﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مِهادًا وجَعَلَ لَكم فِيها سُبُلًا لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾

هَذا كَلامٌ مُوَجَّهٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى، هو تَخَلُّصٌ مِن الِاسْتِدْلالِ عَلى تَفَرُّدِهِ بِالإلَهِيَّةِ بِأنَّهُ المُنْفَرِدُ بِخَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ إلى الِاسْتِدْلالِ بِأنَّهُ المُنْفَرِدُ بِإسْداءِ النِّعَمِ الَّتِي بِها قِوامُ أوَدِ حَياةِ النّاسِ. فالجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ، حُذِفَ مِنها المُبْتَدَأُ، والتَّقْدِيرُ: هو

صفحة ١٦٩

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مِهادًا. وهَذا الِاسْتِئْنافُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ [الزخرف: ٩] الآيَةَ وجُمْلَةِ ﴿وجَعَلُوا لَهُ مِن عِبادِهِ جُزْءًا﴾ [الزخرف: ١٥] الآيَةَ.

واسْمُ المَوْصُولِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هو الَّذِي جَعَلَ لَكم، وهو مِن حَذْفِ المُسْنَدِ إلَيْهِ الوارِدِ عَلى مُتابَعَةِ الِاسْتِعْمالِ في تَسْمِيَةِ السَّكّاكِيِّ حَيْثُ تَقَدَّمَ الحَدِيثُ عَنِ اللَّهِ تَعالى فِيما قَبْلَ هَذِهِ الجُمْلَةِ. واجْتِلابُ المَوْصُولِ لِلِاشْتِهارِ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ فَساوى الِاسْمَ العَلَمَ في الدَّلالَةِ.

وذُكِرَتْ صِلَتانِ فِيهِما دَلالَةٌ عَلى الِانْفِرادِ بِالقُدْرَةِ العَظِيمَةِ. وعَلى النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ، ولِذَلِكَ أُقْحِمَ لَفْظُ (لَكم) في المَوْضِعَيْنِ، ولَمْ يَقُلْ: الَّذِي جَعَلَ الأرْضَ مِهادًا وجَعَلَ فِيها سُبُلًا كَما في قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهادًا والجِبالَ أوْتادًا﴾ [النبإ: ٦] لِأنَّ ذَلِكَ مَقامُ الِاسْتِدْلالِ عَلى مُنْكِرِي البَعْثِ، فَسِيقَ لَهُمُ الِاسْتِدْلالُ بِإنْشاءِ المَخْلُوقاتِ العَظِيمَةِ الَّتِي لا تُعَدُّ إعادَةُ خَلْقِ الإنْسانِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْها شَيْئًا عَجِيبًا.

ولَمْ يُكَرِّرِ اسْمَ المَوْصُولِ في قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلَ لَكم فِيها سُبُلًا﴾ لِأنَّ الصِّلَتَيْنِ تَجْتَمِعانِ في الجامِعِ الخَيالِيِّ إذْ كِلْتاهُما مِن أحْوالِ الأرْضِ فَجَعْلُهُما كَجَعْلٍ واحِدٍ. وضَمائِرُ الخِطابِ الأحَدَ عَشَرَ الواقِعَةُ في الآياتِ الأرْبَعِ مِن قَوْلِهِ: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مِهادًا﴾ إلى قَوْلِهِ مُقْرِنِينَ لَيْسَتْ مِن قَبِيلِ الِالتِفاتِ بَلْ هي جارِيَةٌ عَلى مُقْتَضى الظّاهِرِ.

والمِهادُ: اسْمٌ لِشَيْءٍ يُمَهَّدُ؛ أيْ يُوَطَّأُ ويُسَهَّلُ لِما يَحِلُّ فِيهِ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿لَهم مِن جَهَنَّمَ مِهادٌ﴾ [الأعراف: ٤١] في سُورَةِ الأعْرافِ. ووَجْهُ الِامْتِنانِ أنَّهُ جَعَلَ ظاهِرَ الأرْضِ مُنْبَسِطًا وذَلِكَ الِانْبِساطُ لِنَفْعِ البَشَرِ السّاكِنِينَ عَلَيْها. وهَذا لا يُنافِي أنَّ جِسْمَ الأرْضِ كُرَوِيٌّ كَما هو ظاهِرٌ؛ لِأنَّ كُرَوِيَّتَها لَيْسَتْ مَنفَعَةً لِلنّاسِ.

