ والجُوعِ اسْتِجابَةً لِدَعْوَةِ النَّبِيءِ ﷺ عَلَيْهِمْ كَما تَقَدَّمَ، وكانَتْ تِلْكَ الدَّعْوَةُ ناشِئَةً عَلى ما لا قُوَّةَ بِهِ مِنَ الأذى - لا جَرَمَ كانَ ما أصابَهم مُسَبَّبًا عَلى ما كَسَبَتْ أيْدِيهِمْ.

فالجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿وهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِن بَعْدِ ما قَنَطُوا﴾ [الشورى: ٢٨]، وأُطْلِقَ كَسْبُ الأيْدِي عَلى الأفْعالِ والأقْوالِ المُنْكَرَةِ عَلى وجْهِ المَجازِ بِعَلاقَةِ الإطْلاقِ، أيْ بِما صَدَرَ مِنكم مِن أقْوالِ الشِّرْكِ ولِأذى لِلنَّبِيءِ ﷺ وفِعْلِ المُنْكَراتِ النّاشِئَةِ عَنْ دِينِ الشِّرْكِ.

والخِطابُ لِلْمُشْرِكِينَ ابْتِداءٌ؛ لِأنَّهُمُ المَقْصُودُ مِن سِياقِ الآياتِ كُلِّها وهم أوْلى بِهَذِهِ المَوْعِظَةِ لِأنَّهم كانُوا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِوَعِيدِ الآخِرَةِ ويَشْمَلُ المُؤْمِنِينَ بِطَرِيقِ القِياسِ وبِما دَلَّ عَلى شُمُولِ هَذا الحُكْمِ لَهم مِنَ الأخْبارِ الصَّحِيحَةِ ومِن آياتٍ أُخْرى.

والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أيْ سَبَبُ ما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ هو أعْمالُكم. وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ وأبُو جَعْفَرٍ ﴿بِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ﴾ عَلى أنَّ (ما) مَوْصُولَةٌ وهي مُبْتَدَأٌ. و﴿بِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ﴾ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هو خَبَرُ المُبْتَدَأِ. وكَذَلِكَ كُتِبَتْ في مُصْحَفِ المَدِينَةِ ومُصْحَفِ الشّامِ وقَرَأ الباقُونَ (﴿فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ﴾) بِفاءٍ قَبْلَ الباءِ وكَذَلِكَ كُتِبَتْ في مُصْحَفِ البَصْرَةِ ومُصْحَفِ الكُوفَةِ، عَلى أنَّ (ما) مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنى الشَّرْطِ فاقْتَرَنَ خَبَرُها بِالفاءِ لِذَلِكَ، أوْ هي شَرْطِيَّةٌ والفاءُ رابِطَةٌ لِجَوابِ الشَّرْطِ. ويَكُونُ وُقُوعُ فِعْلِ الشَّرْطِ ماضِيًا لِلدَّلالَةِ عَلى التَّحَقُّقِ.

و(مِن) بَيانِيَّةٌ عَلى القِراءَتَيْنِ لِما في المَوْصُولِ واسْمِ الشَّرْطِ مِنَ الإبْهامِ.

والمُصِيبَةُ: اسْمٌ لِلْحادِثَةِ الَّتِي تُصِيبُ بِضُرٍّ ومَكْرُوهٍ، وقَدْ لَزِمَتْها هاءُ التَّأْنِيثِ لِلدَّلالَةِ عَلى الحادِثَةِ فَلِذَلِكَ تُنُوسِيَتْ مِنها الوَصْفِيَّةُ وصارَتِ اسْمًا لِلْحادِثَةِ المَكْرُوهَةِ.

فَقِراءَةُ الجُمْهُورِ تُعَيِّنُ مَعْنى عُمُومِ التَّسَبُّبِ لِأفْعالِهِمْ فِيما يُصِيبُهم مِنَ المَصائِبِ لِأنَّ (ما) في هَذِهِ القِراءَةِ إمّا شَرْطِيَّةٌ والشَّرْطُ دالٌّ عَلى التَّسَبُّبِ وإمّا مَوْصُولَةٌ مُشَبَّهَةٌ بِالشَّرْطِيَّةِ، فالمَوْصُولِيَّةُ تُفِيدُ الإيماءَ إلى عِلَّةِ الخَبَرِ، وتَشْبِيهُها بِالشَّرْطِيَّةِ يُفِيدُ التَّسَبُّبَ.

