Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
صفحة ١٦٥
﴿وكَمْ أرْسَلْنا مِن نَبِيءٍ في الأوَّلِينَ﴾ ﴿وما يَأْتِيهِمْ مِن نَبِيءٍ إلّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ﴾ ﴿فَأهْلَكْنا أشَدَّ مِنهم بَطْشًا ومَضى مَثَلُ الأوَّلِينَ﴾لَمّا ذَكَرَ إسْرافَهم في الإعْراضِ عَنِ الإصْغاءِ لِدَعْوَةِ القُرْآنِ وأعْقَبَهُ بِكَلامٍ مُوَجَّهٍ إلى الرَّسُولِ ﷺ تَسْلِيَةً عَمّا يُلاقِيهِ مِنهم، في خِلالِ الإعْراضِ مِنَ الأذى والِاسْتِهْزاءِ، بِتَذْكِيرِهِ بِأنَّ حالَهُ في ذَلِكَ حالُ الرُّسُلِ مِن قَبْلِهِ وسُنَّةِ اللَّهِ في الأُمَمِ، ووَعْدٍ لِلرَّسُولِ ﷺ بِالنَّصْرِ عَلى قَوْمِهِ بِتَذْكِيرِهِ بِسُنَّةِ اللَّهِ في الأُمَمِ المُكَذِّبَةِ رُسُلَهم.
وجُعِلَ لِلتَّسْلِيَةِ المَقامُ الأوَّلُ مِن هَذا الكَلامِ بِقَرِينَةِ العَدْلِ عَنْ ضَمِيرِ الخِطابِ إلى ضَمِيرِ الغَيْبَةِ في قَوْلِهِ: ﴿فَأهْلَكْنا أشَدَّ مِنهُمْ﴾ كَما سَيَأْتِي، ويَتَضَمَّنُ ذَلِكَ تَعْرِيضًا بِزَجْرِهِمْ عَنْ إسْرافِهِمْ في الإعْراضِ عَنِ النَّظَرِ في القُرْآنِ.
فَجُمْلَةُ ﴿وكَمْ أرْسَلْنا مِن نَبِيٍّ﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿إنّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الزخرف: ٣] وما بَعْدَها إلى هُنا عَطْفَ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ.
و(كَمْ) اسْمٌ دالٌّ عَلى عَدَدٍ كَثِيرٍ مُبْهَمٍ، ومُوقِعُ (كَمْ) نَصْبٌ بِالمَفْعُولِيَّةِ لِـ (أرْسَلْنا) وهو مُلْتَزَمٌ تَقْدِيمُهُ لِأنَّ أصْلَهُ اسْمُ اسْتِفْهامٍ فَنُقِلَ مِن الِاسْتِفْهامِ إلى الإخْبارِ عَلى سَبِيلِ الكِنايَةِ.
وشاعَ اسْتِعْمالُهُ في ذَلِكَ حَتّى صارَ الإخْبارُ بِالكَثْرَةِ مَعْنًى مِن مَعانِي (كَمْ) . والدّاعِي إلى اجْتِلابِ اسْمِ العَدَدِ الكَثِيرِ أنَّ كَثْرَةَ وُقُوعِ هَذا الحُكْمِ أدْخَلُ في زَجْرِهِمْ عَنْ مِثْلِهِ وأدْخَلُ في تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ ﷺ وتَحْصِيلِ صَبْرِهِ، لِأنَّ كَثْرَةَ وُقُوعِهِ تُؤْذِنُ بِأنَّهُ سُنَّةٌ لا تَتَخَلَّفُ، وذَلِكَ أزْجَرُ وأسْلى.
و(الأوَّلِينَ) جَمْعُ الأوَّلِ، وهو هُنا مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنى الماضِينَ السّابِقِينَ؛ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهم أكْثَرُ الأوَّلِينَ﴾ [الصافات: ٧١] فَإنَّ الَّذِينَ أُهْلِكُوا قَدِ انْقَرَضُوا بِقَطْعِ النَّظَرِ عَمَّنْ عَسى أنْ يَكُونَ خَلَفَهم مِنَ الأُمَمِ.
والِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ اسْتِثْناءٌ مِن أحْوالٍ، أيْ ما يَأْتِيهِمْ
صفحة ١٦٦
نَبِيءٌ في حالٍ مِن أحْوالِهِمْ إلّا يُقارِنُ اسْتِهْزاؤُهم إتْيانَ ذَلِكَ النَّبِيءِ إلَيْهِمْ.وجُمْلَةُ ﴿وما يَأْتِيهِمْ مِن نَبِيٍّ إلّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الأوَّلِينَ، وهَذا الحالُ هو المَقْصُودُ مِنَ الإخْبارِ.
وجُمْلَةُ ﴿فَأهْلَكْنا أشَدَّ مِنهم بَطْشًا﴾ تَفْرِيعٌ وتَسَبُّبٌ عَنْ جُمْلَةِ ﴿وكَمْ أرْسَلْنا مِن نَبِيٍّ في الأوَّلِينَ﴾ .