وقَرَأ عاصِمٌ (مَهْدًا) بِدُونِ ألْفٍ بَعْدِ الهاءِ وهو مُرادٌ بِهِ المِهادُ.

والسُّبُلُ: جَمْعُ سَبِيلٍ، وهو الطَّرِيقُ، ويُطْلَقُ السَّبِيلُ عَلى وسِيلَةِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ: ﴿يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِن سَبِيلٍ﴾ [الشورى: ٤٤] . ويَصِحُّ إرادَةُ المَعْنَيَيْنِ هُنا؛ لِأنَّ في الأرْضِ طُرُقًا يُمْكِنُ سُلُوكُها، وهي السُّهُولُ وسُفُوحُ الجِبالِ وشِعابُها، أيْ لَمْ يَجْعَلِ الأرْضَ كُلَّها

صفحة ١٧٠

جِبالًا فَيَعْسُرَ عَلى الماشِينَ سُلُوكُها، بَلْ جَعَلَ فِيها سُبُلًا سَهْلَةً وجَعَلَ جِبالًا لِحِكْمَةٍ أُخْرى ولِأنَّ الأرْضَ صالِحَةٌ لِاتِّخاذِ طُرُقٍ مَطْرُوقَةٍ سابِلَةٍ.

ومَعْنى جَعْلِ اللَّهِ تِلْكَ الطُّرُقَ بِهَذا المَعْنى: أنَّهُ جَعَلَ لِلنّاسِ مَعْرِفَةَ السَّيْرِ في الأرْضِ واتِّباعَ بَعْضِهِمْ آثارَ بَعْضٍ حَتّى تَتَعَبَّدَ الطُّرُقُ لَهم وتَتَسَهَّلَ ويَعْلَمَ السّائِرُ أيَّ تِلْكَ السُّبُلِ يُوصِلُهُ إلى مَقْصِدِهِ.

وفِي تَيْسِيرِ وسائِلِ السَّيْرِ في الأرْضِ لُطْفٌ عَظِيمٌ؛ لِأنَّ بِهِ تَيْسِيرَ التَّجَمُّعِ والتَّعارُفِ واجْتِلابَ المَنافِعِ والِاسْتِعانَةَ عَلى دَفْعِ الغَوائِلِ والأضْرارِ، والسَّيْرُ في الأرْضِ قَرِيبًا أوْ بَعِيدًا مِن أكْبَرِ مَظاهِرِ المَدَنِيَّةِ الإنْسانِيَّةِ، ولِأنَّ اللَّهَ جَعَلَ في الأرْضِ مَعايِشَ النّاسِ مِنَ النَّباتِ والثَّمَرِ ووَرَقِ الشَّجَرِ والكَمْأةِ والفَقْعِ وهي وسائِلُ العَيْشِ فَهي سُبُلٌ مَجازِيَّةٌ. وتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ في سُورَةِ طه.

والِاهْتِداءُ: مُطاوِعُ هَداهُ فاهْتَدى. والهِدايَةُ حَقِيقَتُها: الدَّلالَةُ عَلى المَكانِ المَقْصُودِ، ومِنهُ سُمِّيَ الدّالُّ عَلى الطَّرائِقِ هادِيًا، وتُطْلَقُ عَلى تَعْرِيفِ الحَقائِقِ المَطْلُوبَةِ ومِنهُ ﴿إنّا أنْزَلْنا التَّوْراةَ فِيها هُدًى ونُورٌ﴾ [المائدة: ٤٤] . والمَقْصُودُ هُنا المَعْنى الثّانِي، أيْ رَجاءَ حُصُولِ عِلْمِكم بِوَحْدانِيَّةِ اللَّهِ وبِما يَجِبُ لَهُ، وتَقَدَّمَ في ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦] .

ومَعْنى الرَّجاءِ المُسْتَفادِ مِن (لَعَلَّ) اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ تَبَعِيَّةٌ، مَثَّلَ حالَ مَن كانَتْ وسائِلُ الشَّيْءِ حاضِرَةً لَدَيْهِ بِحالِ مَن يُرْجى لِحُصُولِ المُتَوَسَّلِ إلَيْهِ.