صفحة ١٠٠

وقِراءَةُ نافِعٍ وابْنُ عامِرٍ لا تُعَيِّنُ التَّسَبُّبَ بَلْ تُجَوِّزُهُ لِأنَّ المَوْصُولَ قَدْ يُرادُ بِهِ واحِدٌ مُعَيَّنٌ بِالوَصْفِ بِالصِّلَةِ، فَتُحَمَلُ عَلى العُمُومِ بِالقَرِينَةِ وبِتَأْيِيدِ القِراءَةِ الأُخْرى لِأنَّ الأصْلَ في اخْتِلافِ القِراءاتِ الصَّحِيحَةِ اتِّحادُ المَعانِي.

وكِلْتا القِراءَتَيْنِ سَواءٌ في احْتِمالِ أنْ يَكُونَ المَقْصُودُ بِالخِطابِ فَرِيقًا مُعَيَّنًا وأنْ يَكُونَ المَقْصُودُ بِهِ جَمِيعَ النّاسِ، وكَذَلِكَ في أنْ يَكُونَ المُرادُ مَصائِبَ مُعَيَّنَةً حَصَلَتْ في الماضِي، وأنْ يُرادَ جَمِيعُ المَصائِبِ الَّتِي حَصَلَتْ والَّتِي تَحْصُلُ.

ومَعْنى الآيَةِ عَلى كِلا التَّقْدِيرَيْنِ يُفِيدُ: أنَّ مِمّا يُصِيبُ النّاسَ مِن مَصائِبِ الدُّنْيا ما هو جَزاءٌ لَهم عَلى أعْمالِهِمُ الَّتِي لا يَرْضاها اللَّهُ تَعالى كَمَثَلِ المُصِيبَةِ أوِ المَصائِبِ الَّتِي أصابَتِ المُشْرِكِينَ لِأجْلِ تَكْذِيبِهِمْ وأذاهم لِلرَّسُولِ ﷺ .

ثُمَّ إنْ كانَتْ (ما) شَرْطِيَّةً كانَتْ دَلالَتُها عَلى عُمُومِ مَفْهُومِها المُبَيَّنِ بِحَرْفِ (مِن) البَيانِيَّةِ أظْهَرَ؛ لِأنَّ شَرْطَها الماضِيَ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى المُسْتَقْبَلِ كَما هو كَثِيرٌ في الشُّرُوطِ المَصُوغَةِ بِفِعْلِ المُضِيِّ، والتَّعْلِيقَ الشَّرْطِيَّ يُمَحِّضُها لِلْمُسْتَقْبَلِ، وإنْ كانَتْ (ما) مَوْصُولَةً كانَتْ دَلالَتُها مُحْتَمِلَةً لِلْعُمُومِ ولِلْخُصُوصِ لِأنَّ المَوْصُولَ يَكُونُ لِلْعَهْدِ ويَكُونُ لِلْجِنْسِ.

وأيًّا ما كانَ فَهو دالٌّ عَلى أنَّ مِنَ المَصائِبِ الَّتِي تُصِيبُ النّاسَ في الدُّنْيا ما سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ جَزاءً عَلى سُوءِ أعْمالِهِمْ وإذا كانَ ذَلِكَ ثابِتًا بِالنِّسْبَةِ لِأُناسٍ مُعَيَّنِينَ كانَ فِيهِ نِذارَةٌ وتَحْذِيرٌ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَفْعَلُ مِن جِنْسِ أفْعالِهِمْ أنْ تَحِلَّ بِهِمْ مَصائِبُ في الدُّنْيا جَزاءً عَلى أعْمالِهِمْ زِيادَةً في التَّنْكِيلِ بِهِمْ إلّا أنَّ هَذا الجَزاءَ لا يَطَّرِدُ فَقَدْ يُجازِي اللَّهُ قُومًا عَلى أعْمالِهِمْ جَزاءً في الدُّنْيا مَعَ جَزاءِ الآخِرَةِ، وقَدْ يَتْرُكُ قَوْمًا إلى جَزاءِ الآخِرَةِ، فَجَزاءُ الآخِرَةِ في الخَيْرِ والشَّرِّ هو المُطَّرِدُ المَوْعُودُ بِهِ، والجَزاءُ في الدُّنْيا قَدْ يَحْصُلُ وقَدْ لا يَحْصُلُ كَما قالَ تَعالى: ﴿ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ كَما سَنُبَيِّنُهُ.