وضَمِيرُ (أشَدَّ مِنهم) عائِدٌ إلى (قَوْمٍ مُسْرِفِينَ) الَّذِينَ تَقَدَّمَ خِطابُهم فَعَدَلَ عَنِ اسْتِرْسالِ خِطابِهِمْ إلى تَوْجِيهِهِ إلى الرَّسُولِ ﷺ لِأنَّ الغَرَضَ الأهَمَّ مِن هَذا الكَلامِ هو تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ ووَعْدُهُ بِالنَّصْرِ. ويَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ التَّعْرِيضُ بِالَّذِينِ كَذَّبُوهُ فَإنَّهم يَبْلُغُهم هَذا الكَلامُ كَما تَقَدَّمَ.
ويَظْهَرُ أنَّ تَغْيِيرَ أُسْلُوبِ الإضْمارِ تَبَعًا لِتَغْيِيرِ المُواجَهَةِ بِالكَلامِ لا يُنافِي اعْتِبارَ الِالتِفاتِ في الضَّمِيرِ لِأنَّ مَناطَ الِالتِفاتِ هو اتِّحادُ مَرْجِعِ الضَّمِيرَيْنِ مَعَ تَأتِّي الِاقْتِصارِ عَلى طَرِيقَةِ الإضْمارِ الأُولى، وهَلْ تَغْيِيرُ تَوْجِيهِ الكَلامِ إلّا تَقْوِيَةٌ لِمُقْتَضى نَقْلِ الإضْمارِ، ولا تَفُوتُ النُّكْتَةُ الَّتِي تَحْصُلُ مِن الِالتِفاتِ وهي تَجْدِيدُ نَشاطِ السّامِعِ بَلْ تَزْدادُ قُوَّةً بِازْدِيادِ مُقْتَضَياتِها.
وكَلامُ الكَشّافِ ظاهِرٌ في أنَّ نَقْلَ الضَّمِيرِ هُنا التِفاتٌ وعَلى ذَلِكَ قَرَّرَهُ شارِحُوهُ، ولَكِنَّ العَلّامَةَ التَّفْتَزانِيَّ قالَ ومِثْلُ هَذا لَيْسَ مِن الِالتِفاتِ في شَيْءٍ اهـ. ولَعَلَّهُ يَرى أنَّ اخْتِلافَ المُواجَهَةِ بِالكَلامِ الواقِعِ فِيهِ الضَّمِيرانِ طَرِيقَةٌ أُخْرى غَيْرُ طَرِيقَةِ الِالتِفاتِ، وكَلامُ الكَشّافِ فِيهِ احْتِمالٌ، وخُصُوصِيّاتُ البَلاغَةِ واسِعَةُ الأطْرافِ.
والَّذِينَ هم أشَدُّ بَطْشًا مِن كُفّارِ مَكَّةَ: هُمُ الَّذِينَ عَبَّرَ عَنْهم بِـ (الأوَّلِينَ) ووُصِفُوا بِأنَّهم يَسْتَهْزِئُونَ بِمَن يَأْتِيهِمْ مِن نَبِيٍّ.
وهَذا تَرْكِيبٌ بَدِيعٌ في الإيجازِ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَأهْلَكْنا أشَدَّ مِنهم بَطْشًا﴾ يَقْتَضِي كَلامًا مَطْوِيًّا تَقْدِيرُهُ: فَلا نَعْجِزُ عَنْ إهْلاكِ المُسْرِفِينَ وهم أقَلُّ بَطْشًا.
وهَذا في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكَأيِّنْ مِن قَرْيَةٍ هي أشَدُّ قُوَّةً مِن قَرْيَتِكَ الَّتِي أخْرَجَتْكَ أهْلَكْناهم فَلا ناصِرَ لَهُمْ﴾ [محمد: ١٣] .
صفحة ١٦٧
والبَطْشُ: الإضْرارُ القَوِيُّ.وانْتَصَبَ (بَطْشًا) عَلى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ الأشُدِّيَّةِ.
و(مَثَلُ الأوَّلِينَ) حالُهُمُ العَجِيبَةُ. ومَعْنى مَضى: انْقَرَضَ، أيْ ذَهَبُوا عَنْ بَكْرَةِ أبِيهِمْ، فَمُضِيِّ المَثَلِ كِنايَةٌ عَنِ اسْتِئْصالِهِمْ لِأنَّ مُضِيَّ الأحْوالِ يَكُونُ بِمُضِيِّ أصْحابِها، فَهو في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَقُطِعَ دابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [الأنعام: ٤٥] . وذِكْرُ الأوَّلِينَ إظْهارٌ في مَقامِ الإضْمارِ لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ (في الأوَّلِينَ) .
ووَجْهُ إظْهارِهِ أنْ يَكُونَ الإخْبارُ عَنْهم صَرِيحًا وجارِيًا مَجْرى المَثَلِ.