وهَذا المَعْنى قَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ في آياتٍ وأحادِيثَ كَثِيرَةٍ بِوَجْهِ الكُلِّيَّةِ وبِوَجْهِ الجُزْئِيَّةِ، فَمِمّا جاءَ بِطَرِيقِ الكُلِّيَّةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأمّا الإنْسانُ إذا ما ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ﴾ [الفجر: ١٥] ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أكْرَمْنَ﴾ [الفجر: ١٦] ﴿وأمّا إذا ما ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ [الفجر: ١٦] ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أهانَنِ﴾ [الفجر: ١٦] ﴿كَلّا بَل لا تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ﴾ [الفجر: ١٧] ﴿ولا تَحاضُّونَ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ﴾ [الفجر: ١٨] ﴿وتَأْكُلُونَ التُّراثَ أكْلًا لَمّا﴾ [الفجر: ١٩] الآيَةَ،

صفحة ١٠١

فَقَوْلُهُ: ﴿بَل لا تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ﴾ [الفجر: ١٧] مُرَتَّبٌ عَلى قَوْلِهِ (كَلّا) المُرَتَّبِ عَلى قَوْلِهِ: ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أكْرَمَنِي﴾ [الفجر: ١٥] وقَوْلِهِ: ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أهانَنِي﴾ [الفجر: ١٦]، فَدَلَّ عَلى أنَّ الكَرامَةَ والإهانَةَ إنَّما تَسَبَّبا عَلى عَدَمِ إكْرامِ اليَتِيمِ والحَضِّ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ، وقالَ تَعالى: ﴿ظَهَرَ الفَسادُ في البَرِّ والبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: ٤١] .

وفِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ «لا تُصِيبُ عَبْدًا نَكْبَةٌ فَما فَوْقَها أوْ دُونَها إلّا بِذَنْبٍ وما يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أكْثَرُ» . وهو يَنْظُرُ إلى تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ، وأمّا جاءَ عَلى وجْهِ الجُزْئِيَّةِ فَمِنهُ قَوْلُهُ تَعالى حِكايَةً عَنْ نُوحٍ ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم إنَّهُ كانَ غَفّارًا﴾ [نوح: ١٠] ﴿يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكم مِدْرارًا﴾ [نوح: ١١] ﴿ويُمْدِدْكم بِأمْوالٍ وبَنِينَ﴾ [نوح: ١٢] ﴿ويَجْعَلْ لَكم جَنّاتٍ ويَجْعَلْ لَكم أنْهارًا﴾ [نوح: ١٢] وقَوْلُهُ حِكايَةً عَنْهُ ﴿أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واتَّقُوهُ وأطِيعُونِ﴾ [نوح: ٣] ﴿يَغْفِرْ لَكم مِن ذُنُوبِكم ويُؤَخِّرْكم إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ [نوح: ٤] في سُورَةِ نُوحٍ. وقَوْلُهُ خِطابًا لِبَنِي إسْرائِيلَ ﴿فَما جَزاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكم إلّا خِزْيٌ في الحَياةِ الدُّنْيا﴾ [البقرة: ٨٥] الآيَةَ في سُورَةِ البَقَرَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ سَيَنالُهم غَضَبٌ مِن رَبِّهِمْ وذِلَّةٌ في الحَياةِ الدُّنْيا وكَذَلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ﴾ [الأعراف: ١٥٢] وقالَ حِكايَةً عَنْ مُوسى ﴿أتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا﴾ [الأعراف: ١٥٥] ﴿وإذْ تَأذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ مَن يَسُومُهم سُوءَ العَذابِ إنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العِقابِ﴾ [الأعراف: ١٦٧] في الأعْرافِ، وقالَ في فِرْعَوْنَ ﴿فَأخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الآخِرَةِ والأُولى﴾ [النازعات: ٢٥]، وقالَ في المُنافِقِينَ ﴿أوَلا يَرَوْنَ أنَّهم يُفْتَنُونَ في كُلِّ عامٍ مَرَّةً أوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ ولا هم يَذَّكَّرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٦] في ”بَراءَةٌ“ .

وفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ قالَ النَّبِيءُ: «نَقْلُ الأقْدامِ إلى الجَماعاتِ، وإسْباغُ الوُضُوءِ في المَكْرُوهاتِ، وانْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، مَن يُحافِظُ عَلَيْهِنَّ عاشَ بِخَيْرٍ وماتَ بِخَيْرٍ»، وفي بابِ العُقُوباتِ مِن آخَرِ سُنَنِ ابْنِ ماجَهْ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ: «وإنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» .

وفِي البُخارِيِّ «قالَ خَبّابُ بْنُ الأرَتِّ إنّا آمَنّا بِاللَّهِ وجاهَدْنا في سَبِيلِهِ فَوَجَبَ أجْرُنا عَلى اللَّهِ فَمِنّا مَن ذَهَبَ لَمْ يَأْخُذْ مِن أجْرِهِ شَيْئًا مِنهم مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، ماتَ وما تَرَكَ إلّا. . . كُنّا إذا غَطَّيْنا بِها رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلاهُ وإذا غَطَّيْنا رِجْلَيْهِ بَدا رَأْسُهُ فَأمَرَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ نُغَطِّيَ بِها رَأْسَهُ ونَضَعَ عَلى رِجْلَيْهِ مِنَ الإذْخِرِ

صفحة ١٠٢

ومِنهم مَن عُجِّلَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهو يُهَدِّبُها» .

وإذا كانَتِ المُصِيبَةُ في الدُّنْيا تَكُونُ جَزاءً عَلى فِعْلِ الشَّرِّ فَكَذَلِكَ خَيْراتُ الدُّنْيا قَدْ تَكُونُ جَزاءً عَلى فِعْلِ الخَيْرِ قالَ تَعالى: ﴿ألا إنَّ أوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ [يونس: ٦٢] ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس: ٦٣] ﴿لَهُمُ البُشْرى في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ﴾ [يونس: ٦٤]، وقالَ حِكايَةً عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ ﴿قالُوا تاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وإنْ كُنّا لَخاطِئِينَ﴾ [يوسف: ٩١] أيْ مُذْنِبِينَ، أيْ وأنْتَ لَمْ تَكُنْ خاطِئًا، وقالَ: ﴿فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وحُسْنَ ثَوابِ الآخِرَةِ﴾ [آل عمران: ١٤٨] في آلِ عِمْرانَ وقالَ: ﴿وكانَ أبُوهُما صالِحًا فَأرادَ رَبُّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدَّهُما ويَسْتَخْرِجا كَنْزَهُما رَحْمَةً مِن رَبِّكَ﴾ [الكهف: ٨٢] في سُورَةِ الكَهْفِ، وقالَ: ﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكم وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهم في الأرْضِ كَما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ [النور: ٥٥] إلى قَوْلِهِ: ﴿ولَيُبَدِّلَنَّهم مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمْنًا﴾ [النور: ٥٥] في سُورَةِ النُّورِ.

وهَذا كُلُّهُ لا يَنْقُضُ الجَزاءَ في الآخِرَةِ، فَمَن أنْكَرُوا ذَلِكَ وقالُوا: إنَّ الجَزاءَ إنَّما يَحْصُلُ يَوْمَ القِيامَةِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤] أيْ يَوْمِ الجَزاءِ وإنَّما الدُّنْيا دارُ تَكْلِيفٍ والآخِرَةُ دارُ الجَزاءِ - فالجَوابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: هو أنَّهُ لَيْسَ كَوْنُ ما يُصِيبُ مِنَ الشَّرِّ والخَيْرِ في الدُّنْيا جَزاءً عَلى عَمَلٍ بِمُطَّرِدٍ، ولا مُتَعَيِّنٍ لَهُ فَإنَّ لِذَلِكَ أسْبابًا كَثِيرَةً وتَدْفَعُهُ أوْ تَدْفَعُ بَعْضًا مِنهُ جَوابِرُ كَثِيرَةٌ واللَّهُ يُقَدِّرُ ذَلِكَ اسْتِحْقاقًا ودَفْعًا ولَكِنَّهُ مِمّا يَزِيدُهُ اللَّهُ بِهِ الجَزاءَ إنْ شاءَ.

وقَدْ تُصِيبُ الصّالِحِينَ نَكَباتٌ ومَصائِبُ وآلامٌ فَتَكُونُ بَلْوى وزِيادَةً في الأجْرِ ولِما لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ، وقَدْ تُصِيبُ المُسْرِفِينَ خَيْراتٌ ونِعَمٌ إمْهالًا واسْتِدْراجًا ولِأسْبابٍ غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا لا يُحْصِيهِ إلّا اللَّهُ وهو أعْلَمُ بِخَفايا خَلْقِهِ ونَواياهم ومَقادِيرِ أعْمالِهِمْ مِن حَسَناتٍ وسَيِّئاتٍ، واسْتِعْدادِ نُفُوسِهِمْ وعُقُولِهِمْ لِمُخْتَلِفِ مَصادِرِ الخَيْرِ والشَّرِّ؛ قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأسْمَعَهم ولَوْ أسْمَعَهم لَتَوَلَّوْا وهم مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: ٢٣] .

ومِمّا اخْتَبَطَ فِيهِ ضُعَفاءُ المَعْرِفَةِ وقُصّارُ الأنْظارِ أنْ زَعَمَ أهْلُ القَوْلِ بِالتَّناسُخِ أنَّ هَذِهِ المَصائِبَ الَّتِي لا نَرى لَها أسْبابًا والخَيْراتِ الَّتِي تَظْهَرُ في مُواطِنَ تَحُفُّ بِها مُقْتَضَياتُ الشُّرُورِ إنَّما هي بِسَبَبِ جَزاءِ الأرْواحِ المُودَعَةِ في الأجْسامِ الَّتِي نُشاهِدُها

صفحة ١٠٣

عَلى ما كانَتْ أصابَتْهُ مِن مُقْتَضَياتِ الأحْوالِ الَّتِي عَرَضَتْ لَها في مَرْآِنا قَبْلَ أنْ تُوضَعَ في هَذِهِ الأجْسادِ الَّتِي نَراها. وقَدْ عَمُوا عَمّا يَرُدُّ عَلى هَذا الزَّعْمِ مِن سُؤالٍ عَنْ سَبَبِ إيداعِ الأرْواحِ الشِّرِّيرَةِ في الأجْسادِ المُيَسَّرَةِ لِلصّالِحاتِ والعَكْسِ، فَبِئْسَ ما يَفْتَرُونَ !

فَقَوْلُهُ: ﴿ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [المائدة: ١٥] عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿وما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ بِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ﴾، وضَمِيرُ يَعْفُو عائِدٌ إلى ما عادَ إلَيْهِ ضَمِيرُ ﴿ومِن آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ﴾ [الشورى: ٢٩] . وهَذا يُشِيرُ إلى ما يَتَراءى لَنا مِن تَخَلُّفِ إصابَةِ المُصِيبَةِ عَنْ بَعْضِ الَّذِينَ كَسَبَتْ أيْدِيهِمْ جَرائِمَ، ومِن ضِدِّ ذَلِكَ مِمّا تُصِيبُ المَصائِبُ بَعْضَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ، وهو إجْمالٌ يُبَيِّنُهُ عَلى الجُمْلَةِ أنَّ ما يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِن أحْوالِ عِبادَهِ وما تَغَلَّبَ مِن حَسَناتِهِمْ عَلى سَيِّئاتِهِمْ، وما تَقْتَضِيهِ حِكْمَةُ اللَّهِ مِن إمْهالِ بَعْضِ عِبادِهِ أوْ مِنِ ابْتِلاءِ بَعْضِ المُقَرَّبِينَ، وتِلْكَ مَراتِبُ كَثِيرَةٌ وأحْوالٌ مُخْتَلِفَةٌ تَتَعارَضُ وتَتَساقَطُ والمُوَفَّقُ يَبْحَثُ عَنِ الأسْبابِ فَإنْ أعْجَزَتْهُ فَوَّضَ العِلْمَ إلى اللَّهِ.

والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى يَعْفُو، أيْ يَصْفَحُ فَلا يُصِيبُ كَثِيرًا مِن عِبادِهِ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا جَزاءَ السُّوءِ بِعُقُوباتٍ دُنْيَوِيَّةٍ لِأنَّهُ يَعْلَمُ أنَّ ذَلِكَ ألْيَقُ بِهِمْ. فالمُرادُ هُنا: العَفْوُ عَنِ المُؤاخَذَةِ في الدُّنْيا ولا عَلاقَةَ لَها بِجَزاءِ الآخِرَةِ فَإنَّ فِيهِ أدِلَّةً أُخْرى مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ.

وكَثِيرٍ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أيْ عَنْ خَلْقٍ أوْ ناسٍ.